منذ سيطرة حركة «طالبان» على الحكم في أفغانستان، بعد صراعات عنيفة بين الحركة والجيش الأفغاني، أدت إلى خسائر فادحة، تصاعدت وتيرة الهجوم على الولايات المتحدة، ووصف البعض قرارها بالانسحاب العسكري من هذا البلد بالكارثي، خصوصاً مع مظاهر الخروج العشوائية التي ستظل عالقة في ذاكرة التاريخ لسنوات. وكان التعويل على تعهد «طالبان» بإجراء محادثات سلام وطنية، وعدم العودة إلى حكم «العصور الوسطى» نوعاً من السذاجة السياسية، أو ما يعرف بتفكير التمني، خصوصاً في ظل تاريخ الحركة المعروف، وسلوكها الإرهابي تجاه المجتمع الأفغاني.
لم تقف عواقب سيطرة «طالبان» على أفغانستان على إحكام قبضتها على المجتمع الأفغاني، وفرض سياسات اجتماعية جديدة، تنحو بالمجتمع في اتجاه الرجعية والتشدد، وغيرها من الأمور، بل إن الأوضاع الاقتصادية في البلاد، التي كانت هشة من الأساس، ازدادت سوءاً، وتصاعدت حدة المشكلات الإنسانية، خصوصاً مع وقف المساعدات الإنسانية من معظم الدول المانحة، لأسباب تتعلق بعدم الاعتراف الدولي بالحركة من جانب، والتفكير في استخدام المساعدات والمنح الدولية كأداة ضغط على «طالبان» لتعديل وتقويم سلوكها، سواء على مستوى الداخل أو في إطار التفاعلات الإقليمية والدولية.
ومن واقع الأشهر الماضية، لا يمكن القول إن الضغط الاقتصادي أو اختناق الوضع الاجتماعي أثر، حتى الآن على الأقل، في تغيير توجهات «طالبان»، ومازال المجتمع الأفغاني يدفع ثمن الاحتلال الأميركي للدولة، والخروج العشوائي منها.
انهيار الداخل
بحسب بيانات صندوق النقد الدولي 2021، تشير تقديرات إلى أن عدد السكان وصل إلى 39 مليون نسمة. يعيش ثلثا سكان أفغانستان تحت خط الفقر، فلا تتعدى حصة الفرد دولاراً ونصف دولار أميركي يومياً، فيما تبلغ نسبة البطالة في البلاد نحو 40%. في الوقت نفسه، تتربع أفغانستان على قمة الدول المنتجة للأفيون، ويزيد إنتاجها على إنتاج الدول الأخرى مجتمعة، على الرغم من إنفاق الحكومة ملايين الدولارات للقضاء على إنتاج المخدرات في البلاد. ومن ثم تعد أفغانستان واحدة من أكثر دول العالم فقراً، وأقلها نمواً وتطوراً، وتعيش الدولة على القروض والمساعدات الدولية، في ظل ظروف حياة قاسية وصعبة، لا تخلو من الصراعات الدامية، والاقتتال الداخلي، حيث يستشري الفساد والعنف.
وبناءً على ذلك، ستنهار أفغانستان إذا ما تم إيقاف مد يد العون والمساعدات الخارجية. فقد حذّرت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو) وبرنامج الغذاء العالمي، من سوء الأوضاع الإنسانية والمعيشية في أفغانستان، وبدأت تتصاعد حدة المخاوف مع بداية دخول فصل الشتاء، وتحول الجو إلى البرودة القارسة، واجتياح الجفاف العديد من المناطق. فنحو 95% من الأفغان لا يحصلون على الغذاء الكافي، ويواجه نحو 23 مليون مواطن المجاعة، بعد الفوضى التي شهدتها البلاد، إثر سيطرة حركة طالبان على مقاليد الحكم، فمن المتوقع أن تكون الأوضاع أكثر كارثية في الأشهر المقبلة.
تجميد المساعدات الدولية
من جانبها، تسعى «طالبان» إلى نيل الاعتراف الدولي، الذي يعتبر خطوة فارقة في الوضع الاقتصادي للدولة، خصوصاً مع عودة المساعدات الدولية، فضلاً عن دلالاتها السياسية. غير أن الموقف الدولي مازال يسوده التردد بشأن إعادة المساعدات والمنح، خصوصاً في ظل سيطرة الحركة على الحكم، والتخوف من عدم وصول هذه المساعدات إلى مستحقيها. كما أعلنت بعض الدول والمؤسسات الدولية ربط المساعدات بالتزام «طالبان» ببعض الحقوق المدنية والشروط، ومنها احترام حقوق المرأة، وعدم إعاقة خروج اللاجئين الأفغان، ومنع عودة الإرهاب.
وبناءً عليه، أعلن صندوق النقد الدولي تعليق المساعدات المخصصة لأفغانستان، كما علّقت برلين التي تعد من أكبر 10 مانحين لأفغانستان مساعداتها التنموية التي تقدر بـ430 مليون يورو، وتدرس كل من بريطانيا وفرنسا وأستراليا أيضاً خفض التعهدات.
في المقابل، دعت الحركة المجتمع الدولي إلى زيادة المساعدات للبلاد، وعدم تسييس المساعدات، مشددة على أنها ليست تنظيماً إرهابياً، وتعهدت بأنها لن تسمح بأن تصبح أفغانستان قاعدة للإرهابيين الذين قد يهددون الغرب، وأنها حريصة على إيصال المساعدات إلى المستحقين من الفقراء والنساء والأطفال من الشعب الأفغاني. مؤكدة أن أوضاع الدولة لن تشهد أي تحسن من دون المساعدات الخارجية.
إغاثات إقليمية
تعاملت دول أخرى مع الوضع الداخلي في أفغانستان من منطلق الإغاثة الإنسانية، بمنأى عن موقفها السياسي من الحركة، فقد بادرت دولة الإمارات العربية المتحدة بإرسال المساعدات، حيث قامت بإرسال طائرة مساعدات إنسانية طبية وغذائية إلى العاصمة كابول، وقد أعربت وزارة الخارجية الأميركية عن تقدير دعم الإمارات، خصوصاً أنها استهدفت سد الاحتياجات الأساسية والضرورية لآلاف الأسر الأفغانية، والفئات الأكثر ضعفاً، كالنساء والأطفال وكبار السن. وعلى غرار ما قامت به الإمارات، أرسلت باكستان الدقيق وزيت الطعام وإمدادات طبية طارئة.
وقد أوضح يينس لارك، من مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، أن الخدمات الأساسية في أفغانستان آخذة في الانهيار، وأن الغذاء والمساعدات الأساسية على وشك النفاد، وأن الاقتصاد في طريقه للتوقف مع نقص المخزون النقدي، إضافة إلى ازدياد مشاعر القلق بشأن حقوق النساء والفتيات. وتسعى منظمات إغاثية وبعض الحكومات إلى سد النقص الحاصل، حيث جمع مؤتمر المانحين الذي عُقد في جنيف مبلغاً قدره 606 ملايين دولار لإنقاذ حياة ملايين الأفغان خلال الأربعة أشهر الأخيرة من العام الجاري. وأوضحت الأمم المتحدة أن الأفغان بحاجة إلى الغذاء والدواء والخدمات الصحية ومياه الشرب والصرف الصحي.
• لم تقف عواقب سيطرة «طالبان» على أفغانستان على إحكام قبضتها على المجتمع الأفغاني، وفرض سياسات اجتماعية جديدة، تنحو بالمجتمع في اتجاه الرجعية والتشدد، وغيرها من الأمور، بل إن الأوضاع الاقتصادية في البلاد ازدادت سوءاً، وتصاعدت حدة المشكلات الإنسانية، خصوصاً مع وقف المساعدات الإنسانية، لأسباب تتعلق بعدم الاعتراف الدولي بالحركة من جانب، والتفكير في استخدام المساعدات كأداة ضغط على الحركة لتعديل وتقويم سلوكها.
• تعد أفغانستان واحدة من أكثر دول العالم فقراً، وأقلها نمواً وتطوراً، وتعيش الدولة على القروض والمساعدات الدولية، في ظل ظروف حياة قاسية وصعبة، لا تخلو من الصراعات الدامية، والاقتتال الداخلي، حيث يستشري الفساد والعنف.
مساعدات مجهولة المصير
يبدو أن أمر المساعدات لن يحسم في القريب المنظور، مع استمرار المخاوف من عودة تنظيم «القاعدة»، الذي ارتبط تاريخياً بحركة «طالبان»، وتصاعد هجمات تنظيم «داعش خراسان»، وعدم وجود ضمانات حقيقية من جانب الحركة، والتي بدورها تؤكد على استهدافها إقامة حكومة إسلامية، وليست إرهابية، وتتعهد باحترام حقوق الإنسان، في محاولة منها لتشجيع منظمات الإغاثة على مواصلة عملها، قائلة إن المساعدات محل ترحيب، ما دامت لا تُستخدم كوسيلة للتأثير السياسي على أفغانستان. وهذه الحالة الرمادية تهدد أوضاع 23 مليون مواطن يعيشون في خطر المجاعة، وتعيق أي احتمالات لإعادة بناء الدولة قريباً، وإزالة آثار الدمار الهائل الذي لحق بالمدارس والمؤسسات والبنية التحتية للدولة.