يجد المتتبع للأزمة اليمنية والصراع الناتج عن سيطرة ميليشيا الحوثيين على السلطة في اليمن منذ 21 سبتمبر 2014، أن الحرب كانت ما بين كر وفر في مناطق مختلفة من الجغرافيا اليمنية؛ لكن في الفترة الأخيرة زادت الميليشيا الانقلابية من تصعيدها، خاصة في إطار سعيها للسيطرة على محافظة مأرب الاستراتيجية والغنية بالنفط. إذ استكملت ميليشيا الحوثيين السيطرة على ما تبقى من محافظة البيضاء، وفي 21 سبتمبر الماضي سيطرت الميليشيا على مديريتي بيحان وعين ثم مديرية عسيلان في محافظة شبوة، وهو ما يعد التفافاً على محافظة مأرب من الجنوب والشرق. وبالتالي اتجهت ميليشيا الحوثيين وسيطرت على مديرية حريب بمحافظة مأرب، ثم أعلنت في 27 أكتوبر 2021 سيطرتها على مديرية الجوبة جنوب مأرب، وذلك بعد إعلانها السيطرة على مديرية العبدية والتنكيل بسكانها.
ومن ناحيتها، تخوض قوات الشرعية اليمنية معارك متواصلة ضد الحوثيين في مختلف جبهات القتال بمحافظة مأرب، وذلك منذ أن أطلقت الميليشيا الانقلابية في فبراير الماضي هجمات مكثفة على المحافظة، ضاربة بعرض الحائط الدعوات كافة لوقف هذا التصعيد، والذي جاء في ظل ظروف إقليمية ودولية مواتية زادت من شغف الميليشيا وفتح شهيتها للمزيد من السيطرة على الأرض وبسط نفوذها.
أسباب التصعيد:
هناك عدد من الأسباب التي ربما دفعت ميليشيا الحوثيين إلى تصعيد عملياتها العسكرية وما صاحب ذلك من انتهاكات في محافظة مأرب خلال الفترة الأخيرة، ومنها الآتي:
1- تراجع الضغوط الأمريكية: فالموقف الأمريكي بعد وصول جو بايدن إلى الرئاسة، ورفع ميليشيا الحوثيين من قائمة الإرهاب؛ قد منح الميليشيا حافزاً قوياً على التمدد والسيطرة، حيث اعتبرت ذلك ضوءاً أخضر لها لشن المزيد من الهجمات على مناطق الشرعية باليمن. وقد كان هذا الموقف الأمريكي مُحيراً، خاصة أنه تزامن مع إعلان الرئيس بايدن إنهاء الدعم الأمريكي لعمليات قوات التحالف في اليمن.
2- تقليل تحالف دعم الشرعية عملياته العسكرية في عدة جبهات: فقد سادت معظم الجبهات في اليمن حالة هدوء لا تخلو من مناوشات بسيطة، ما مكّن ميليشيا الحوثيين من نقل مقاتليها إلى جبهة مأرب؛ سعياً منها للتوسع وكسب المزيد من الأراضي المحيطة بهذه المحافظة الغنية بالنفط. وهذا الموقف أيضاً كان مُحيراً للمتابعين؛ كون تراجع العمليات العسكرية لتحالف دعم الشرعية أعطى مساحة للحوثيين للمناورة والتركيز على استهداف مأرب.
3- أهمية مأرب النفطية: تعتبر محافظة مأرب الغنية بالنفط هدفاً رئيسياً للميليشيا الحوثية؛ كونها مصدراً للثروة والمال. فقد قال القيادي الحوثي محمد البخيتي، في تغريدة على حسابه في تويتر، في فبراير الماضي، "إن الشعب اليمني يخوض معركة فاصلة يترتب عليها مصير الأمة، وجبهة مأرب هي الجبهة الفاصلة التي ستحدد مصير المعركة". وهذا يشير إلى أن السيطرة على مأرب لها أهمية قصوى وهدف أساسي للميليشيا بسبب منابع النفط.
4- الدعم الإيراني للحوثيين: فقد وضع ذلك الميليشيا الانقلابية تحت سيطرة الإملاءات الإيرانية، وتوظيف طهران الملف اليمني بما يخدم مصالحها من دون أي اعتبار لنزيف الدم اليمني، إضافة إلى الدعم العسكري واللوجستي الإيراني للميليشيا الحوثية بما في ذلك تطوير الصواريخ والطائرات المُسيّرة تحت إشراف خبراء إيرانيين ومن حزب الله اللبناني.
5- الفكر الميليشياوي للحكم: يعد هذا سبباً مهماً ودائماً وليس مؤقتاً في التصعيد الحوثي باليمن، والقائم على نظرة الميليشيا الانقلابية بأحقيتها في الانفراد بالحكم وحصر ذلك في من يسمون أنفسهم بـ "الهاشميين"، والادعاء أن هذا حق إلهي باعتبارهم "آل البيت". وهذه هي أهم عقدة تعيق عملية السلام في اليمن، حيث إن نظرة الحوثيين للسلام تقوم على انضواء كل الشعب تحت سلطتهم، من دون الإيمان بالمساواة بين أفراد الشعب والتداول السلمي للسلطة عن طريق الانتخاب.
السياقات الدولية والإقليمية:
تعد مواقف الدول الكبرى والأمم المتحدة أكثر تأثيراً من نظيرتها الإقليمية فيما يتعلق بالتصعيد الحوثي في اليمن، لاسيما في محافظة مأرب، خلال الفترة الأخيرة. ويمكن توضيح هذه المواقف والسياقات الدولية والإقليمية المصاحبة لهذا التصعيد الحوثي في الآتي:
1- تغير موقف الولايات المتحدة بعد فوز بايدن بالرئاسة: كان لهذا التغير تأثير قوي على الملف اليمني، حيث أظهر تعاطفاً مُعلناً مع ميليشيا الحوثيين، وتأكد في سرعة رفع الحوثيين من قائمة الإرهاب، إضافة الى التخلي عن دعم التحالف العربي. وزاد هذا الموقف الأمريكي الأمور تعقيداً؛ كون المُعرقل لعملية السلام في اليمن هي ميليشيا الحوثيين، نظراً لرؤيتها المزعومة عن حقها الإلهي في السلطة دون غيرها، وهو ما يتعارض مع قواعد العدالة الإنسانية والمساواة بين البشر، ويتعارض مع حقوق الإنسان والمواثيق الدولية.
وعلى الرغم من هذا الموقف المُعلن للميليشيا الحوثية وتطبيق نظريتها في الحكم خلال فترة السنوات السبع الماضية بعد انقلابها على السلطة الشرعية باليمن؛ فقد كان الأحرى بالولايات المتحدة أن تمارس الضغط على الحوثيين لتغيير نظرتهم في حقهم في الانفراد بالحكم، بدلاً من أن تساعدهم في التمادي والتصعيد. كما أن دعوة الولايات المتحدة لإحلال السلام في اليمن والذي كان من أولويات الرئيس بايدن، يبدو أنه توجه فاشل، والدليل على ذلك أنه مر نحو عام كامل على هذه الدعوة دون تحقيق أي تقدم في هذا المسار، بالرغم من تعيين مبعوث أمريكي خاص لليمن، والذي قام بعدة جولات إقليمية في محاولة لإيجاد حل سياسي للأزمة اليمنية، وذلك من دون وجود أي دور فعلي ضاغط لحل الأزمة وفق قرارات الأمم المتحدة.
2- تماهي دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا في الدعوة إلى إجراء عملية سلام باليمن: يأتي هذا الموقف بالرغم من علم هذه الأطراف الأوروبية يقيناً أن ميليشيا الحوثيين هي الطرف المُعرقل للحل؛ نظراً لفكرها وارتباطها بالمشروع الإيراني في المنطقة. وبالتالي نجد أن كل الدعوات التي نسمعها بين الحين والآخر للتوجه نحو السلام، لا ترافقها أية ضغط على الميليشيا الانقلابية للحد من تصعيدها المُعلن على مختلف الجبهات، وتحديداً في مأرب. وهناك تجربة اتفاق ستوكهولم في ديسمبر 2018، والذي خرقت ميليشيا الحوثيين الكثير من بنوده.
3- الموقف الأممي القائم على إدارة الصراع اليمني وليس السعي لإيجاد حل بالضغط على الطرف المٌعرقل: كان لذلك تداعياته السلبية على استمرار ميليشيا الحوثيين في سعيها الدؤوب إلى التوسع والسيطرة من دون مراعاة لنزيف الدم اليمني، حيث نجد أن التحالف العربي وقوات الشرعية خلال العامين الماضيين يديرون الحرب في إطار صد هجمات الحوثيين في الجبهات كافة، ولم يكن للتحالف أي مبادأة في شن هجوم على مواقع الحوثيين على خطوط المواجهة. وقد شجع هذا الموقف الأممي، ميليشيا الحوثيين ومن ورائها إيران، على شن هجماتها في الزمان والمكان اللذين تحددانه، في ظل غياب موقف أممي قوي وجاد للضغط على الطرف المُعرقل، وذلك بالرغم من أن اليمن يعيش منذ عام 2015 تحت الفصل السابع الذي يجيز للأمم المتحدة اتخاذ التدابير التي من شأنها إنهاء الصراع، بما في ذلك استخدام القوة ضد الطرف الرافض لإعادة السلطة الشرعية الدستورية وفقاً للمبادرة الخليجية، ومخرجات الحوار الوطني، وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة خاصة القرار رقم 2216 الصادر بتاريخ 14 أبريل 2015.
وفي هذا السياق، جاء تعيين هانس غروندبيرغ كمبعوث رابع للأمين العام للأمم المتحدة في اليمن، ليؤكد فشل المنظمة الدولية في إيجاد حل للأزمة اليمنية. كما أن تعدد المبعوثين الأمميين يشير إلى ضعف دور الأمم المتحدة، واختلاف مواقف الدول الكبرى، خاصة الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن؛ ما ساهم في خلق فجوة كبيرة بين دور الأمم المتحدة الواقعي لإحلال السلام والحفاظ على الأمن والسلم الدوليين وفقاً لبنود ميثاقها وبين مواقف الدول الكبرى منفردة، وهو ما زاد من ضعف المنظمة الدولية وتلاشي دورها على واقع الحال.
4- رفض مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في 7 أكتوبر 2021 تمديد ولاية مجموعة الخبراء في اليمن: جاء هذا القرار ليؤكد تماهي بعض خبراء وممثلي الأمم المتحدة مع استمرار الوضع الإنساني المتردي في اليمن، وعدم ممارسة أية ضغوط أو اتخاذ مواقف تجاه الميليشيا الحوثية للتخفيف من المعاناة التي تواجه عموم الشعب اليمني؛ بسبب نهبها للمساعدات الإنسانية أو فرض إتاوات ومبالغ مالية على أفراد الشعب كافة تحت مسميات مختلفة سواء مجهود حربي أو فرض المساهمة الإجبارية في تكاليف الأعياد والاحتفالات الدينية بما يدعم مفهوم "الولاية الحصرية" في ما يُسمى بـ "آل البيت".
5- استمرار الحوار السعودي – الإيراني: تشير التقارير إلى انعقاد 4 جولات مشاورات حتى الآن بين المملكة وطهران. وعلى الرغم من أن هذه المشاورات لم تؤت ثمارها حتى تاريخه؛ لكنها أعطت مؤشراً خاطئاً لميليشيا الحوثيين مفاده أن السعودية بدأت تفكر في السلام، وأن هذا السلام يشير إلى اعتراف الرياض باستحالة هزيمة ميليشيا الحوثيين عسكرياً، حسب مزاعم الأخيرة، وذلك بالرغم من أن الواقع يشير إلى أن المملكة ما زالت متشائمة ومتحفظة جداً على محادثاتها مع إيران.
6- ارتباط أزمة اليمن بمفاوضات إيران النووية مع الغرب: لا يبدو أن طهران ستقدم تنازلات موضوعية في هذه المحادثات أمام لغة الرئيس بايدن المائلة إلى تخفيف التصعيد ضدها، كما أن رسائل بايدن تجاه إيران والحوثيين معاً جاءت متناغمة وبشكل يصب في مصلحة طهران وتمتين علاقاتها بالحوثيين. وبالتالي فإن الميليشيا الانقلابية فهمت هذا التوجه الأمريكي بأنه يأتي في إطار ربط الأزمة اليمنية بمباحثات إيران النووية، لذا واصلت تصعيد هجومها على مأرب، وكذلك إرسال طائراتها المُسيّرة في هجمات متعاقبة داخل العمق السعودي، وذلك في إطار زيادة ضغوطها بتوجه ودعم إيراني لما يمثله ذلك من دعم للموقف الإيراني في مباحثاتها مع الولايات المتحدة والقوى الدولية.
في إطار ما تقدم، يمكن القول إن تصعيد ميليشيا الحوثيين في جبهة مأرب على مدار الأسابيع الماضية جاء نتيجة تماهٍ دولي ورسائل قد تكون خاطئة وربما مقصودة من دول كبرى وإقليمية، مع التأكيد على أن إحلال السلام في اليمن لن يتأتى لا بسقوط مأرب بيد الميليشيا الحوثية ولا بسقوط غيرها من المناطق. فمفتاح السلام هو تخلي الحوثيين عن عنادهم ومراوغتهم، وعن فكرة الحق الإلهي في الحكم، واستبعاد مفهوم الولاية، والإيمان بالمساواة المُطلقة بين أبناء اليمن على مختلف مشاربهم؛ لكن من دون ذلك ستستمر حرب اليمن ليس لسنوات قادمة بل لعقود من الزمن.