شهدت محافظة ديالى شرق العراق، في 26 أكتوبر، عدداً من الهجمات الإرهابية، التي نفذها تنظيم داعش، وخلفت حوالي 15 ضحية بين قتيل وجريح، أغلبهم من الشيعة. وفي المقابل، شن مسلحون تابعون لميليشيات الحشد هجوماً استهدف سكان أهالي قرية سنية في المحافظة نفسها، كما قامت عشائر شيعية بعمليات انتقامية ضد قرى سنيّة في شمال شرق بعقوبة انتقاماً من مقتل أبنائهم على يد التنظيم.
دلالات هجمات داعش:
تتمثل أهم أسباب ودوافع هذه الحوادث الطائفية الأخيرة في محافظة ديالى العراقية في الآتي:
1- استمرار الثغرات الأمنية: على الرغم من عدم توقف العمليات العسكرية في مناطق ديالى، فإنها غالباً ما تكون محدودة الفاعلية والتأثير بسبب ضعف المعلومات الاستخباراتية وافتقار العناصر الأمنية للوازم اللوجستية كالمناظير الليلية والكاميرات الحرارية.
كما يستغل داعش انفتاح ديالى على جبال حمرين، والتي تمتد إلى محاظفتي صلاح الدين وكركوك، وهو ما يوفر ملاذاً آمناً لداعش، لتنفيذ عملياته الإرهابية، ثم الاختباء في هذه الجبال، وهو ما يجعل من الصعب على القوات الأمنية العراقية اجتثاث التنظيم نهائياً من المنطقة.
2- سعي داعش لإثارة الاحتقان الطائفي: يستغل تنظيم داعش التجاذبات السياسية في العراق عقب إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وذلك من خلال استهداف الشيعة لدفع ميليشياتهم إلى الرد، أو حتى التورط في عمليات تهجير طائفي، ومن ثم زيادة الاحتقان الطائفي المذهبي، وإيجاد البيئة المناسبة لتجنيد المزيد من الأنصار للتنظيم الإرهابي.
ويبدو أن التنظيم نجح في تحقيق جانب من أهدافه. ففي أعقاب هذا الهجوم، شهدت قرى نهر الإمام شمال شرق بعقوبة بمحافظة ديالى خلال الأيام الماضية نزوحاً جماعياً للأهالي باتجاه البساتين والمناطق المجاورة عقب قيام عشائر شيعية بعمليات انتقامية ضد قرى سنية في شمال شرق بعقوبة. وأطلقت كذلك قذائف الهاون ضد المناطق السنية، مما أدى إلى نزوح نحو 227 أسرة من قضاء المقدادية خلال الأيام الماضية.
كما بدأت الأصوات ترتفع باتجاه البدء بعمليات تغيير ديموغرافي مع إمكانية استنساخ تجربة "جرف الصخر" في محافظة بابل (100 كيلومتر جنوب بغداد)، والتي جرى تهجير أهلها السنة، نظراً لأنها تجاور محافظتين مقدستين لدى الشيعة، وهما كربلاء والنجف.
وتعد مشكلة التهجير والتغيير الديمغرافي من المشاكل التي تعانيها المحافظة، والتي عجزت الحكومات الاتحادية المتعاقبة عن إيجاد حلول جذرية لها منذ عام 2003، إذ تورطت فصائل شيعية في تهجير بعض من سكانها السنة. نفذت قوات الحشد الشعبي بمشاركة عدد من العشائر الشيعية في المحافظة حملاتِ تهجيرٍ في القرى التابعة لقضاء المقدادية ومركز ناحية أبي صيدا والقرى المحيطة بها، وتفجير عشرات المساجد والمدارس الدينية. ووقفت الحكومات السابقة عاجزة عن اتخاذ أي إجراءات لوقف هذه العمليات.
وتجدر الإشارة كذلك إلى أن الفصائل الشيعية، خاصة منظمة بدر بزعامة هادي العامري الموالي لإيران، منعت عودة النازحين من المحافظة من أبناء الطائفة السنية، والمقيمين في مخيمات في كركوك وأربيل والسليمانية، رغم مرور وقت طويل على تحرير مناطقهم من تنظيم داعش.
3- انتقام داعش من الأجهزة الأمنية: يحاول تنظيم داعش من خلال هجماته الإرهابية الأخيرة الثأر من استمرار العمليات العسكرية الأمنية ضد التنظيم خلال الأشهر الأخيرة، والتي أسفرت إحداها عن سقوط سامي جاسم مسؤول المالية، ونائب زعيم تنظيم داعش السابق أبو بكر البغدادي، في قبضة القوات العراقية، إثر عملية استخباراتية نوعية نفذت خارج العراق وانتهت بإلقاء القبض عليه وإعادته للعراق.
4- استثمار إيراني محتمل: كان حلفاء إيران من أكبر المستفيدين من سيادة المناخ الطائفي في أعقاب طرد العراق لداعش من المناطق الواسعة التي كان يسيطر عليها في شمال البلاد في عام 2018، وهو ما تمت ترجمته في انتخابات 2018 البرلمانية، والتي أسفرت عن احتلال ائتلاف الفتح، الممثل لميليشيات الحشد الشعبي التي شكلتها إيران لمقاتلة تنظيم داعش، المرتبة الثانية في هذه الانتخابات، بواقع 48 مقعداً.
ومع اندلاع احتجاجات تشرين 2019، والتي جاءت انتفاضة ضد النفوذ الإيراني على بغداد وطبقة السياسيين المرتبطين بالحرس الثوري الإيراني، انتكس نفوذ هذه الجماعات، وهو ما وضح في الانتخابات البرلمانية الأخيرة لعام 2021، وبالتالي، أدركت إيران والقوى المرتبطة بها أن سيادة المناخ الطائفي يكفل لها ولحلفائها نفوذاً محتملاً.
كما أنه اندلاع عمليات القتل الطائفي سوف يسبب إحراجاً واضحاً لحكومة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، إذ إنه سيظهرها بمظهر العاجز عن ضبط الأوضاع الأمنية، ومن ثم يعزز الاعتماد على ميليشيات الحشد الشعبي ويرفع رصيدها مجتمعياً. ولذلك سارعت الميليشيات المرتبطة بإيران لتعميق الاحتقان الطائفي عبر تنفيذ هجمات وعمليات تهجير طائفي بحق السنة.
ومن جهة أخرى، يلاحظ أن هناك مؤشرات سابقة على تورط إيران في دعم داعش. ففي يونيو الماضي، اعترف محمد حسين، مسؤول إدخال السيارات المفخخة ونقل عائلات داعش من سوريا إلى العراق، عن تنسيق الميليشيات الإيرانية والحرس الثوري مع داعش على الحدود السورية – العراقية، وهو ما يعني أن إيران قد تلجأ لتوظيف ورقة الإرهاب، إذا ما خرجت الحكومة العراقية عن نفوذها ميليشياتها، وذلك عبر دفع التنظيم لتصعيد عملياته الإرهابية، ثم تقديم الميليشيات الشيعية باعتبارها القوى الوحيدة القادرة على مواجهته.
ومن جهة ثالثة، فإن إيران قد تسعى لتوظيف هذه الحوادث الطائفية من أجل القيام بموجبة تهجير طائفية ضد العرب السنة، خاصة أن محافظة ديالى تشترك مع إيران بحدود برية تمتد لمسافة 240 كيلومتراً، وتمثل بوابة عبور الزائرين إلى المقدسات الشيعية في العراق وسوريا، كما أنها تمثل ممراً برياً لعبور الأسلحة والمقاتلين الإيرانيين إلى سوريا، أو إلى العراق.
إحباط التوظيف الطائفي:
أدركت حكومة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي خطورة تطورات الأوضاع في ديالى، ومحاولات استثمارها من قبل داعش والميليشيات الشيعية، ولذلك سعت لتبني عدة إجراءات لمنع الاحتقان الطائفي، وهو ما وضح في التالي:
1- تحقيق التهدئة المجتمعية: أوفد الكاظمي قادة سياسيين وعسكريين كباراً رابطوا لأيام عدة في تلك المنطقة الملتهبة لتعزيز الأمن وإجراء حوارات مع المجتمع المحلي والعشائري هناك، بهدف منع التصعيد الطائفي.
2- تعزيز التدابير الأمنية: أقدم الكاظمي على تغيير قائد شرطة المحافظة وأرسل قوات كبيرة إلى هناك لفرض الأمن ومنع عمليات النزوح، حيث قامت قوات الأمن العراقية بفرض حظر تجوال ليلي في قضاء المقدادية بمحافظة ديالى سعياً لاحتواء التصعيد الطائفي، ووقف عمليات التهجير.
3- تبني خطاب وطني: دعا الكاظمي في 1 نوفمبر طلاب المدارس إلى عدم الاستماع إلى عناوين الطائفية والعنصرية، مؤكداً أن العراق يمر بظروف صعبة، لكن عاد وأكد أن الشعب العراقي قوي، ويسعى للنهوض من المحنة، كما طالب أطفال المدرسة بعدم الاستماع إلى الذين يحاولون أن يفرقوا بينهم وتمسكوا بعراقيتكم، كما أكد أنهم جميعاً عراقيون، وكلهم سواسية لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات. ولعل هذه الرسالة، والتي جاءت في أعقاب أحدات ديالى الطائفية، تؤكد على أن الكاظمي حريص على منع توظيف ورقة الطائفية لتحقيق أغراض سياسية ضيقة.
وفي الختام، تكشف تطورات الأحداث في بعقوبة إلى وجود قوى سنية وشيعية تدفع لإحياء الطائفية في العراق في محاولة يائسة لإحباط نتائج الانتخابات العراقية، والتي كشفت بوضوح عن اتجاه العراقيين لمكافأة الأحزاب الوطنية على نظيرتها الطائفية، وهو ما يؤشر على أن الحكومة العراقية لاتزال تواجه تحديات صعبة في جهودها الرامية إلى التعافي من أثار الحروب السابقة، ومحاربة محاولات إعادة إحياء الطائفية.