أعلنت مفوضية الانتخابات العراقية النتائج الأولية للانتخابات البرلمانية المبكرة التي عقدت في 10 أكتوبر 2021، والتي كشفت عن تراجع واضح للأحزاب السياسية الشيعية المقربة من إيران، وتصدر التيار الصدري النتائج بحصوله على 73 مقعداً، وذلك في مؤشر على أن هذه الانتخابات مثلت قطيعة مع الانتخابات العراقية السابقة.
دلالات النتائج الأولية:
كشفت الانتخابات البرلمانية العراقية الأخيرة عن نجاحها في التعبير عن توجهات الشعب العراقي الرافض للأدوار الإقليمية السلبية في الشأن الداخلي. ويمكن توضيح أهم دلالات النتائج الأولية لهذه الانتخابات في التالي:
1- تراجع حلفاء إيران: ترجمت الانتخابات البرلمانية الأخيرة الغضب الشعبي العراقي من إيران، والطبقة السياسية المرتبطة بها، وهو ما وضح من مراجعة نتائج هذه الأحزاب، والتي تراجعت مقاعدها بشكل واضح مقارنة بالانتخابات السابقة.
فقد حصل "تحالف الفتح"، المقرب من إيران، على 14 مقعداً فقط من إجمالي 329 مقعداً هي إجمالي مقاعد البرلمان العراقي، وذلك بعد أن حصل على 47 مقعداً في انتخابات 2018، وهو ما يرجع بشكل أساسي إلى اتهامه من جانب "متظاهري تشرين" بتورط الفصائل المسلحة الموالية له في تصفية المتظاهرين، بالإضافة إلى ارتباطه بطهران.
وتأكد هذا المعنى مع فشل فالح الفياض، رئيس هيئة الحشد الشعبي وزعيم "تحالف العقد الوطني"، في الحصول على أي مقعد في الانتخابات العراقية، خاصة أن الفياض كان ممن دعوا قبيل الانتخابات العراقية إلى استلهام تجربة الحرس الثوري الإيراني وتطبيقها عراقياً.
بينما مُني "تحالف قوى الدولة"، والمكون من "تيار الحكمة الوطني" بقيادة عمار الحكيم، و"ائتلاف النصر" بقيادة رئيس الوزراء السابق، حيدر العبادي، بخسارة فادحة، حيث لم يحصل سوى على مقعدين أو 3 مقاعد على أفضل تقدير، وذلك بعد أن حصل العبادي والحكيم على 42 و19 مقعداً على التوالي في انتخابات 2018.
ولعل الاستثناء الوحيد من هذه القاعدة كان نوري المالكي، والذي تمكن من زيادة مقاعده من حوالي 26 مقعداً في انتخابات 2018 إلى 37 مقعداً في الانتخابات الحالية. ومع ذلك، فإن إجمالي عدد أصوات الكتل الشيعية المقربة من إيران قد بلغ حوالي 54 مقعداً فقط. ويعني ما سبق أن حلفاء إيران الثلاثة، حتى في حالة تحالفهم معاً لن يشكلوا الكتلة الأكبر في البرلمان، ومن ثم اختيار رئيس الوزراء القادم، بل عليهم البحث عن تحالفات أخرى مع قوى غير شيعية.
2- تصدر "التيار الصدري": تمكن مقتدى الصدر من تحقيق مكانة متقدمة في الانتخابات البرلمانية العراقية، وهو ما يرتبط بصورة أساسية بالدور الذي لعبه في الدفاع عن "متظاهري تشرين"، والذين خرجوا للتعبير عن رفضهم للنفوذ الإيراني والفساد الحكومي. ولذا فقد تمكن "التيار الصدري" من الحصول على 73 مقعداً بعد أن حصل على 54 مقعداً في انتخابات عام 2018.
ومن جهة أخرى، حققت الكتل المنبثقة من تظاهرات "تشرين"، مثل "امتداد" ومرشحون مستقلون آخرون محسوبون عليها، نحو 15 مقعداً. فيما حققت كتلة جديدة تُعرف بـ "إشراقة كانون" (غير معروفة القيادة) نحو 6 مقاعد. وبالتالي فإن القوى المناوئة للنفوذ الإيراني في العراق حصدت نحو 21 مقعداً إضافياً، وهو ما يزيد من وزن القوى الشيعية المُعادية صراحة لطهران بنحو 94 مقعداً.
3- هزيمة الأحزاب المتحالفة مع تركيا: لم تحصل "قائمة متحدون" التي يتزعمها رئيس البرلمان الأسبق، أسامة النجيفي، والمقرب من تركيا، على أي مقاعد في هذه الانتخابات. وكذلك انتكس الحزب الإسلامي العراقي، الذراع السياسية للإخوان المسلمين، والذي كان يحصد نسبة من المقاعد في أغلب المحافظات العراقية السنية.
أما "تحالف عزم" السُني، بقيادة رجل الأعمال خميس خنجر، والذي ضم فصائل مسلحة موالية لإيران، فلم يحقق مكانة متقدمة في الانتخابات، إذ حصل على نحو 15 مقعداً فقط.
4- تسيد تحالف "تقدم" المشهد السُني: حصل تحالف "تقدم" بقيادة محمد الحلبوسي، رئيس البرلمان العراقي، على نحو 38 مقعداً، وهو ما يرتبط بنجاحه في تحقيق حملة عمرانية كبيرة في محافظة الأنبار وخلال وقت قياسي، أثناء إدارته للمحافظة. كما أن الحلبوسي بدا مناوئاً لكل من إيران وتركيا، إذ طالبهما بعدم التدخل في الشؤون العراقية، ونجا من محاولة لإقالته من منصبه كرئيس للبرلمان العراقي في أكتوبر 2020، حين سعى أسامة النجيفي وخميس الخنجر، المقيم في تركيا، ورئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي للإطاحة بالحلبوسي من منصبه؛ بسبب تمسكه بمقترح الدوائر المتعددة لكل محافظة عراقية، خلال الانتخابات.
5- تفوق "الحزب الديمقراطي الكردستاني": تصدر "الحزب الديمقراطي الكردستاني" بقيادة مسعود بارزاني المشهد السياسي في إقليم كردستان، حاصداً 32 مقعداً، مقابل 15 مقعداً لـ "الاتحاد الوطني الكردستاني"، وفقاً للنتائج الأولية. وبينما فقدت حركة "التغيير" جميع مقاعدها، وهو ما يعني أن التحالف الذي تم بين الاتحاد والتغيير لم يمكنهما من زيادة تمثيلهما على المستوى الاتحادي. كما برزت قوة أخرى هي "الجيل الجديد" في السليمانية بحصولها على 9 مقاعد.
6- نجاح أهداف "تظاهرات تشرين": على الرغم من أن القوى الداعمة للاحتجاجات العراقية في المحافظات الجنوبية الرافضة للنفوذ الإيراني لم تنجح في بلورة نفسها في حزب سياسي متماسك، فإنها نجحت في النهاية في التأثير على نتائج الانتخابات العراقية الحالية على أكثر من مستوى.
وقد وضح ذلك في التراجع الواضح لأغلب الكتل الشيعية المرتبطة بإيران. كما أن هذه الحركة أعادت التأكيد على الروح الوطنية العراقية، وأهمية سيادة وصيانة استقلال العراق في مواجهة التدخلات الأجنبية، والتي لم تقتصر على إيران، ولكنها امتدت كذلك إلى تراجع حظوظ الأحزاب العراقية المرتبطة بتركيا على نحو ما سلف توضيحه.
7- تأثير النظام الانتخابي الجديد: لعب النظام الانتخابي الجديد دوراً مهماً في هذه الانتخابات، فقد اتبع العراق في هذه الانتخابات نظام الدوائر الانتخابية المتعددة الجديد، والذي قسم البلاد إلى 83 دائرة انتخابية، توزع على عدد المحافظات وبحسب نسبها السكانية، ووفق نظام الاقتراع الأحادي الذي يصوت فيه الناخب لمرشح واحد فقط.
وكان النظام الانتخابي المعمول به في السابق هو نظام القوائم النسبية، والذي ساهم في دعم الأحزاب السياسية، وشهد في بعض الأحيان دعم رجال الدين لقائمة انتخابية معينة. أما في هذه الانتخابات، فإن النظام الجديد دعم حظوظ المستقلين على حساب الأحزاب، خاصة إذا ما كانت هذه الشخصيات تتمتع بالكفاءة والنزاهة، كما أنه قلل من توظيف الاعتبارات الطائفية عند التصويت، وركز اهتمام الناخبين على قضايا مهمة مثل الخدمات، والتي كانت أحد الأسباب في اندلاع "تظاهرات تشرين".
مسارات قادمة:
سوف تترك هذه الانتخابات تداعيات واضحة على المشهد السياسي في العراق، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:
1- إعلان الصدر توجهاته الحكومية: أعلن التيار الصدري أحقيته في تشكيل الحكومة القادمة، خاصة بعدما حصل على المرتبة الأولى في هذه الانتخابات، كما أنه بدأ في الكشف عن توجهاته حال نجاحه في تشكيل الحكومة. فقد أكد مقتدى الصدر، مساء يوم 11 أكتوبر الجاري، أنه "سينهي استخدام السلاح خارج إطار الدولة"، وذلك في إشارة إلى ميليشيات إيران، والتي كانت تناصب التيار الصدري العداء.
وتجدر الإشارة إلى أن قاسم سليماني، رئيس فيلق القدس السابق التابع للحرس الثوري الإيراني، ومؤسس هذه الميليشيات، سبق وأن هدد الصدر بالقتل، وهو ما يكشف عن رصيد العداء بين الجانبين، خاصة أن التيار الصدري يعبر عن التيار الوطني العراقي، ويرفض التماهي مع الأجندة الإيرانية.
وقد تأكد هذا المعني في إعلان الصدر "ترحيبه بكل السفارات" من دون استثناء، في تحدٍ واضح لنفوذ طهران، والتي كانت تسعى إلى قطع الطريق أمام عودة العراق لمحيطه العربي، وكانت القوى المرتبطة بها تسعى لعرقلة انفتاح رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، على الدول العربية.
2- تلويح ميليشيات إيران بالسلاح: كانت إيران أكبر الخاسرين في الانتخابات الحالية، وهو ما وضح في الزيارة التي قام بها قائد فيلق القدس الإيراني، إسماعيل قاآني، إلى بغداد، صبيحة إعلان نتائج الانتخابات، والتي مثلت محاولة من جانب لطهران لتقليص خسائرها في العراق عبر محاولة التنسيق مع القوى الشيعية المحسوبة عليها، في محاولة للعودة إلى المشهد السياسي من جديد، أو محاولة الطعن على نتائج الانتخابات، أو توظيف سلاح الميليشيات.
وقد بدأت القوى المحسوبة على إيران في السير على أحد هذين الخيارين، وهما التشكيك في نزاهة الانتخابات، والتلويح بالسلاح، وهو مؤشر إضافي على تراجع فرص حلفاء طهران في تشكيل الحكومة القادمة، واحتمالية لجوئهم إلى الصدام مع القوى الأخرى.
فقد أعلن "الإطار التنسيقي" لقوى شيعية، ومن بينها "تحالف الفتح" و"ائتلاف النصر"، في بيان رفضه نتائج الانتخابات، بالإضافة إلى إعلان اتخاذه "جميع الإجراءات المتاحة لمنع التلاعب بأصوات الناخبين"، من دون أن يوضح ما إذا كان يقصد من ذلك الطعن أمام المفوضية، أم اللجوء لخيار توظيف سلاح الميليشيات.
وتزامن موقف "الإطار التنسيقي" مع إعلان أبو علي العسكري، المتحدث باسم كتائب حزب الله العراقية؛ إحدى فصائل الحشد الشعبي الأكثر نفوذاً، في بيان، أن "الإخوة في الحشد الشعبي هم المستهدفون الأساسيون... وعليهم أن يحزموا أمرهم وأن يستعدوا للدفاع عن كيانهم المقدس".
ولا شك أن الانتخابات قد رفعت الغطاء الشعبي عن الميليشيات، وكشفت توجهات الشعب العراقي الرافض لوجود تشكيلات خارج إطار الدولة، وهو ما قد يدفع بعض القوى إلى المقاومة، غير أنها هذه المرة سوف تكون في مواجهة مع إرادة الشعب العراقي.
3- تعزيز فرص الكاظمي والصدر في الحكومة الجديدة: صبت نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة في صالح رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، ومقتدى الصدر. وعلى الرغم من أن الكاظمي لم يخض هذه الانتخابات، فإن هناك عدداً من المؤشرات التي ربما تكشف عن وجود تحالف ضمني بين الكاظمي والصدر، وعن إمكانية اتجاه الأخير لترشيح الكاظمي للحكومة، خاصة في ظل التوافق بينهما، سواء فيما يتعلق بضرورة حصر السلاح بيد الدولة، أو أهمية النهوض بالخدمات المقدمة للمواطنين، أو الانفتاح على المحيط العربي، والتخلص من النفوذ الإيراني السلبي على بغداد.
ومن أجل تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، فإنه سوف تكون هناك حاجة لبناء تحالف واسع، وتتمثل القوى المرشحة لتشكيل الحكومة القادمة في "التيار الصدري" (73 مقعداً)، وتحالف "تقدم" بقيادة الحلبوسي (38 مقعداً)، و"الحزب الديمقراطي الكردستاني" (32 مقعداً)، أو الأحزاب الكردية مجتمعة (64 مقعداً). وتمتلك القوى الثلاث الأولى مجتمعة نحو 143 مقعداً، أما إذا دخلت القوى الكردية كافة، فإن عدد مقاعد هذا التحالف سيرتفع إلى 175 مقعداً، وهو ما يتجاوز عدد 165 مقعداً اللازمة لتشكيل الحكومة الجديدة.
كما قد يكون هناك خيار آخر أمام "التيار الصدري"، وهو التحالف مع "تقدم" و"الحزب الديمقراطي الكردستاني"، إلى جانب الكتل المنبثقة عن "تظاهرات تشرين" وهي تمتلك حوالي 21 مقعداً، بما يجعل هذا الائتلاف يجمع حوالي 164 مقعداً، أي أنه سوف يحتاج إلى مقعد واحد فقط لتشكيل الحكومة الجديدة عبر هذا المسار، وبشرط ظهور النتائج النهائية للانتخابات، وتأكد حصولهم على أعداد المقاعد التي تم الإعلان عنها حسب النتائج الأولية.
في الختام، مثلت الانتخابات البرلمانية العراقية مؤشراً واضحاً على اتجاه الناخب العراقي لإعلاء الانتماء الوطني على الطائفي، وذلك في تطور مهم له دلالة تكشف عن أن رهان الأطراف الإقليمية، وفي مقدمتها إيران، على السياسات الطائفية لن تكفل لها الحفاظ على نفوذها داخل العراق، وأن بغداد سوف تمضي قُدماً لاستعادة سيادتها. وعلى الرغم من أن هذه الانتخابات مثلت بداية هذا الطريق، فإنه لايزال أمام العراق الكثير من الخطوات التي سيقطعها، والتي يأتي في مقدمتها عرقلة أدوات إيران في الداخل العراقي.