لن تفلح طريقة رد الفعل أو الحرب الدفاعية، في وضع حد للإرهاب، إن لم يكن بالقضاء عليه قضاء مبرم، فعلى الأقل تقليل خطره إلى أدنى حد وتعويق وجوده إلى أقصى مدة ممكنة، وهي مسألة تبدو ملحة لأي دولة وأي مجتمع يواجه أفعال الإرهابيين من قتل وتخريب وتدمير. والحرب الناجعة في مواجهة الإرهابيين يجب أن تعتمد على "المبادأة" أو "المبادرة" التي تُمكن الدول من مداهمة الإرهاب في طريقة تفكيره، ووسائل تدبيره، على حد سواء، بما يشتت جهد الإرهابيين، ويحبط أعمالهم، ويسهل عملية الوصول إليهم والقبض عليهم.
أدوات تفكير جديدة:
لقد سمعنا وعوداً كثيرة من كبار الساسة في العالم عن استئصال الإرهاب، لكنها لم تُجد نفعاً، فلا تزال ترن في الآذان كلمة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش وهو يقول عقب أحداث 11 سبتمبر 2001: "سنخرجهم من جحورهم وسنسحقهم"، لكن بعد وعيده هذا، اتسعت رقعة الإرهاب إلى درجة أن استطاع، لأول مرة في التاريخ المعاصر، من اقتطاع أرض من دولتين وإقامة "دولة" مزعومة عليها.
ويدل استفحال الإرهاب على أن الطريقة التقليدية لمواجهته لم تعد كافية، وتفرض ضرورة استعمال بعض الخيال في خطط مكافحة الإرهاب، وهو ما يعني أمرين أساسيين؛ هما أن نعرف كيف يفكر الإرهابيون، ونضع تصورات (قبلية) لمواجهة تفكيرهم، والأمر الآخر أن نعرف كيف يدبر الإرهابيون ونضع الخطط المسبقة التي تمنعهم من تنفيذ عملياتهم الوحشية.
وهذان الأمران مرتبطان إلى حد بعيد بتوفير معلومات وافية عن التنظيمات الإرهابية، من حيث تاريخ نشأتها وأفكارها التي تتباين في بعض التفاصيل من تنظيم إلى آخر وإن تطابقت في الرؤية العامة، وأماكن توزعها وتمركزها ونشاطها، وكذلك الشخصيات البارزة في هذه التنظيمات، وخلفياتها التعليمية وشبكة علاقاتها البينية، وما إذا كانت هناك ارتباطات مع أجهزة استخبارات أجنبية من عدمه، وكل العمليات الإرهابية السابقة التي شارك أعضاء التنظيم فيها، ومدى تقييم التنظيم لنتائج هذه العمليات.
الخيال وتوقع الإرهابيين:
إن هذه المعلومات ستجعل بوسعنا أن نضع عشرين سيناريو، في الحد الأدنى، للعمليات الإرهابية المتوقع حدوثها في المستقبل، وهذا يخلق كفاءة عالية في التصدي للإرهابيين، ويمكن تعزيزها بجمع مزيد من المعلومات عن تحركات الإرهابيين المستقبلية. لكن يجب الأخذ في الاعتبار أنه مهما كانت المعلومات قوية وذات مصداقية وغزيرة، فإنها لا تغني عن التخيل.
ويمكن هنا ضرب مثال بعملية استجواب الإرهابيين، فإذا كانت مصادر الحصول على المعلومات الخاصة بالتنظيمات والقيادات الإرهابية تتعدد وتتفاوت في مصداقيتها وثباتها وغزارتها ودرجة الاعتماد عليها، فإن أهمها هو استجواب من يتم القبض عليهم من الإرهابيين ويخضعون للتحقيق لدى الشرطة والقضاء. وتلك وسيلة مهمة من دون شك، لأنها تجلب المعلومة من مصادرها الأصلية، لكنها، مع هذا، تبدو قاصرة في مساعدتنا على تخيل السيناريوهات المستقبلية للإرهابيين، أو الطريقة التي سينفذون بها عملياتهم القادمة، وذلك لثلاثة أسباب هي:
1- قد ينكر الإرهابي بعض الوقائع، ويخفي معلومات عن مستجوبيه، إما من منطلق ولائه للتنظيم الإرهابي وأفكاره، خاصة إن كان مُدرباً على التمويه والخداع، أو بغية تبرئة النفس، لأن معلومات حقيقية إن قِيلت ستؤدي إلى إدانة الإرهابي المقبوض عليه، وتمهد لسجنه أو إعدامه.
2- حتى لو اعترف الإرهابي بكل شيء عن التنظيم، من حيث قياداته وأفراده ومصادر تمويله وما يحوزه من إمكانيات في التسليح والتدريب، فإن هذه معلومات هي عن الماضي، أو الأيام الفائتة التي كان فيها الإرهابي شاهداً على هذه المعلومات أو مشاركاً في صناعتها، وليست عن اللحظة الراهنة، أو المستقبل. ومن ثم لا يجب التعامل مع ما يدلي به الإرهابي من اعترافات باعتبارها وسيلة سهلة لتحديد الآتي في التعامل مع الإرهابيين دون بذل أدنى جهد، سواء بتحليل المعلومات المتوفرة من تلك الاعترافات وتوظيفها في تخيل سيناريوهات المستقبل، أو بتعزيز عملية التخيل تلك بمعلومات من مصادر أخرى.
3- لا يجب أن نتصور أن الإرهابيين أناس سذج ومن ثم سينفذون الخطط نفسها، من دون أي تعديل، بعد عملية القبض على عناصر منهم اطلعت على هذه الخطط أو شاركت في صناعتها. ففي الواقع لا يعطي التنظيم الإرهابي أسراره لكل أعضائه، بل يضعها في يد حلقة ضيقة، ولا يمنح العناصر العادية أو الهامشية إلا معلومات في حدود المهام الجزئية المكلفة بها. كما أن بعض التنظيمات تأخذ الشكل العنقودي، فتتوزع إلى مجموعات صغيرة، همزة الوصل بين كل منها والأخرى لا تتعدى شخصاً واحداً، وقد تتحرك همزات الوصل تلك بأسماء حركية مستعارة.
وحال القبض على بعض عناصر التنظيم فإن قادته يراجعون على الفور كل ما كان بحوزة المقبوض عليهم من خطط وتدابير ومعلومات، ويقومون على الفور بإلغائها أو تعديلها، ومعاودة الانتشار والاختباء في أماكن أخرى، وتجهيز خطط جديدة. وبالتالي تتحول المعلومات التي تم الحصول عليها من الإرهابيين المقبوض عليهم إلى مصدر للتضليل أو التمويه على الأجهزة المعنية بمحاربة الإرهاب، خاصة إن تعامل معها بلا تدقيق ولا خيال.
لكل هذا لا تغني المعلومات المباشرة، مهما كانت درجة صدقها، عن ضرورة استعمال الخيال في تحليل ما يتوافر من بيانات ومعلومات، فبه فقط يمكن أن نحقق هدفين في وقت واحد، الأول هو الاقتراب من تحديد ما أخفاه المعترفون من معلومات، والثاني هو تحويل ما تم الحصول عليه من اعترافات من سبيل تضليل الأجهزة المنوط بها تعقب الإرهابيين إلى وسيلة للإيقاع بالإرهابيين الطلقاء، أو إحباط مخططاتهم، حال تخيل السيناريوهات الأخرى التي سيضعها قادة التنظيم الإرهابي بديلاً عن تلك التي تم كشفها بعد القبض على بعض العناصر.
مؤشر علمي مقترح:
مع تصاعد الإرهاب في العالم إلى حد غير مسبوق، بات من الضروري أن نعمل خيالنا العلمي في صياغة مؤشر علمي لقياسه، لنعرف درجاته واتجاهاته ومستوياته، بما يفتح الباب لتحديد رؤى نظرية وخطط عملية لمواجهته. ويمكن أن يكون هذا المؤشر مكوناً من 10 نقاط، قابلة للزيادة، هي:
1- المدى الزمني: أي المدة الفاصلة بين العملية الإرهابية وأختها، فكلما زادت هذه المدة نقول "الإرهاب يتراجع" والعكس صحيح.
2- الشدة: هذه النقطة تكمل السابقة، فيمكن أن يكون المدى الزمني بين العملية الإرهابية ولاحقتها كبيراً، لكنها عمليات شديدة في إزهاق الأرواح وتدمير المنشآت. وكلما كانت العمليات شديدة أو "نوعية"، نكون أمام إرهاب متزايد بغض النظر عن التباعد الزمني. وعلى النقيض إن كانت عمليات خفيفة لا تخلف قتلى وجرحى كثيرين وتدمير واسع النطاق، نكون أمام تراجع لمستوى الإرهاب.
3- النمطية: أي معرفة ما إذا كانت العمليات الإرهابية تسير على وتيرة واحدة، حيث لا يتبع الإرهابيون أساليب جديدة ومبتكرة ومغايرة في جرائمهم، أم أنهم يجددون فيها، فلا تشبه عملية إرهابية أختها، وهذا دليل على مستوى التخطيط والذكاء الإجرامي من عدمه.
4- التوزيع الجغرافي: إذا كانت العمليات الإرهابية محصورة في بقعة جغرافية ضيقة، نكون أمام عمليات محدودة يمكن السيطرة عليها، والعكس صحيح، إن كان الإرهابيون يوزعون عملياتهم على نطاق جغرافي واسع، بما يؤدي إلى تشتت قوى الأمن، ويزيد من التأثير السياسي والاقتصادي لإرهابهم.
5- مدى تحقيق الأهداف الإرهابية: يمكن أن تتكرر العمليات الإرهابية لكنها لا تحقق الأهداف السياسية والاقتصادية والأمنية التي يسعى إليها الإرهابيون، ويمكن أن يحدث العكس. فالإرهاب لا يرتكب لذاته إنما لأهداف يقصدها الإرهابيون، وتقييمنا لقوة الإرهاب من ضعفه يجب أن يضع في الاعتبار مدى تحقيق مثل هذه الأهداف التي حددها منفذو الإرهاب أو من يمولهم ويقف وراءهم وأعلنوها أو تلك التي نستشفها من قراءة أفكارهم وبياناتهم وتصريحاتهم وطبيعة عملياتهم.
6- التجنيد والتكاثر: المقصود هنا أن تكون جماعات قد دخلت على خط الأحداث وتبنت عمليات إرهابية، أم أن جماعات بعينها ثابتة وتتكرر هي التي تتبناها. فلو وجدنا أن هناك جماعات أخرى تدخل إلى ساحة الإرهاب نقول "الإرهاب يتزايد" والعكس صحيح، شريطة أن ندقق في هذا الشأن، لأن بعض الجماعات الإرهابية الكبرى تنتحل أسماء جماعات ليس لها وجود وتعلن باسمها العمليات الإرهابية لتضليل الأمن، وخداع الرأي العام. كما يجب أن نأخذ في الاعتبار مدى قدرة الجماعات الموجودة بالفعل على تجنيد عناصر جديدة من عدمه.
7- الإجراءات الوقائية: هي التصورات والخطط التي تضعها الدولة في سبيل مكافحة الإرهاب، سواء على المديين القريب والمتوسط أو البعيد، وتبدأ بجمع المعلومات ثم الدخول في حرب (استباقية) ضد الإرهابيين، ويتزامن هذا مع استراتيجية لتطويق الإرهاب وتبديده، لها جوانب فكرية واقتصادية واجتماعية وقانونية وأمنية.
8- موقف القاعدة الشعبية: فوقوف الشعب طرفاً في الحرب على الإرهاب مسألة مهمة، فليس بوسع الإرهاب أن يهزم سلطة ولا دولة يلتف شعبها حول تصورات وإجراءات لمكافحة الإرهابيين. ومن الخطر أن يقف الشعب على الحياد في المعركة ضد الإرهاب.
9- الحاضنة الاجتماعية: فالإرهاب ليس بوسعه الاستمرار إذا كانت البيئة الاجتماعية تلفظه، والعكس صحيح. ولذا علينا أن نقف بدقة على الفروق بين البيئات "المنتجة" و"المنسجمة" و"الموظفة" للإرهاب، على النحو التالي:
أ- البيئة "المنتجة" للإرهاب: حيث يتفشى الجهل والفقر ويضعف وجود الدولة بمختلف مؤسساتها وخدماتها، ويندر أو ينعدم وجود تنظيمات أو أحزاب تعتنق أفكاراً مدنية، يسارية أو يمينية، بينما يشتد وجود أنصار الجماعات الدينية المتطرفة، التي تنفرد بالناس، وتكون هي وسيلتهم الوحيدة لتلبية الطلب على المعلومات والمعرفة الدينية، وبالتالي يسهل عليها أن تقوم بعملية "غسيل مخ" لكثير من الأفراد، يتم تجميعهم أو تكتيلهم حول الأهداف التي حددها قادة الجماعات المتطرفة، الذين يتخذون من أعمال العنف وعلى رأسها الإرهاب وسيلة لتحقيق أهدافهم. وحدث هذا في مناطق داخل باكستان، خاصة بيشاور، وداخل أفغانستان، لاسيما قندهار وما حولها.
ب- البيئة "المنسجمة" مع الإرهاب: هي بيئة لا تنتج الإرهاب، لكن إن جاء إليها إرهابيون يجدونها مهيأة للتعاطف معهم أو مساعدتهم في مواجهة الدولة من دون التزام بتبني أفكارهم أو حتى الانضمام إلى صفوفهم. ويحدث هذا في المناطق الطرفية المهمشة التي أهملتها الدول، خاصة أن التنظيمات الإرهابية يروق لها أن تنشط في المناطق أو الأطراف البعيدة عن قبضة الدولة، والتي هي في الغالب الأعم بعيدة عن المركز.
ج- البيئة "الموظفة" للإرهاب: هي بيئة لا تنتج الإرهاب ولا تنسجم معه بالضرورة إنما توظفه لخدمة سياسات معينة. ومن هنا يمكن لأصحاب المصلحة أن يصنعوا إرهابيين أو حالة إرهابية يستعملونها كفزاعة للداخل، بغية تأجيل المطالبة بالإصلاح، أو للخارج الذي يعلن حرباً لا هوادة فيها على الإرهابيين. ومثال على ذلك، ما فعله الرئيس اليمني الراحل علي عبدالله صالح حين كان يستحضر القاعدة ليستدر تعاون القوى الدولية، ومثلما تفعل الولايات المتحدة الأمريكية نفسها حين وظفت طاقة "الجهاد" ضد الاتحاد السوفييتي السابق وعلى أرض أفغانستان في إنهاء الحرب الباردة وتركيع موسكو، وكما توظف الآن "الطاقة المدمرة" لتنظيم داعش في خدمة أهدافها في الشرق الأوسط.
هذه البيئات الثلاث في تدرجها تشكل ما يُطلق عليه "البيئة الحاضنة" للإرهاب، والتفرقة بين تلك الدرجات مهمة في وضع خطط مواجهة الإرهابيين، سواء بالمبادأة والهجوم أو التمترس والدفاع، وقبل كل ذلك الرؤى الفكرية البديلة التي تنظر إلى الإرهاب باعتباره عملية تبدأ من الأذهان.
10- المواقف الدولية: أي مدى تعاطف الدول الخارجية مع الدولة التي تواجه الإرهاب، وتفهمها للإجراءات التي تتخذها في سبيل مكافحة الإرهاب وتأييدها لها.