بعد مرور عقدين من تفجيرات 11 سبتمبر 2001، وفي ظل التغيرات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط خلال هذه الفترة، فإن هذا الملف يستحق قراءة جديدة وبطريقة مختلفة، خاصة فيما يتعلق بالعلاقة بين ما جرى في سبتمبر 2001 وتصاعد الأدوار الإقليمية في أحداث المنطقة وتطوراتها.
فلو ألقينا نظرة سريعة على التاريخ الحديث للشرق الأوسط، يتضح لنا أن أدوار القوى الإقليمية في المنطقة، خاصة إيران وتركيا، كانت محدودة النطاق والفعالية، وتركزت تحركاتها وسياساتها الإقليمية في القضايا والملفات ذات الصلة المباشرة بمصالحها وأمنها. لكن أحداث سبتمبر 2001 نقلت التدخلات الإقليمية غير العربية إلى مستوى أكثر خطورة وأعمق أثراً، وهو الشؤون الداخلية للدول العربية.
سقوط الحواجز:
دائماً كان هناك تداخل وتفاعل مستمران بين الشؤون الداخلية والخارجية لدول المنطقة. بيد أن تفجيرات 11 سبتمبر كانت سبباً مباشراً في سقوط الحواجز بين النطاقين الداخلي والخارجي بشكل كامل، وبتوجيه انتباه العالم إلى العوامل الداخلية التي تفرز ظاهرة الإرهاب والأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تشكل شخصية وعقلية الإرهابيين والمتطرفين. وعلى الرغم من الغموض ونقص المعلومات حول الأشخاص أو الدول التي تقف وراء تلك التفجيرات، فإن واشنطن اندفعت إلى الدخول في شؤون المنطقة العربية والعمل على إحداث تغييرات جذرية، وهو ما أدى في النهاية إلى محاولات إحداث تغييرات لأوضاع وسياسات وخصائص مجتمعات عربية لها خصوصياتها وتركيبتها الخاصة بها.
وتركت تفجيرات 11 سبتمبر بصمة ثقيلة على الجهود الدولية في هذا الاتجاه. فبالرغم من التعاون الكبير الذي أبدته الدول العربية في مكافحة الإرهاب بمختلف الصور والأبعاد، فإن الرؤى والتوجهات الدولية استمرت قلقة بقناعات تولدت بسبب تفجيرات سبتمبر، وأهمها وأخطر تلك القلاقل هو الربط بين الإرهاب والدين الإسلامي وليس كون الإرهاب ناتج عن سلوكيات وتصرفات بعض الأفراد الذين يعتنقون الإسلام. وهذا ما سمح للدول الإقليمية (إيران وتركيا وإسرائيل) بممارسة أدوار والقيام بتحركات مباشرة وغير مباشرة في هذا السياق، بمباركة بل وتنسيق مع الولايات المتحدة والقوى الدولية الكبرى. وبالتالي تم السماح بتضخم دور ونفوذ هذه الدول الإقليمية في بؤر النزاع بالمنطقة العربية، مثل الحرب ضد تنظيم داعش في العراق وسوريا.
وعلى الرغم من الدور الكبير الذي قامت به الدول العربية في ذات السياق، فإن أهداف الدول الإقليمية تجاوزت النطاق المباشر لمواجهة الإرهاب، إلى توظيف مساهماتها في الحملة الدولية لمكافحة الإرهاب، واستغلال الاضطراب والتدهور الداخلي في بعض الدول، وتحقيق مصالح مباشرة وهذا ما نراه في الوجود العسكري التركي في سوريا وليبيا، والنفوذ الإيراني الواسع في العراق وسوريا، فضلاً عن الأذرع والوكلاء العسكريين في لبنان واليمن. ولهذا الاختراق الجيواستراتيجي الإقليمي في قلب المنطقة العربية، مخاطر شديدة على الأمن الوطني العربي، الجماعي والفردي أيضاً.
تراجع العمل العربي المشترك:
مع كل الانتقادات التي تحيط بمفهوم العمل العربي المشترك، إلا أن أحد أهم تداعيات تفجيرات سبتمبر 2001، كان إسقاط المفهوم والقضاء تقريباً على أي توجه فكري أو حركي يُغلب البعد الإقليمي العربي المتمثل في الجامعة العربية كقاسم مشترك وعامل تجميع للدول العربية. فوجدت الدول غير العربية في المنطقة الفرصة لاختراق السياق العربي والتغول فيه وإقامة روابط وعلاقات مصلحية قوية مع أطراف عربية، تتجاوز مصالح وارتباطات تلك الأطراف مع دول عربية يُفترض أنها شقيقة. ولعل المثال الأفضل على ذلك هو تمكن إيران وتركيا من إقامة شبكة علاقات عربية قوية أساسها المصالح الثنائية وأحياناً المتعددة التي تلعب فيها أنقرة وطهران دور الراعي والمحرك لتوجهاتها.
وزاد الوضع خطورة وتعقيداً مع ضعف وتراجع القدرات الذاتية لبعض الدول مثل العراق ولبنان، وتفاقم الضغوط الداخلية والخارجية على حكوماتهما المتعاقبة، الأمر الذي أتاح نقل دائرة النفوذ والتأثير الإقليمي (الإيراني والتركي بصفة خاصة) من النطاق الرسمي المباشر أي العلاقة مع الحكومات، إلى العلاقة مع أحزاب وتنظيمات في داخل الدول، مثل حزب الله اللبناني وحركة حماس الفلسطينية والميليشيات العراقية.
وقد تكون تلك التدخلات وصلت إلى الحد الذي نراه اليوم بمساعدة عوامل وتطورات أخرى لاحقة على تفجيرات 11 سبتمبر، مثل احتلال العراق عام 2003، ثم الانتفاضات الشعبية في بعض دول المنطقة عام 2011. بيد أن الباب الواسع الذي سمح بوجود وتنامي تلك الأدوار الإقليمية كان تفجيرات سبتمبر 2001 والمأزق الذي فرضته على العالم، وبصفة خاصة المنطقة العربية.