وضع المجتمع الدولي شروط مسبقة للاعتراف بحركة طالبان، مع التأكيد أن أقوال قادتها لابد أن تترافق بأفعال من شأنها طمأنة العالم بشأن كيفية إدارة الحركة لأفغانستان، وانتفاء فرص عودتها إلى سيرتها الأولى قبل 20 عاماً، في الوقت الذي تنتهج فيه طالبان سياسة برجماتية تهدف إلى تغيير الصورة النمطية المأخوذة عنها. وعلى الرغم مما تبديه الحركة من مرونة في تصريحات قياداتها، فإن الواقع على الأرض قد لا يتوافق بشكل كامل مع هذه التصريحات، مما يطرح تساؤلات حول قدرة طالبان على تحقيق شروط المجتمع الدولي للاعتراف بها وإعادة تأهيلها.
شروط دولية:
تزامن دخول حركة طالبان القصر الرئاسي في كابول وبالتالي السيطرة على البلاد، في 15 أغسطس الماضي، مع تحذيرات دولية من الاعتراف الفردي بالحركة، حيث دعت بريطانيا على لسان رئيس وزرائها، بوريس جونسون، إلى ضرورة التشاور قبل الإعلان عن القبول بطالبان على رأس السلطة في أفغانستان، وذلك بقوله "سنتعاون مع الأطراف كافة لضمان عدم الاعتراف بطالبان أُحادياً". فيما أبدت بعض الدول الأخرى، مثل الصين وروسيا وإيران، إشارات انفتاح على طالبان، حيث سارعت بكين وموسكو إلى الإعلان عن استعدادهما لإقامة علاقات طبيعية مع قادة الحركة.
وسبق للاتحاد الأوروبي أن حذر طالبان من مواجهة عزلة دولية إذا ما استولت على السلطة بالعنف، حيث أشار بيان الاتحاد، الصادر في 12 أغسطس 2021، إلى "أنه إذا تم الاستيلاء على السلطة بالقوة وإعادة تأسيس إمارة إسلامية، فإن طالبان ستواجه عدم الاعتراف والعزلة ونقص الدعم الدولي وأن دعم الاتحاد لأفغانستان سيكون مشروطاً بتسوية سلمية وشاملة، واحترام الحقوق الأساسية لجميع الأفغان، بمن فيهم النساء والشباب والأقليات".
ولاحقاً، اتفق وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، يوم 3 سبتمبر الجاري، على أنه يجب على التكتل أن يلتزم بخمسة شروط أساسية في إطار التعامل مع حركة طالبان من أجل توصيل المساعدات إلى أفغانستان، وتتمثل هذه الشروط في عدم استخدام الأراضي الأفغانية لتصدير الإرهاب، واحترام الحركة حقوق الإنسان، خصوصاً النساء، وأن تشكل حكومة شاملة، وتسمح بوصول المساعدات الإنسانية، بالإضافة إلى السماح للمواطنين الأجانب والفئات الضعيفة من الأفغان بمغادرة البلاد.
وفي الإطار نفسه، أوضح الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، ينس ستولتنبرغ، يوم 3 سبتمبر الجاري، أن الاعتراف بحركة طالبان يعتمد على أفعالها ومسار الحكومة التي ستشكلها.
وفي اجتماع لمجموعة الدول الصناعية السبع التي تضم (كندا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، اليابان، المملكة المتحدة، والولايات المتحدة)، يوم 24 أغسطس الماضي، وضعت هذه الدول شروطاً مسبقة للاعتراف بنظام حركة طالبان في أفغانستان، وأوضحوا في بيان المجموعة أن ما تدلي به الحركة من تصريحات معتدلة لا قيمة له إذا لم يقترن قولها بأفعال، وأنه إذا كان الجيل الجديد من طالبان يريد اعترافاً دولياً فيتعين عليهم تنفيذ شروط المجتمع الدولي في هذا السياق. وتمثلت شروط مجموعة الدول السبع في السماح بخروج الأفغان الراغبين في مغادرة البلاد، وألا تصبح أفغانستان ملاذاً للإرهاب، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى مستحقيها، واحترام الحقوق والحريات، لاسيما حقوق المرأة، والعمل على تشكيل حكومة انتقالية.
وعلى الرغم من أن حركة طالبان منذ استيلائها على السلطة في 15 أغسطس الماضي، تؤكد في بياناتها وتصريحات قيادتها على أنها ستعمل على تشكيل حكومة وطنية تضم فئات المجتمع، وستحترم حقوق الأقليات وحرية الإعلام، وستضمن استمرار عمل المرأة وبقاءها في التعليم، وأنها لن تمنع من يريد مغادرة البلاد، وأنه لا مكان على أرض أفغانستان لحركات إرهابية، فإن ما تحقق من ذلك مجرد تغيرات هامشية.
وتمثلت هذه التغيرات، علي سبيل المثال، في السماح للأقلية الشيعية بممارسة شعائرها الدينية في ذكرى عاشوراء، وعقد مؤتمرات في وجود صحفيات، بينما مُنعت النساء في عدة أقاليم من الاستمرار في ممارسة عملهن، وأُجبرن في مناطق أخرى على ارتداء البرقع إذا ما رغبن في الاستمرار بالعمل، كما مُنعن من السير في الأسواق بمفردهن، كما كانت الحال في السابق قبل 20 عاماً، وهذا ما دعا قيادي في طالبان إلى القول إن "منع النساء من السير في الشوارع والتزامهن منازلهن هو لفترة انتقالية فقط حتى يعتاد مقاتلو الحركة على وجود النساء، إذ إنهم غير مؤهلين للتعامل حالياً مع النساء".
دوافع التأهيل:
تجد طالبان نفسها مدفوعة بعدد من العوامل التي ساهمت في تغيير خطابها السياسي، وإبدائها مرونة في بعض ممارستها في الداخل الأفغاني، بالرغم من تضارب تصريحات قياداتها في بعض القضايا. فقد مرت الحركة بمرحلة انتقالية أدت إلى توسع مداركها سياسياً، لاسيما خلال فترة تفاوضها مع الولايات المتحدة على مدار عامين ماضيين، مما ساعدها على إبداء بعض البرجماتية، وتتمثل أبرز العوامل التي دفعت الحركة إلى التغيير ظاهرياً في نقطتين أساسيتين هما:
1- إدراك طالبان تأثير العزلة الدولية على حكم أفغانستان: بالنظر إلى أن حركة طالبان لا تزال مدرجة على قوائم العقوبات الدولية، وأن اتفاق الحركة المبرم مع الولايات المتحدة عام 2020 ينص صراحة على أن طالبان غير معترف بها من قِبل الولايات المتحدة "كدولة"؛ فإن قيادات الحركة مضطرون لتبني مواءمات سياسية، بهدف الحصول على اعتراف دولي يساعدهم على إدارة شؤون البلاد، لاسيما في الملف الاقتصادي.
فبالنظر إلى الموازنة العامة لأفغانستان، يُلاحظ اعتمادها المباشر على التمويل والمساعدات الخارجية بنسبة تفوق الـ 70%، وبالتالي يدرك قادة طالبان أن الحركة وحدها لن تستطيع الوفاء باحتياجات البلاد، خصوصاً في ظل تجميد الدول المانحة مساعداتها، وتجميد الولايات المتحدة أرصدة البنك المركزي الأفغاني لديها عقب سيطرة الحركة على العاصمة كابول؛ مما يعني عجز طالبان عن دفع رواتب الموظفين، وتوفير السلع والخدمات للأفغان.
وحسب التقديرات، فإن قيمة المساعدات التي تتلقاها أفغانستان أكبر بمعدل عشر مرات على الأقل من عائدات طالبان، التي قدرها تقرير لجنة العقوبات بمجلس الأمن الدولي في مايو 2020، بما يتراوح بين 300 مليون و1.5 مليار دولار سنوياً، والتي تحصل عليها الحركة من خلال زراعة الخشخاش وتهريب المخدرات، وفديات عمليات الخطف، والضرائب، وغيرها من مصادر التمويل.
2- محاولة الحركة استرضاء الداخل الأفغاني ببرجماتية اكتسبتها في مرحلة إعادة التأهيل: منذ عام 2001 تعاني طالبان كراهية فئات كثيرة داخل المجتمع الأفغاني، بعد سلسلة من الممارسات والسياسات العدائية بحق هذه الفئات، حيث استعدت الحركة الصحفيين والعاملين في مجال الإعلام من خلال غلق وحجب وسائل الإعلام باستثناء إذاعة "صوت الشريعة" التي اقتصر بثها على الدعاية السياسية للحركة. كما استعدت المرأة بإجبارها على عدم ترك المنزل، ومنعها من العمل والتعليم ونزول الأسواق من دون مرافق.
بيد أن الضغوط التي تعرضت لها طالبان، جعلتها تتبنى سياسة برجماتية في المناطق التي استطاعت السيطرة عليها في أفغانستان، فعملت على تبني نظام تعليمي أكثر انفتاحاً يسمح بالاختلاط بين الطالبات والطلبة، ووجود مدارس أجنبية ولكن تحت إدارة وإشراف مؤسساتها الدينية. كما سمحت لبعض وسائل إعلام بالعمل في الأقاليم التي تسيطر عليها. وقامت الحركة بالبناء على ذلك عندما استعادت السلطة في 15 أغسطس الماضي، وبالتالي ظهرت في القصر الرئاسي بصورة مغايرة لصورتها الذهنية التقليدية، حيث تحدث قادتها في مؤتمر صحفي اشتركت فيه صحفيات، والتقوا إعلاميات في برامج تلفزيونية.
وعلى الرغم من حظر طالبان الإنترنت في التسعينيات، فقد حاولت منذ عزلها إيجاد مساحات افتراضية لها لترتيب أفكارها ونشرها. فدشنت عام 2003 منصات بلغات مختلفة، كما دخلت مجال وسائل التواصل الاجتماعي وكثفت وجودها عليه على مدى السنوات الماضية، وبصفة خاصة خلال عملياتها العسكرية الأخيرة قبل النجاح في السيطرة على كابول، واستطاعت التأثير على المجتمع الأفغاني بحرب نفسية، دفعت بعض الأقاليم للاستسلام لها من دون قتال.
معوقات التغيير:
على الرغم من التغيير الظاهري الذي تبديه حركة طالبان ومرونة خطابها السياسي، وتبدل سلوك قيادتها وانفتاحها على الإعلام؛ فإن ثمة عوامل قد تعرقل وفاء الحركة بوعودها للمجتمع الدولي، وتحقيق شروطه التي وضعها في مقابل الاعتراف بشرعيتها، ولعل أهمها ما يلي:
1- استعداد أطراف دولية للتعامل مع طالبان: على الرغم من الشروط التي تفرضها مسبقاً الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع على حركة طالبان للاعتراف بحكمها، فإن دولاً أخرى أبدت استعدادها للتعامل بشكل طبيعي مع طالبان، ومنها الصين التي تتقاسم حدوداً مع أفغانستان تمتد إلى 76 كم، حيث أشارت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية، هوا شونيينغ، في منتصف أغسطس الماضي، إلى أن بكين "تحترم حق الشعب الأفغاني في تقرير مصيره ومستقبله". وأضافت أن قادة طالبان "عبّروا مرات عدة عن أملهم في تطوير علاقات طيبة مع الصين"، مؤكدة أن السفارة الصينية لدى كابول "تواصل عملها بشكل طبيعي".
كما أعلنت روسيا، عقب استيلاء طالبان على القصر الرئاسي، على لسان موفد الكرملين إلى أفغانستان، زامير كابولوف، أن السفير الروسي لدى كابول سيلتقي قادة الحركة، وأن موسكو ستقرر ما إذا كانت ستعترف بالسلطة الأفغانية الجديدة بناءً على أفعالها. بيد أن لقاء قادة طالبان كان يعني ضمنياً استعداد روسيا للتعاون معهم في إطار رسمي. كما اعتبر الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، يوم 16 أغسطس الماضي، أن الوضع الحالي في أفغانستان يجب أن يصبح فرصة لاستعادة الحياة والأمن والسلام الدائم في البلاد، ودعا الأطراف الأفغانية للتوصل إلى اتفاق وطني.
وقد تؤدي مثل هذه المبادرات من قِبل بعض الأطراف الإقليمية والدولية بالتعامل مع طالبان، إلى انتهاج الأخيرة سياسة التسويف، والمماطلة في تنفيذ شروط المجتمع الدولي للاعتراف بحكومتها المقبلة.
2- تصعيد داعش في الداخل الأفغاني: استطاعت حركة طالبان استيعاب تنظيم القاعدة وإقناعه بعدم التعرض للمصالح الأمريكية أو الغربية في أفغانستان وخارجها، وذلك كشرط من شروط التفاوض مع الولايات المتحدة. ولكن على العكس، لم تستطع الحركة السيطرة على تنظيم داعش الذي أخذ في التموضع بالداخل الأفغاني، وسرّع من وتيرة هجماته الإرهابية في البلاد عقب سيطرة طالبان على الحكم. ويضع ذلك الحركة في مأزق قد يعرقل الاعتراف بها من قِبل المجتمع الدولي.
وربما تسعى طالبان للتهدئة مع داعش بهدف ضمان عدم تصعيد الأخير، وبالتالي الظهور أمام الغرب بالقدرة على السيطرة على ممارسات التنظيم. وقد عملت الحركة في هذا السياق على الإفراج عن سجناء منتمين إلى داعش، كبادرة منها للتهدئة مع التنظيم، الذي يبدو أن له حسابات أخرى، وأن التصعيد حالياً يعد من أدواته لتحقيق مكاسب بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان.
3- أزمة تشكيل حكومة انتقالية شاملة: إن ما حققته حركة طالبان من انتصار سريع في الاستيلاء على مقاليد الحكم في البلاد، دفع أغلب قياداتها إلى التفكير في الاستحواذ على السلطة، مع العمل على تحقيق بعض مطالب المجتمع الدولي بعيداً عن شرط تشكيل حكومة تعبر عن كل فئات المجتمع الأفغاني. وهذا ما ظهر في تشكيل الحكومة الانتقالية التي تم الإعلان عنها رسمياً في 7 سبتمبر الجاري برئاسة الملا محمد حسن، ونائب رئيس الوزراء عبدالغني برادار. فقد سيطرت الحركة على هذه الحكومة، ومنحت عدة مناصب عليا لشخصيات نافذة. فعلى سبيل المثال، تم إسناد حقيبة الدفاع إلى الملا محمد يعقوب (نجل الملا عمر مؤسس الحركة)، ووزارة الداخلية إلى سراج الدين حقاني (نجل جلال الدين حقاني، مؤسس شبكة حقاني التي تصنفها واشنطن إرهابية).
وبرر المتحدث باسم حركة طالبان، ذبيح الله مجاهد، يوم 7 سبتمبر الجاري، ذلك التشكيل الحكومي الجديد بالقول "إن هذه الحكومة هي لتصريف الأعمال، تتعاطى مع الوضع الحالي، وبعدها سيكون لدينا نقاشات ومحادثات مع مختلف الأطياف والقبائل". وأضاف "سنركز على أن نجعل هذه الحكومة فيما بعد تضم كل الأطياف".
ختاماً، يمكن القول إن حركة طالبان قد تنتهج سياسة "كسب الوقت"، وتأجيل حسم الملفات الأكثر جدلاً بالنسبة لها، لاسيما في ظل الشروط المسبقة التي وضعها المجتمع الدولي من أجل الاعتراف رسمياً بالحركة في حكم أفغانستان.