أصبحت ظاهرة الشبكات غير الرسمية ملمحاً في الاقتصاد التونسي منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي، حيث تغذيها حاضنة سياسية وأمنية واجتماعية نمت خلال عهد الرئيس الراحل، زين العابدين بن علي. وخلال العقد الأخير، شهدت تونس تغييرات سياسية وحكومات متعاقبة، لم تنجح أي منها في التصدي لمكافحة اقتصادات التهريب والتي شهدت توسعاً غير مسبوق، لاسيما مع تصاعد المخاطر الأمنية والجيوسياسية في الدول المجاورة. ومع الإجراءات التي اتخذها الرئيس التونسي، قيس سعيد، يوم 25 يوليو 2021، بتعليق عمل البرلمان وإقالة رئيس الوزراء هشام المشيشي، فإن شبكات التهريب وجماعات المصالح المرتبطة بها تبحث عن فرص تُمكنها من الحفاظ على مكتسباتها المكتنزة منذ عشرات السنوات.
انتشار واسع:
يتركز عمل شبكات الاقتصاد غير الرسمي أو ما يُعرف - بحسب بعض الأدبيات - بـ "اقتصاد الظل"، حول تهريب البضائع والسلع والأفراد، وقد يمتد نشاطها إلى عمليات الإنتاج غير الخاضعة للضرائب أو غير المسجلة رسمياً. وفي الحالة التونسية، فإنها تنصب بالأساس على التجارة غير الرسمية. وتُعرف المؤسسات الدولية، "التجارة غير الرسمية" بأنها "تدفق البضائع التي لم يتم الإبلاغ عنها أو الإبلاغ عنها بشكل غير صحيح من قِبل سلطات الجمارك في الدولة".
وعلى الرغم من صعوبة الحصول على إحصاءات دقيقة وحديثة عن حجم اقتصاد التهريب أو التجارة غير الرسمية في تونس، فإن بعض الدراسات الأكاديمية تشير إلى أن التجارة غير الرسمية شكلت قرابة 10% من إجمالي الواردات التونسية في الفترة من 2011 إلى 2015. لكن من الملفت أنها تمثل أكثر من نصف التجارة الثنائية بين تونس وليبيا، كما أن ما يقرب من 25% من الوقود المستهلك في تونس مهرب من الجزائر.
وكما هو شائع دولياً، يتسع نطاق "اقتصاد الظل" القائم على تهريب السلع والأفراد في المناطق الحدودية في تونس، حيث تسهم المنافذ البرية الحدودية في تمرير من 15% إلى 20% من التجارة غير الرسمية، أما النسبة الباقية فتمر من خلال المنافذ البحرية عبر الموانئ التونسية الرئيسية، وذلك وفقاً لتقديرات الحكومة التونسية في عام 2015.
ويتسع "الاقتصاد الموازي" ليضم العديد من الفاعلين، وفي هذا الصدد قدرت دراسة استقصائية، أُجريت في عام 2017، أن سوق الوقود غير المشروع يشكل 30% من مبيعات الوقود في تونس، ويشارك فيه حوالي 20000 جهة فاعلة، بما في ذلك المهربون عبر الحدود، والناقلون المحليون والملاك والعاملون في نقاط التخزين غير القانونية والبائعون والمشترون.
اعتبارات مختلفة:
ثمة عدد من العوامل الاقتصادية والسياسية والأمنية تمثل دوافع لتكوين واتساع رقعة التجارة غير الرسمية والتهريب عبر الحدود التونسية خلال السنوات الماضية، وفيما يلي أبرزها:
1- تهميش المدن الحدودية: تمثل المدن الحدودية بيئة مثالية لنشوء ظاهرة التجارة غير الرسمية في تونس، حيث يعاني سكانها غالباً الفقر والمشكلات المعيشية وضعف فرص التنمية، وهو ما أدى إلى اعتماد العديد من سكان هذه المدن في تلبية احتياجاتهم الاستهلاكية على المزج بين التجارة الرسمية وغير الرسمية. كما أدى غياب فرص التنمية وصعوبة بيئة ممارسة الأعمال، وضعف كفاءة مؤسسات التمويل هناك، إلى اتجاه الأفراد للعمل في نقل وتجارة السلع غير الرسمية والتهريب وانخراطهم في شبكات التهريب.
وقد خلصت دراسات متخصصة إلى أن المدن الحدودية في تونس تعاني "التهميش المركب"، والذي يشمل 3 أبعاد؛ الأول هو التباعد الإقليمي بين مدن المركز ومدن الهوامش الحدودية. والثاني هو التباعد الاقتصادي والإنمائي الذي يعوق القدرة على الإنتاج وخلق الوظائف. والثالث هو التباعد الإنساني الذي ينفصل فيه الأشخاص عن الثروة الوطنية وعن عدالة التوزيع والانتماء.
2- فروق أسعار السلع الأساسية مع دول الجوار: ترتفع كثير من أسعار السلع الأساسية المتداولة بالأسواق الرسمية في تونس مقارنة بدول الجوار على غرار ليبيا والجزائر، سواء السلع المحلية أو المستوردة. ويرجع هذا الارتفاع إلى سببين؛ الأول هو تقديم دول الجوار دعماً أعلى للسلع الأساسية مثل الوقود. والثاني اختلاف مستوى الجباية، حيث تعد تونس من أعلى الدول الأفريقية في هذا الشأن. فعلى سبيل المثال يبلغ سعر الوقود في الجزائر حوالي عُشر سعره في تونس.
وكما هو معلوم، فإن التهريب يساهم في تجنب التجارة تكلفة الرسوم الجمركية والتحصيل الضريبي لاسيما ضريبة القيمة المضافة (VAT)، ومن ثم يعود بالنفع أيضاً على المستهلك بالحصول على السلع بأسعار أقل من السوق الرسمية، وبذلك يظل الطلب على السلع المهربة نشطاً ومتزايداً. إلى جانب ذلك، ومن منظور كلي، فإن تهريب السلع يسمح بوجود أسعار منخفضة أقل من السائدة بالسوق، على نحو يُبقي معدل التضخم محدوداً داخل الاقتصاد، وهو ما استفادت منه الحكومات التونسية المتعاقبة.
وعلى الرغم من ذلك، ومع العلم أن الضريبة المفروضة على السجائر في تونس تشكل ما نسبته 66.39% من أسعارها السوقية، فقد تسبب نشاط تهريب السجائر في خسائر ضريبية سنوية بما يتجاوز 177 مليون دولار، وفق بعض التقديرات.
3- تصاعد قوة جماعات المصالح واشتباكها مع السكان: انتظم المهربون في تونس داخل شبكات عمل قوية، تجمع بين السكان المحليين والجماعات المتورطة في أنشطة التهريب في دول الجوار في ليبيا والجزائر، حتى عُرفت بما يُسمى بــ "أباطرة التهريب"، وتركز نشاطها في المدن الحدودية. ومع تصاعد الانفلات الأمني في ليبيا وتعاقب الحكومات والتغييرات السياسية في الداخل التونسي؛ ساهم ذلك في اتخاذ شبكات التهريب في تونس شكلاً تنظيمياً وأصبحت ذات قدرة تنظيمية وتمويلية وإدارية أعلى، بحيث تتعامل بمرونة وكفاءة مع كل المستجدات السياسية والأمنية والاقتصادية على الحدود.
تعدد الفاعلين:
تشترك مجموعات متنوعة من اللاعبين، سواء المحليون أو الإقليميون، في أنشطة الاقتصاد غير الرسمي في تونس، ويتضح ذلك على النحو التالي:
1- السكان المحليون: يعتبر السكان المحليون بالمدن الحدودية التونسية، السلع المهربة إحدى السمات المميزة لمناطقهم، إذ اعتادوا شراءها وتداولها والعمل بأنشطتها؛ بمعنى أن التجارة غير الرسمية والتهريب يجدان قبولاً مجتمعياً من قِبل السكان المحليين على الحدود التونسية وساهما في تنميتها، نظراً لعدو وجود البديل التنموي الرسمي. وقد تطور عمل بعضهم بمرور السنوات من بائعين متجولين إلى شبكات تهريب محترفة ترتبط بعلاقات تنسيقية قوية مع مسؤولين في تونس ودول الجوار.
2- جماعات المصالح الحاكمة في تونس: على الرغم من التحولات السياسية المتعاقبة في تونس خلال العقد الأخير، فإن جماعات المصالح الداعمة لأنشطة التهريب، دائماً ما أجادت التشبيك والاتصال مع المسؤولين المتورطين في قضايا فساد. ففيما سبق، استفادت بعض جماعات المصالح المكونة من رجال أعمال ونخب اقتصادية مقربة من نظام ابن علي من الحصول على دعم سياسي، ساعد على ازدهار أنشطة التهريب الحدودية، لاسيما عبر معبر رأس أجدير الحدودي مع ليبيا.
وبعد اندلاع الثورة التونسية، ثم حصول حزب النهضة على الأغلبية البرلمانية وتشكيل الحكومة، فإنه اُتهم بالارتباط بمصالح سياسية مع جماعات مسلحة في ليبيا ترتبط بشبكات التهريب، وبذلك استمرت الحاضنة السياسية للتهريب في تونس.
3- الجماعات المسلحة في ليبيا: استلغت الجماعات المسلحة وغير القانونية في ليبيا، الأوضاع الأمنية والجيوسياسية غير المستقرة بها، للتجارة في تهريب السلع والبضائع والأفراد عبر الحدود مع تونس، لاسيما أنها وجدت في السوق الموازية غير الرسمية في تونس فرصاً مغرية لتحقيق الأرباح وتعزيز قدراتها المالية. وبحسب مركز برشلونة للشؤون الدولية، فإن حوالي 3 ملايين تونسي يعتمدون على ليبيا إما لتحويلات العمال التونسيين أو أنشطة السوق السوداء في المنطقة الحدودية. وبشكل عام، يُقدر البنك الدولي أن الأزمة الليبية تسببت في تآكل النمو الاقتصادي في تونس بنسبة 24% خلال الفترة 2011-2015، وهذا يعادل 2% تقريباً من الناتج المحلي الإجمالي سنوياً.
تمدد مُحتمل:
على الرغم من تضافر جهود الحكومة مع الجيش في تونس للتصدي للأنشطة الحدودية غير الرسمي، فإن عدم استقرار الأوضاع السياسية بين الحين والآخر في البلاد، أدى إلى عرقلة استجابة الحكومة لخطر التهريب وعدم استكمال أو تعطيل الخطط الموضوعة سواء من قِبل الحكومة أو من خلال المبادرات متعددة الأطراف مع المجتمع الدولي. ومنها على سبيل المثال، تعطيل مشروع "منطقة التبادل التجاري الحر بين تونس وليبيا"، والذي كان من المقرر إنشاؤه في معبر الذهيبة الحدودي.
ومن المرجح أن تؤدي الأزمة السياسية الحالية في تونس وما أحدثته من فراغ حكومي يبدو مؤقتاً، إلى تمكين جماعات المصالح المشتغلة بالتهريب من فرص التمدد والتوسع في نشاطها، بل والاستعداد للمرحلة القادمة، وبحث كيفية التنسيق مع دوائر النفوذ، على نحو سوف يعزز من استمرار نشاط شبكات الاقتصاد والتجارة غير الرسمية بتونس في الأمدين القصير والمتوسط.