دعا مجلس شورى حركة النهضة في 4 أغسطس 2021 لتصحيح أخطاء الماضي واتخاذ إجراءات الرئيس التونسي قيس سعيد فرصة للإصلاح على أن تكون مرحلة من مراحل التحول الديمقراطي، بهدف حل الأزمة السياسية الراهنة في البلاد، خلال اجتماع مجلس شورى الحركة بمشاركة 150 عضواً من قيادات الحركة برئاسة راشد الغنوشي.
ويتوقع أن يكون الاجتماع قد شهد مناقشة الانقسامات الداخلية التي تعانيها النهضة مؤخراً، وكذلك نتائج تحركات ومشاورات قيادات الحركة، التي أجروها مع عدد من الشخصيات والأحزاب السياسية داخل البلاد وخارجها بغرض الضغط على الرئيس سعيد للتراجع عن إجراءاته وقراراته، التي أعلنها في 25 يوليو الماضي.
تجدد الانقسامات الداخلية:
جاء اجتماع النهضة الأخير بالتزامن مع عودة الانقسامات داخل الحركة للظهور من جديد، ويمكن إجمال أبرز التحديات الداخلية في التالي:
1- المطالبة بالإطاحة بالغنوشي: دعا العديد من أعضاء النهضة، خاصة من الشباب والمعارضين للغنوشي، القيادات الحالية التي تتزعم الحركة، بالانسحاب من المشهد السياسي الراهن، وتشكيل خلية أزمة تتولى قيادة الحركة في هذه المرحلة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وتصحيح السياسات السابقة، خاصة فيما يتعلق بالتحالف مع حزب قلب تونس المتورط رئيسه في قضايا فساد.
2- الاعتراف بأخطاء الماضي: طالب فريق آخر من قيادات النهضة بإصدار بيان يعترفون فيه بمسؤوليتهم عن الأخطاء الكارثية التي ارتكبتها الحركة خلال السنوات العشر الماضية أثناء مشاركاتهم في الحكومات المتعاقبة، والتي أدت إلى ما آلت إليه الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية الراهنة من تدهور بالغ السوء، وذلك في إطار ما يعرف بنقد ذاتي لسياسات الحركة خلال المرحلة الماضية، وتجديد برامجها وأطر عملها قبيل انعقاد مؤتمرها السنوي الحادي عشر المقرر في نهاية 2021.
تغير سياسات الإخوان:
يحمل إعلان النهضة قبولها ضمنياً قرارات الرئيس سعيد عدداً من الدلالات التي يمكن توضيحها في التالي:
1- إدراك النهضة فشل سياساتها السابقة: تندرج الدعوة لإجراء حوار سياسي مع الرئيس سعيد في إطار محاولة النهضة الخروج من أزمتها الحالية التي تصاعدت بشكل كبير عقب استجابة الرئيس سعيد لاحتجاجات الشعب التونسي، وإقالة حكومة المشيشي وتجميد البرلمان.
فقد سعت النهضة أولاً للاحتجاج على هذه القرارات، عبر محاولتها، من دون نجاح، الحشد لتظاهرات مضادة، بالإضافة إلى تهديدها بالعنف. كما سعت للضغط على واشنطن، وتهديد الدول الأوروبية بورقة اللاجئين، وذلك لكي يعتبروا قرارات الرئيس التونسي انقلاباً يتطلب تدخل المجتمع الدولي ضده. ومع إخفاق كل هذه المحاولات عن إحداث تأثير يذكر، اضطرت النهضة للتراجع، وتبني خطاب مختلف للبقاء طرفاً في المشهد السياسي.
2- السعي لتجاوز الانقسامات الداخلية: يمكن تفسير اتجاه النهضة للتماشي مع إجراءات سعيد بأنها محاولة لاستيعاب الانشقاقات الداخلية، والتي كانت تعانيها الحركة حتى قبل إعلان الرئيس سعيد قراراته الأخيرة، إذ انشق عن النهضة عدد من النواب اعتراضاً على دعم الغنوشي للمشيشي في صراعه ضد الرئيس سعيد، بالإضافة إلى التحالف مع حزب قلب تونس، المتهم رئيسه بالفساد. وكان آخر هذه الانشقاقات استقالة الأمين العام للنهضة زياد العذاري من كتلتها البرلمانية، ومن جميع هياكل الحزب.
ولذا فإن تجاوب الغنوشي مع قرارات السعيد قد ينظر إليها على أنها محاولة لاستيعاب الانقسامات الداخلية، واستقطاب الأصوات التي تدعو لإجراء نقد ذاتي. ويواجه الغنوشي، في هذا الإطار، تحدٍ غير هيّن، وهي أن هذه الأصوات لا تطالب فقط بتغيير سياسات الحركة، ولكن بتغييره هو شخصياً، وهو ما عكسته ردود أفعال بعض القيادات عقب انتهاء الاجتماع الأخير لمجلس شورى الحركة، إذ تكررت الدعوات من بعض أعضاء الحركة بتقديم الغنوشي استقالته.
3- محاولة البحث عن تحالفات جديدة: قد ترغب قيادات النهضة في بناء أرضية مشتركة مع الأحزاب السياسية التي عبرت عن رفضها استمرار الإجراءات الاستثنائية، لاسيما الحزب الدستوري الحرب برئاسة عبير موسى، الذي وصف قرار رفع الحصانة عن كل أعضاء البرلمان بغير الدستوري وغير القانوني، وكذلك موقف بعض الأحزاب السياسية الأخرى كالتيار الديمقراطي، و"اتحاد نقابات العمال" التي تطالب رئيس الدولة سعيد بضرورة اختيار رئيس حكومة جديد، وإخراج البلاد من مرحلة الاجراءات الاستثنائية الحالية بسرعة.
وعلى الرغم من أن النهضة تدرك أن محاولة إقامة هذه التحالفات قد يكون غير واقعي على المدى القريب، فإنه على المديين المتوسط والطويل، قد تنجح النهضة في ذلك بصورة قد تساعدها على نسج تحالفات جديدة تعيدها لتصدر المشهد السياسي، وفقاً للحسابات السياسية لقياداتها.
4- إقناع سعيد بالتراجع عن التحقيق مع النهضة: تسعى الحركة عبر التأكيد على تماهيها مع إجراءات سعيد، محاولة إقناع الأخير بعدم المضي قدماً في محاسبة الحركة على تجاوزاتها الأخيرة، خاصة مع تورط عدد من أعضاء الحركة في الحصول على تمويل خارجي وقضايا فساد.
وتشير مصادر إلى أن حركة النهضة لجأت للحصول على دعم أمريكي والتواصل مع بعض المؤسسات الإعلامية في الخارج للحصول على استشارات تساعدها في الخروج من مأزقها الحالي. ويلاحظ أن حصول النهضة على دعم مادي أجنبي، أو محاولتها الاستقواء بواشنطن سوف يؤثر على سمعتها سلباً لدى قطاعات واسعة من الشعب التونسي، بما يدعم الترجيحات القائلة بأن أسهم الحركة في أي استحقاقات انتخابية قادمة ستتراجع بشدة. ولذا، فإن محاولة التقرب من سعيد ومحاولة إقناعه بالعدول عن التحقيق معها سوف يضمن منع انهيار شعبيتها.
رفض سعيد الحوار مع النهضة:
لاقت دعوة حركة النهضة لتقبل قرارات سعيد، وإجراء حوار معه رفضاً، وهو ما يتضح من تصريحاته العلنية، وكذلك سياساته التي أكد المضي قدماً في تنفيذها، وهو ما يتضح في التالي:
1- رفض الرئيس سعيد الحوار مع النهضة: أعلن الرئيس التونسي رفضه التعاون مع النهضة في 5 أغسطس، إذ أكد أنه لا حوار مع من أطلق عليهم "خلايا سرطانية"، في إشارة إلى النهضة، كما أضاف أنه لا حوار إلا مع الصادقين، رافعاً شعاراً مقتبساً من ثورة الياسمين "خبز وماء.. ولا عودة للوراء". ورافق ذلك التشكيك في نزاهة الحركة مع تجديد اتهامه لها بالتورط في الفساد وتلقي تمويلات من الخارج.
2- مواصلة إقصاء وزراء المشيشي: أصدر الرئيس سعيد قراراً في 6 أغسطس الجاري بتعيين العميد طبيب علي مرابط خلفاً للوزير المقال محمد الطرابلسي في حكومة هشام المشيشي المقالة، وذلك لتسيير أعمال وزارة الصحة في ظل التفشي غير المسبوق لوباء كورونا في البلاد، وضبط عملية توزيع اللقاحات على المواطنين، لمواجهة تدهور الأوضاع الصحية في البلاد.
3- إعفاء بعض الولاة: أصدر الرئيس قيس سعيد أوامر رئاسية جديدة في 6 أغسطس الجاري، تقضي بإنهاء تكليف ثلاثة ولاة للجمهورية وهم والي المنستير ومدنين وزغوان، كما سبق وأنهى تكليف والي صفاقس.
4- التركيز على معالجة الأزمة الاقتصادية: قام سعيد بعدد من الزيارات المفاجئة لبعض المؤسسات الاقتصادية والتجارية. وأجرى اجتماعات في وزارة التجارة مع كبار المسؤولين عن البنك المركزي ومنظمات رجال الأعمال، بهدف ضبط الأسعار ومكافحة الفساد، وكسب مزيد من الدعم الشعبي لمشروعه الإصلاحي.
وفي الختام، فإن دعوة النهضة للحوار تعبر عن تغير ملحوظ في خطابها السياسي، وتبنيها ما يعرف بسياسة الهروب إلى الأمام في محاولة للقفز على الأزمة الحالية وأسبابها، والبحث في إمكانية التفاوض لكسب موقع أفضل وتحقيق أكبر مكاسب سياسية على المستوى الحزبي بشكل يضمن بقاء الحركة في المشهد السياسي للبلاد خلال الفترة القادمة، وترجح المؤشرات الراهنة أن تمسك الغنوشي بمنصبه وعدم الاستجابة لمطالب استقالته سوف تسهم في مزيد من الانشقاقات داخل الحركة.