أصدر 130 عضواً من أعضاء حركة النهضة من بينهم 5 نواب وأعضاء من المكتب التنفيذي للحركة وأعضاء من مجلس الشورى وأعضاء مكاتب مركزية وجهوية ومحلية وأعضاء مجالس بلدية، في 31 يوليو 2021، بياناً تحت عنوان "تصحيح المسار" طالبوا فيه رئيس الحركة راشد الغنوشي بتغليب مصلحة البلاد واتخاذ ما يجب من إجراءات لتأمين عودة البرلمان إلى عمله الطبيعي، هذا إلى جانب إعلان أحد قيادات الحركة محمد النوري استقالته من مكتب شورى الحركة.
كما دعا الموقعون على هذا البيان، قيادة الحركة إلى تحمل المسؤولية كاملة عن التقصير في تحقيق مطالب الشعب التونسي، وتفهم حالة الاحتقان والغليان، معتبرين أن سياسات الحركة لم تكن ناجحة في الاستجابة لمطالب واحتياجات المواطنين الذين يعانون أوضاعاً اقتصادية واجتماعية صعبة في ظل ارتفاع الأسعار وتراجع القدرة الشرائية، بالإضافة إلى ارتفاع البطالة وتداعيات أزمة جائحة كورونا.
تطورات سياسية مهمة:
يأتي تصاعد الانشقاقات داخل حركة النهضة كأحد التداعيات المباشرة للقرارات الاستثنائية التي أصدرها الرئيس سعيد في 25 يوليو الماضي، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:
1- استمرار الرئيس في الإصلاحات: واصل الرئيس سعيد إصدار القرارات الاستثنائية، ومنها إعفاء وزيري المالية علي الكعلي، وتكنولوجيا الاتصال محمد الفاضل من مهامهما، لينضما إلى وزراء العدل والداخلية والدفاع الذين تمت إقالتهم سابقاً.
وتوضح هذه الإجراءات أن الرئيس التونسي لن يتراجع عن قراراته، خاصة أن هذه القرارات تحظى بالدعم الشعبي، بل ولاقت كذلك تفهماً دولياً، خاصة من جانب الولايات المتحدة وفرنسا.
2- زيادة الدعم الشعبي: اتسع نطاق التأييد الحزبي داخل البلاد لقرارات رئيس الدولة، وكان آخرها إعلان التيار الشعبي تأييده لهذه القرارات، حيث اعتبر الحزب أن قرارات الرئيس لم تكن خروجاً عن الشرعية، بل هي إنقاذ للبلاد من النخبة السياسية الفاسدة، كما طالب الحزب الرئيس بعدم الاستجابة لدعوات الحوار تجنباً لإعادة هيكلة منظومة الفساد والإرهاب في البلاد مرة أخرى.
عوامل داخلية:
يمكن إرجاع إصدار أعضاء الحركة الـ 130 هذا البيان، في هذا التوقيت، إلى العوامل التالية:
1- تأثير الانقسامات السابقة: تعاني النهضة منذ أكثر من عام أزمات داخلية وضحت في مطالبة بعض أجنحة النهضة راشد الغنوشي بالاستقالة. ونتيجة لهذه الخلافات، قدم عدد من قيادات وأعضاء الحركة استقالتهم في السابق.
وكان أبرزها استقالة الأمين العام السابق للحركة زياد العذاري في نوفمبر 2019، وعدد آخر من القيادات التي كان لها ثقل داخل الحركة مثل عبدالحميد الجلاصي ومحمد بن سالم وعبداللطيف المكي؛ بسبب اتهامهم مجلس شورى النهضة بعدم القدرة على مواجهة التحديات السياسية والعجز عن التعاطي مع المتغيرات السياسية التي تشهدها البلاد.
2- دعوة الغنوشي للعنف: مثلت دعوة الغنوشي بالنزول إلى الشارع والتهديد باستخدام العنف، عاملاً رئيسياً في إصدار البيان السابق، حيث رأى الأعضاء الـ 130 أن دعوات الغنوشي، وكذلك تورط عدد من قيادات الحركة في التحريض على العنف، تمثل دعوة صريحة لإعادة الإرهاب بشكل يهدد الاستقرار الأمني والسياسي في البلاد.
وترافق حديث النهضة عن العنف مع تداول أخبار عن وجود تنسيق بين تنظيم الإخوان المسلمين في ليبيا وتنظيم داعش الإرهابي لمساعدة 90 عنصراً من داعش على التسلل عبر الحدود الليبية إلى الداخل التونسي لدعم الإخوان المسلمين في تونس ضد قرارات رئيس الدولة الاستثنائية.
3- مسؤولية قيادة النهضة عن الأزمة الحالية: اعترف بعض قادة الحركة بمسؤولية ما اتخذته الحركة من سياسات وإجراءات طوال السنوات الماضية، وعن تسببها في فشل الحكومات المتعاقبة في التعاطي مع الأزمات الداخلية التي تشهدها البلاد على المستويات كافة. ويبدو أن هذا العامل دفع أعضاء من الحركة إلى إعلان البيان السابق، خاصة مع إدراكهم رفض راشد الغنوشي تغيير سياساته.
4- السخط من دكتاتورية القرارات: أرجع القيادي المستقيل من مكتب شورى حركة النهضة، محمد النوري، استقالته إلى تصرفات رئيس المكتب، عبدالكريم الهاروني، والتي تتسم بالهيمنة على عملية صنع واتخاذ القرار وتجاهل وجهات نظر باقي الأعضاء، هذا إلى جانب اتهام الهاروني بإصراره على تحويل مكتب المجلس إلى لجنة وظيفية تابعة للقيادة التنفيذية ومنصاعة لأوامرها، وهو ما ترتب عليه تزايد اعتراضات الأعضاء على بعض القرارات التي اتخذتها الحركة خلال الفترة الماضية.
5- التورط في قضايا الإرهاب والتجسس: شهدت الفترة الأخيرة توجيه اتهامات للجهاز السري لحركة النهضة بالتورط في التجسس على شخصيات سياسية وصحفيين وأجانب في تونس، وفي عدد آخر من الدول من بينها الجزائر.
هذا إلى جانب الاتهامات الموجهة للحركة بالتورط في اغتيال الصحفيين والنشطاء السياسيين داخل البلاد، مثل السياسيين التونسيين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، وتورطها كذلك في جرائم إرهابية، وغيرها من العمليات، التي كانت تهدف من خلالها لزعزعة الاستقرار السياسي والأمني في البلاد طوال السنوات الماضية، وذلك بهدف ضمان بقائها في المشهد السياسي والوصول للحكم.
دلالات سياسية:
تحمل استقالة بعض أعضاء حركة النهضة وانشقاق البعض الآخر عنها، في طياتها عدداً من الدلالات السياسية المهمة، ومن أبرزها ما يلي:
1- انقسامات جيلية: تكشف هذه الاستقالات عن تصاعد حدة الخلافات داخل الحركة بين القيادات الكبيرة وجيل الشباب الحالي، الذي يمتلك رؤية مغايرة لتلك التي يمتلكها الغنوشي.
2- شلل مؤسسي: أصدر الغنوشي قراراً بتأجيل اجتماع كان مقرراً لمجلس شورى الحركة لمناقشة قرارات الرئيس سعيد، وذلك بعد استقالة النوري، وإصدار عدد آخر من الأعضاء البيان المشار إليه، الأمر الذي يؤكد على وجود حالة من الاستقطاب والخلاف داخل النهضة بين تيار محسوب على الغنوشي، وتيار آخر يضم باقي قيادات وأعضاء الحركة.
3- إقالة الغنوشي: ربما تسفر تزايد حدة الخلافات والانقسامات الحالية داخل حركة النهضة عن تزايد عدد المعارضين لفكر وسياسات الغنوشي، والتي قد تضغط عليه لدفعه للاستقالة من رئاسة الحركة، وإفساح المجال أمام جيل جديد من القادة لتولي رئاسة الحركة.
ومن المؤشرات الدالة على ذلك أن الفترة السابقة على إصدار قيس سعيد الإجراءات والقرارات الاستثنائية شهدت النهضة تزايداً في أصوات المطالبين لرئيسها الغنوشي بالخروج من المشهد السياسي المتأزم، وذلك بسبب تزايد الانتقادات الموجهة له، وتسببه في تراجع شعبيتها بشكل كبير.
4- خسارة الحلفاء: يعني تصاعد الخلافات داخل حركة النهضة إلى تزايد احتمالات خسارتها لحلفائها من الأحزاب السياسية التي تحالفت معها داخل البرلمان، خاصة حزب قلب تونس برئاسة نبيل القروي الذي كان مؤيداً للحكومة المقالة برئاسة هشام المشيشي.
ففي أعقاب قرارات الرئيس التونسي الأخيرة، اختفى دعم حزب قلب تونس لحركة النهضة، خاصة في ظل الحديث عن سفر رئيسه القروي لفرنسا، واستقالة قائدة الكتلة البرلمانية للحزب، وإعلان نائبة الحزب في البرلمان شيراز الشابي بأن حزبها كان ضمن حزام سياسي، وليس ائتلافاً حاكماً وسيقوم الحزب بتقييمات ومراجعات داخل الحزب خلال الفترة القادمة، كما وصفت موقف النهضة الرافض لقرارات الرئيس سعيد بالمتسرع، وهو مؤشر على احتمال تراجع قلب تونس عن دعم النهضة.
وفي المقابل، فإنه يتوقع استمرار تحالف النهضة مع حزب "ائتلاف الكرامة" الإسلامي المتطرف، الذي توافق مع النهضة في رفض قرارات سعيد، ودعا الشعب التونسي للدفاع عما اسماه "ثورته وحريته".
5- تراجع شعبية الحركة: تزامن الحديث عن الانشقاقات وتصاعد الخلافات داخل الحركة مع تراجع شعبيتها داخل المجتمع التونسي. فقد أظهر استطلاع للرأي العام أجري في 29 يونيو في تونس تأييد 87% من الشعب قرارات الرئيس. كما أن دعوات الغنوشي أمام البرلمان للتظاهر لم تلق تجاوباً شعبياً، على عكس التظاهرات التي خرجت دعماً للرئيس التونسي.
ويرجع ذلك بشكل رئيسي إلى عدم قدرة الحركة طوال السنوات العشر الماضية على وضع سياسات وحلول فاعلة لما تعانيه البلاد من أزمات، خاصة على المستوى الاقتصادي. وزاد الأمر تعقيداً دخول الحركة في صراع سياسي مع أكثر من جبهة، خاصة مع رئيس الدولة على الصلاحيات والاختصاصات، وتدخلها في عمل الحكومات المتعاقبة، إلى جانب عجز الغنوشي عن إدارة وتسيير أعمال البرلمان.
وفي الختام، تكشف التطورات السابقة عن عدد من المعطيات، أبرزها تراجع شرعية النهضة، وإمكانية تعرضها لانشقاقات مستقبلية، وهو ما سوف يؤثر سلباً على شعبيتها في أي استحقاقات انتخابية قادمة، كما سيضعف من مصداقية الحركة لدى القوى الدولية، ومن ثم استمرار دعم قرارات الرئيس سعيد.