فيما يشبه قلب الطاولة على الجميع، أعلن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، خلال زيارته شمال قبرص في 20 يوليو 2021، أن الحل الوحيد في الجزيرة القبرصية هو إقامة دولتين منفصلتين، وذلك من دون أي اعتبار للقرارات والجهود الدولية التي بُذلت طوال العقود الماضية لتوحيد الجزيرة. وفي خطوة استفزازية تجسد اقتراحه المذكور، أعلن أردوغان عن فتح أجزاء من مدينة فاروشا التي يختصر اسمها معاناة الجزيرة القبرصية، ففاروشا التي تقع على الساحل الشرقي للجزيرة كانت تشكل درة الجمال والسياحة في قبرص والمتوسط، قبل أن ينزح منها أهلها بفعل الغزو التركي للجزيرة في عام 1974 وتتحول إلى "مدينة أشباح" تتنظر عودة أهلها الأصليين إليها. وقد كان لافتاً عرض أردوغان على هؤلاء التعويض المالي عن ممتلكاتهم بدلاً من العودة إليها مجدداً، وهو عرض يعرف أردوغان مسبقاً أنه مرفوض، وهذا ما يريده بالضبط، إذ إنه يعتقد أن هذا الرفض سيحقق له الأرضية اللازمة لتنفيذ أجندته في الدفع بحل الدولتين إلى أرض الواقع.
دوافع أردوغان:
في الواقع، أن طرح أردوغان حل الدولتين في قبرص لم يأت من فراغ، بل مهد لذلك قبل الانتخابات الرئاسية التي جرت في جمهورية شمال قبرص في أكتوبر 2020، وذلك عندما وضع كل ثقله إلى جانب المرشح القومي أرسين تتار ضد الديمقراطي مصطفى أكينجي المعروف بنهجه الداعي إلى توحيد الجزيرة القبرصية، وهو ما شكل "انقلاباً أبيض" في شمال قبرص لصالح تعزيز الروح القومية التركية التي تشكل استراتيجية أردوغان في تعزيز النفوذ التركي في الجوار الجغرافي والإقليمي.
والسؤال الأساسي الذي يطرح نفسه هنا، ما الذي يدفع أردوغان إلى انتهاج هذه المقاربة الجديدة تجاه القضية القبرصية؟ فلا شك أن ثمة أهدافاً عديدة وضعها أردوغان نُصب عينيه من هذه المقاربة، لعل أهمها ما يلي:
1- فرض سياسة "الأمر الواقع" في قبرص، من خلال إدماج الهياكل السياسية والاقتصادية والأمنية في جمهورية شمال قبرص بشكل نهائي في هياكل الدولة التركية. والهدف الأساسي هنا هو جعل حل الدولتين واقعاً بدلاً من السياسة التقليدية التي تهدف إلى توحيد الجزيرة بكيانين للقبارصة الأتراك واليونانيين على أساس فيدرالي أو كونفيدرالي أو أي صيغة اتحادية ممكنة. وبالتالي فلسان حال أردوغان بات يقول إن القواعد السابقة لإدارة الأزمة القبرصية لم تعد صالحة، وإن حل الدولتين أصبح الحل الوحيد في المرحلة المقبلة.
2- جعل شمال قبرص منصة في وجه قبرص واليونان وأوروبا والمتوسط عموماً؛ لتحقيق جملة من الأهداف الاستراتيجية، وفي المقدمة منها محاولة الاستحواذ على موارد الطاقة في شرق المتوسط، خاصة أن أردوغان أصبح يجد بلاده معزولة بعد التحالفات التي نشأت في المتوسط بشأن الطاقة، وبقاء تركيا خارج منتدى غاز شرق المتوسط الذي تشكل في القاهرة ويزداد دوره في رسم خطوط الطاقة وطرق إمدادها من المتوسط إلى أوروبا.
3- كسب اعتراف دول أخرى بجمهورية شمال قبرص، حيث يعتقد أردوغان أن فرض سياسة "الأمر الواقع" ستؤدي إلى جلب اعتراف من دول أخرى بهذه الجمهورية التي لا يعترف بها أحد سوى تركيا على الرغم من إعلانها منذ عام 1983، وهو هنا يراهن على نفوذه على أذربيجان في دفع الأخيرة إلى الاعتراف بجمهورية شمال قبرص مقابل استمرار دعمه أذربيجان في مواجهة أرمينيا. كما يركز الرئيس التركي على موقف إسلام آباد انطلاقاً من علاقته الجيدة بالقيادة الباكستانية. وربما يفكر أردوغان في أبعد من ذلك، من خلال التطلع إلى مقايضة مع روسيا على الاعتراف المتبادل بعدد من الجمهوريات غير المعترف بها، كما هي حال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وناخيشفان وجمهورية شمال قبرص، وذلك في إطار "سياسة الصفقات" التي اعتاد أردوغان على عقدها مع موسكو.
4- النفخ في الروح القومية التركية - العثمانية، وهذه استراتيجية تحمل رسائل مزدوجة؛ الأولى إلى أتراك الخارج، وتحديداً في جمهوريات آسيا الوسطى والبلقان وصولاً إلى شمال قبرص، مروراً بالمرتبطين بأردوغان في سوريا والعراق وليبيا وغيرها من الدول التي تسعى تركيا إلى توسيع نفوذها فيها، ومفاد هذه الرسالة أن "تركيا ماضية في الدفاع عنكم وحقوقكم وتطلعاتكم، وأن المطلوب هو الالتفاف حولها، والانخراط في الدفاع عن سياساتها". والرسالة الثانية موجهه إلى الأتراك في الداخل لتعزيز نفوذ أردوغان السياسي انطلاقاً من البُعد الايديولوجي القومي من جهة، ومن جهة ثانية للضغط على المعارضة التركية وإظهارها بمظهر الطرف المقصر الذي لا يدافع عن الأهداف القومية العليا لتركيا. وعبر كل ذلك، يتطلع أردوغان إلى تعزيز نفوذه في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقررة في عام 2023.
5- التأسيس لمقاربة جديدة بشأن قبرص، حيث يعتقد أردوغان أن كل ما سبق سيؤدي إلى نسف الاتفاقيات والقرارات الدولية السابقة بشأن قبرص وسيؤسس لمقاربة جديدة تضع تركيا في موقع الأقوى في مواجهة اليونان والاتحاد الأوروبي. وعليه لن يتوانى أردوغان عن اتخاذ خطوات تصعيدية جديدة في قبرص، منها إقامة قاعدة عسكرية بحرية جديدة وأخرى للطائرات المُسيَّرة في شمال قبرص من دون أي اعتبار للقرارات الدولية أو للهوية الوطنية لقبرص أو حتى لمصلحة القبارصة الأتراك أنفسهم، لطالما أن ما يهم أردوغان هو أجندته الإقليمية أولاً وأخيراً، وهو بذلك يكرس لتقسيم الجزيرة القبرصية إلى الأبد، كما يقضي على حلم شمال قبرص بالانضمام إلى العضوية الأوروبية.
رفض حل الدولتين:
قُوبل التصعيد التركي الحالي في شمال قبرص برفض دولي وإقليمي، ليس فقط لأن هذا التصعيد يعد خرقاً لقرارات الأمم المتحدة والجهود السلمية لحل المشكلة القبرصية؛ بل لأنه أيضاً ينقل النزاع المجمد في قبرص إلى الاقتراب من حافة حرب مفتوحة، نظراً لأن هذا التصعيد يشكل انقلاباً على كل ما سبق، ويضع الجميع أمام حالة من الاشتباك والصدام مع تركيا، حيث لم يعد في جعبة الدول الضامنة لقبرص وكذلك بروكسل والأمم المتحدة تقديم ما يمكن الرهان عليه لحل المشكلة القبرصية سلمياً.
وبناءً عليه، ثمة إجماع محلي وإقليمي ودولي على رفض وإدانة المقترح التركي بحل الدولتين في قبرص، وقد توزعت هذه الردود على مستويات متنوعة، لعل أهمها الآتي:
1- المعارضة التركية - القبرصية: رفضت أحزاب المعارضة التركية في شمال قبرص طرح أردوغان إقامة الدولتين، حيث قاطعت هذه الأحزاب جلسة البرلمان التي طرح فيها الرئيس التركي مقترحه بشأن حل الدولتين، وإعلانه بناء قصر رئاسي ومبنى للبرلمان وحديقة عامة للقبارصة الأتراك. وكان لافتاً موقف الرئيس السابق لجمهورية شمال قبرص، مصطفى أكينجي، عندما وصف حديث أردوغان بالتدخل السافر في شؤونهم، واصفاً إياه بـ "الإهانة لهم"، وسط تأكيد بأن شمال قبرص لن تكون تابعة لتركيا.
2- التنسيق بين نيقوسيا وأثينا: فور تصريحات أردوغان الاستفزازية، بدا ثمة تنسيق قوي بين قبرص واليونان توج بتقديم الأولى شكوى رسمية ضد تركيا في مجلس الأمن الدولي، معتبرة تصريحات أردوغان عدائية واستفزازية. وحسب الرئيس القبرصي، نيكوس أناستاسيادس، فإن الخطوة التركية تعد محاولة مبطنة للاستيلاء على المزيد من الأراضي التي يمكن أن تعطل جهود السلام، وتشكل انتهاكاً لقرارات مجلس الأمن التي تحظر أي تغيير في وضع المنطقة الساحلية من الجزيرة القبرصية.
3- رسائل مصرية لأردوغان: من بين المواقف الإقليمية اللافتة والبارزة إزاء مقترح أردوغان في قبرص كان الموقف المصري الرافض لهذا المقترح، وتأكيده الالتزام بالقرارات الدولية لحل المشكلة القبرصية، وهو ما شكل رسالة مصرية واضحة لأردوغان مفادها رفض السياسة الاستفزازية والتوتيرية التي تنتهجها أنقرة في شرق المتوسط. وعندما تعلن القاهرة مثل هذا الموقف، فإنه يأتي مدفوعاً بعاملين مهمين؛ الأول: أن مصر تلمس عدم جدية تركية في الحديث عن المصالحة وفتح صفحة جديدة معها وتسوية الخلافات في المتوسط. والثاني: أن القاهرة التي تتمتع بعلاقات مهمة وحيوية مع اليونان وقبرص لن تسمح لتركيا بتوتير الأجواء والتصعيد في المتوسط.
4- دعوة أمريكية لموقف حاسم في مجلس الأمن: اتسم الموقف الأمريكي بالرفض الحاسم لطرح أردوغان بشأن قبرص، وقد تجسد ذلك في البيان الذي أصدره وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، عندما وصف موقف أردوغان بالاستفزازي وغير المقبول ولا يتفق مع الالتزامات السابقة للقبارصة الأتراك للمشاركة بطريقة بناءة في محادثات السلام. ودعت واشنطن مجلس الأمن الدولي إلى موقف حازم ضد طرح أردوغان، مؤكدة أن "آلية ثنائية بقيادة القبارصة وحدها يمكن أن تجلب السلام والاستقرار في قبرص"، حسب المسؤولة في الخارجية الأمريكية، فيكتوريا نولاند. وقد تُرجم الموقف الأمريكي في مجلس الأمن الدولي بإدانة الأخير في 23 يوليو 2021 لـ "الأفعال أحادية الجانب" للرئيس أردوغان بشأن منطقة فاروشا، مع التأكيد على ضرورة اعتماد الجهود والقرارات الهادفة إلى توحيد قبرص في إطار فيدرالي.
5- رفض أوروبي: إذا كان مفهوماً الموقف الفرنسي الرافض لموقف أردوغان في قبرص لأسباب كثيرة تتجاوز قضية قبرص، فإن اللافت كان موقف بريطانياً، الدولة الضامنة لقبرص إلى جانب كل من تركيا واليونان، إذ أعلن وزير الخارجية البريطاني، دومنيك راب، رفضه المقترح التركي بشأن قبرص، واعتبره مخالفاً لقرارات مجلس الأمن الدولي، ويقوض عملية التسوية في قبرص. وخلافاً للموقفين الفرنسي والبريطاني، اتسم الموقف الألماني بالمرونة، وذلك من خلال التأكيد على الحوار مع تركيا، وهو موقف يأتي في إطار المصالح التجارية الكبرى بين أنقرة وبرلين.
6- انتقاد الأمم المتحدة الإجراء الأحادي: تجاوز موقف الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، التعبير عن القلق من إعلان أردوغان عن فتح أجزاء جديدة من مدينة فاروشا، إلى التأكيد على أنه إجراء أحادي قد يثير المزيد من التوتر. ودعا غوتيريش في 21 يوليو الجاري الجميع إلى حوار شامل بهدف تحقيق تسوية شاملة في الجزيرة وفق القرارات الدولية.
سيناريوهان:
من الواضح أن أردوغان بتصعيده الحالي في قبرص، وضع الأطراف المعنية أمام سيناريوهين أساسيين، وهما:
1- سيناريو المفاوضات: وجد الرئيس التركي من خلال الدعوة إلى حل الدولتين وسيلة وحيدة لتحريك مفاوضات تسوية المشكلة القبرصية، بعد أن وجد أن الأسلوب السابق للمفاوضات وصل إلى طريق مسدود. ومثل هذا السيناريو قد يجد طريقه إلى طاولة المفاوضات إذا تلقى أردوغان رداً قوياً من الدول الكبرى (الولايات المتحدة ودول الاتحاد الاوروبي)، خاصة أنه معروف عن أردوغان تراجعه في اللحظات الصعبة، وتحوله إلى "البرجماتية السياسية" في المنعطفات الخطرة. وربما يريد الرئيس التركي من خلال هذا السيناريو البحث عن تفاهمات بشأن الطاقة في شرق المتوسط أكثر من إيجاد حل للمشكلة القبرصية.
2- سيناريو المواجهة: ينطلق أردوغان في هذا السيناريو من المواجهات السابقة التي حصلت في قره باغ بين أذربيجان وأرمينيا، وكذلك في ليبيا وسوريا والعراق. وهو هنا يعتقد أن أوروبا والولايات المتحدة لن تدخلا في مواجهة عسكرية ضد تركيا من أجل قبرص، وإن جل ما ستقوم بها هذه الأطراف وغيرها هو فرض عقوبات ضد أنقرة، وهذا ما ستتحمله الأخيرة من أجل تحقيق الأهداف التي وضعها أردوغان نُصب عينيه. إذ إن كل ما سبق يبقى أقل تكلفة لأردوغان الذي ربما بات يرى أن طريقه إلى الانتخابات الرئاسية المقبلة في عام 2023 يمر من حل الدولتين في قبرص.
ختاماً، يمكن القول إن حسابات أردوغان بشأن المشكلة القبرصية قد لا تكون دقيقة، حيث إن ما يقوم به قد لا يُترجم إلى مفاوضات جديدة بشروطه أو مجرد عقوبات أمريكية وأوروبية فحسب؛ بل إلى مواجهة مفتوحة مع اليونان التي استعدت جيداً للحرب مع تركيا على خلفية التصعيد الجاري بينهما بشأن العديد من القضايا الخلافية. ومثل هذا الخيار قد يصبح مرجحاً إذا وجدت أثينا أن الرفض الإقليمي والدولي لمقترح أردوغان بشأن قبرص يحمل معه الوقوف إلى جانبها إذا اندلعت المواجهة بينهما وأصر أردوغان على التصعيد حتى النهاية.