انعقد الاجتماع الأول بين الرئيسين الأمريكي ونظيره التركي على هامش قمة الناتو في 14 يونيو الماضي، والتي تضاربت آراء الخبراء حولها، فبينما يؤكد البعض أن هذا الاجتماع سوف يؤدي إلى تهدئة التوتر في الملفات الخلافية، يرى آخرون أن العلاقات بين البلدين ستظل متوترة.
ومن الناحية الدبلوماسية، وصف الرئيس الأمريكي جو بايدن اللقاء الذي جمعه مع نظيره التركي بأنه كان "اجتماعاً جيداً جداً"، أما أردوغان فقال "تجمعنا علاقات صداقة طويلة مع الرئيس الأمريكي جو بايدن، مضيفاً أنه رأى في الرئيس الأمريكي شخصاً يريد "شراكة مثمرة" مع تركيا.
وعلى الرغم من أن اللغة دبلوماسية، فإن المصالح السياسية المتباينة بين البلدين لا تزال قائمة، فلا يمكن تصور تسوية الخلافات السياسية كافة بينهما من خلال انعقاد اجتماع واحد، وبالتالي، فإنه من المرجح أن تؤدي الخلافات العالقة بين واشنطن وأنقرة، إلى تجدد التوترات المستقبلية بينهما.
مصالح مشتركة
قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إنه لا توجد مشكلة بين الولايات المتحدة وتركيا لا يمكن حلها، مؤكداً ضرورة إحياء آليات الحوار المشترك بين البلدين، وعلى الرغم من هذه التصريحات، فإن المحللين يتفقون على أن الخلافات التركية – الأمريكية يمكن تسويتها بصورة جزئية في ظل وجود مصالح مشتركة بين الطرفين. ولعل أبرز النقاط التي تُعد دافعاً للتقارب بين البلدين هي:
1- أهمية تركيا العسكرية: تدرك الولايات المتحدة الأمريكية أهمية تركيا من الناحية العسكرية، فهي ثاني أكبر جيش في حلف شمال الأطلسي، من حيث العدد، بعد الولايات المتحدة، كما أنها جزء لا يتجزأ من عمليات الناتو العسكرية، وبالإضافة إلى ذلك، تتولى تركيا خلال العام الجاري رئاسة قوة المهام المشتركة عالية الجاهزية، وهو منصب رفيع في حلف شمال الأطلسي.
2- تحجيم الدور الروسي: يتفق الطرفان ضمنياً بشأن مواجهة روسيا، سواء في البحر الأسود أو في سوريا أو ليبيا. وبالتالي ترى الإدارة الأمريكية أن التقارب مع أنقرة ربما يفيد في امتلاك أوراق لمقايضة روسيا، أو تحجيم بعض أدوارها. ولهذا تدعم واشنطن اتفاقيات التعاون العسكري بين تركيا ودول مثل أوكرانيا وجورجيا في شرق أوروبا.
ومع ذلك، تتفاوت قدرات تركيا في لعب هذا الدور. ففي حين يمكن لواشنطن توظيف المرتزقة الأتراك في ليبيا لإخراج الشركات العسكرية الروسية الخاصة من هناك، فإن أنقرة لا تستطيع تحييد أو إضعاف الدور الروسي في سوريا، أو في البحر الأسود، بسبب كثافة الوجود العسكري الروسي الرسمي في سوريا، أو بسبب عجز أنقرة عن لعب أي دور يؤثر على الوضع العسكري في شرق أوكرانيا.
ومن جهة أخرى، قدمت أنقرة تطمينات لموسكو بأن قناة اسطنبول الجديدة لن يكون لها تأثير مباشر على اتفاقية مونترو. ويلاحظ أن هذه الاتفاقية تقيد دخول وبقاء السفن الحربية الأجنبية إلى البحر الأسود، أي أن بحرية الولايات المتحدة أو حلف الأطلسي لن تستطيع المكوث أكثر من مدة ثلاثة أسابيع في البحر الأسود، كما تنص الاتفاقية.
3- تأمين مطار كابول: تعد الترتيبات الخاصة بالانسحاب الأمريكي من أفغانستان من التفاهمات الجزئية بين الإدارة الأمريكية والنظام التركي. ومن الواضح أن إدارة بايدن قد لا تمانع في أن تحل القوات التركية العسكرية محل نظيرتها الأمريكية في تأمين مطار كابول الدولي، وهو أمر حيوي للبعثات الدبلوماسية في البلاد.
وتتخوف العديد من الدول على سلامة رعاياها في أفغانستان بعد انسحاب القوات الأمريكية، فعلى سبيل المثال، أغلقت استراليا سفارتها في أفغانستان في مايو الماضي بسبب مخاوف أمنية محتملة مع قرب الانسحاب الأمريكي من البلاد.
خلافات عميقة
على الرغم من المصالح المشتركة سابقة الذكر، فإنها لم تكن كافية للتغلب على الخلافات الجوهرية بين البلدين، والتي تتلخص فيما يلي:
1- شراء تركيا "إس – 400": تتمثل القضية الخلافية الأبرز في العلاقات التركية – الأمريكية في خروج تركيا عن مسار حلف شمال الأطلسي بشرائها منظومة الدفاع الصاروخي "إس – 400" في عام 2017، وتطوير علاقاتها الدفاعية مع روسيا. وتتخوف واشنطن من استخدام موسكو المنظومة كمصدر للمعلومات الاستخبارية عن الطائرات الأمريكية الشبحية من طراز "إف – 35" عند إقلاعها من القواعد الأمريكية في تركيا.
وأمام مضي تركيا في تنفيذ الصفقة مع الجانب الروسي، طردت واشنطن تركيا من برنامج تصنيع المقاتلات "إف –35"، وفرضت عليها عقوبات بموجب قانون "مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات.
وفي واقع الأمر، لم تُفعل تركيا، حتى الآن، هذه المنظومة على الرغم من تسلمها إياها في يوليو 2019، ويبدو أن نظام أردوغان يتحاشى تفعيلها أو تركيب راداراتها حتى لا يقطع خط الرجعة مع واشنطن، لكن ذلك أيضاً لم يكف لإرضاء واشنطن، وهو ما يتطلب مزيداً من التنازلات من جانب تركيا لواشنطن إذا أرادت حل هذه المشكلة.
وتجدر الإشارة إلى أن أردوغان يسعى إلى إيجاد حل وسط حتى لا يثير غضب الولايات المتحدة. فقد اقترح وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، التفاوض مع واشنطن بشأن نموذج مشابه لذلك المعمول به بالنسبة لصواريخ "إس – 300" الموجودة في جزيرة كريت اليونانية، قائلاً إن أنقرة ليست مضطرة لاستخدام نظام "إس – 400" طوال الوقت، وهو ما يعني عدم استخدام هذه الصواريخ من الناحية العملية.
وذكرت بعض التقارير أن إدارة الرئيس بايدن، تبحث مع السلطات التركية إمكانية التوصل إلى حل توافقي للخلاف حول "إس – 400"، قد يتمثل في تخزين المنظومات بقاعدة "إنجرليك" الجوية بجنوب تركيا، والتي تستضيف قوات أمريكية، حتى تكون تحت مراقبة الجيش الأمريكي، وتضمن ألا تقوم أنقرة بتشغيلها.
2- دعم أكراد سوريا: لايزال الخلاف حول دعم الولايات المتحدة للمسلحين الأكراد في سوريا من العقبات أمام عودة العلاقات إلى طبيعتها بين البلدين، فواشنطن تعتمد بشكل كبير على التعاون مع قوات سوريا الديمقراطية في عملياتها الميدانية ضد تنظيم داعش في سوريا.
وفي هذا السياق، يتهم أردوغان الولايات المتحدة بأنها تقدم الدعم اللوجيستي للتنظيمات الإرهابية المُعادية لتركيا، إذ إن المكون الرئيس لقوات سوريا الديمقراطية هو وحدات حماية الشعب المرتبطة بحزب العمال الكردستاني الذي تعتبره أنقرة منظمة إرهابية، وتشن عليه هجمات بين الحين والآخر، ولهذا السبب تريد أنقرة من إدارة بايدن قطع جميع العلاقات مع أكراد سوريا.
ومن المستبعد أن تقطع إدارة بايدن العلاقات مع قوات سوريا الديمقراطية وسط مخاوف متزايدة من عودة ظهور داعش في شمال شرق سوريا، كما أن تخلي واشنطن عن قوات سوريا الديمقراطية سوف يعني مزيداً من تآكل الدور الأمريكي في سوريا، إذ إن الأكراد لن يجدوا أمامهم سوى تطوير علاقاتهم بروسيا والحكومة السورية، وهو ما يفقد واشنطن إحدى الأوراق التي توظفها ضد دمشق.
3- رفض تسليم كولن: يعد هذا الخلاف بمنزلة "حجر عثرة" في عودة العلاقات الأمريكية – التركية إلى طبيعتها، فبينما يؤكد نظام أردوغان أن "فتح الله كولن" هو من دبر محاولة الانقلاب في يوليو 2016، ترفض الولايات المتحدة هذه الإدعاءات، وترفض طلبات أنقرة بتسليمه.
وفي حين تصر واشنطن أن حركة كولن سلمية، فإن أنقرة، في المقابل، لن تتراجع عن استهداف أنصاره في الداخل والخارج، خاصة أن حزب "العدالة والتنمية" يسعى للسيطرة على الحياة السياسة التركية، وإقصاء أي طرف يمكن أن يشكل تهديداً لمستقبله السياسي.
4- تدهور الأوضاع الحقوقية: يحظى ملف حقوق الإنسان بأولوية من قبل إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، فعلى سبيل المثال، تعهد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بالدفاع عن الديمقراطية أينما كان في العالم حتى لدى شركاء الولايات المتحدة.
وفي هذا السياق، يبدو أن وزير الخارجية الأمريكي كان يقصد تركيا من بين الدول الحليفة لبلاده، فهي لم تقدم الكثير لتحسين وضع حقوق الإنسان داخلها، بل قامت بخطوات قمعية لإقصاء بعض أحزاب المعارضة، وتقليص الحقوق والحريات العامة والفردية.
ومنذ تولي بايدن منصبه في يناير الماضي، تندد الإدارة الأمريكية بقمع الحكومة التركية لطلاب الجامعات الرافضين لتعيين أحد المقربين من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لتولي رئاسة جامعة اسطنبول، كما تنتقد بين الحين والآخر وضع حرية الصحافة والتعبير في البلاد.
وفي ضوء ما سبق، فإنه لا يُتصور أن يكون اجتماع بايدن – أردوغان تمكن من تسوية الملفات الخلافية، ولكنه قد يساهم في تجميد القضايا الخلافية، من دون أن يترتب عليه معالجتها جميعها بالضرورة، نظراً لأنها تتطلب تقديم تنازلات يراها كل طرف ماسة بمصالحه القومية، على الأقل، في الوقت الراهن.