لم يعد الحديث عن مستقبل العملات المشفرة أمراً مهماً حالياً، بقدر الحديث عن مستقبل العملات الوطنية التقليدية، فهل يمكن تطويرها لتصبح هي الأخرى مشفرة، ويتم تداولها عبر محافظ إلكترونية بنظام "البلوك تشين"، من دون وجود حقيقي للعملات الوطنية على أرض الواقع أو في أرصدة البنوك؟ طرحت هذه الفرضية ورقة بحثية منشورة بمركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة في الإمارات، تناول جزء منها الاستعدادات المبكرة لتحافظ الدول على سيطرتها على عملاتها الوطنية، وضرورة وتحديات التحول.
إحلال تدريجي
وتجذب العملات المشفرة عدداً كبيراً من المستخدمين حول العالم، لأنها تقدم ميزة تحويل ودفع الأموال فوراً، ومن دون رسوم. كما أن هناك حالة عدم ثقة في آليات النظام المالي الحالي ومؤسساته وأزماته الاقتصادية المتوقعة، ما دفع أصحاب رؤوس الأموال للاستثمار في العملات المشفرة، على الرغم من ارتفاع مخاطرها؛ ليصل سعر "بيتكوين" إلى نحو 50 ألف دولار، في وقت يشهد فيه العالم ركوداً بسبب فيروس كورونا.
وفي الواقع المعيش الذي توجد فيه أكثر من 3000 عملة مشفرة يتم التداول عليها، فإن ذلك أمر يدعو الدول إلى الحفاظ على حقها الطبيعي في إصدار عملاتها الوطنية المشفرة، والحفاظ على الأسواق من الفقاعات المالية والأزمات الاقتصادية، والحفاظ على أمنها القومي، بمنع الحركات الإجرامية والإرهابية من استخدام ثغرات النظام المالي الرقمي.
وقال المصرفي الإماراتي، حسن الريس، إن "التغيير قادم لا محالة، وخلال 5 سنوات لا بد أن تتم "قوننة" وتنظيم استخدام تقنية "البلوك تشين" والعملات الرقمية في البنوك المحلية". وأوضح أن "العملات المشفرة ستكون في المستقبل جزءاً من الميزانية الحكومية في الإمارات، لذا لا بد من تنظيم الأمر بشكل قانوني بالكامل قبل ذلك".
وأكد أن "الأمر قد يستغرق لدى دول أخرى وقتاً أطول، لأن هناك نظماً دولية قائمة للتحويلات المالية، أشهرها "سويفت"، لكن 10 سنوات تقدير مسرف فيما يخص الوقت اللازم للتغيير وإحلال العملات الورقية بالعملات المشفرة".
وأجاب عن سؤال بأنه يعتقد أن "البنك المركزي الإماراتي إما أن يصدر مستقبلاً عملته الرقمية، أو أن يختار إحدى العملات المشفرة ويعتمدها".
ضرورات أمنية
ويبدو من المنطقي التفكير بجدية في بداية التحول نحو تدشين نسخ مشفرة من العملات الوطنية، أن يكون مثلاً هناك "كريبتو دولار"، أو "كريبتو يورو"، أو "كريبتو درهم"، جنباً إلى جنب مع العملات التقليدية، على أن يتم إحلالها تدريجياً محل العملات المطبوعة، ويصبح النظام النقدي قائماً على مفهوم العملات المشفرة المستندة إلى نظام "البلوك تشين"، بمعايير وشروط تتماشى مع أهداف الدول، وتحقق أمنها.
أي إن الدولة وحدها هي التي تصدر العملة المشفرة، وتتحدد قيمتها بالطرق التقليدية التي يتم تحديد قيمة العملة بها، من وجود احتياطي نقدي من الذهب والعملات الأخرى (مشفرة أو غير مشفرة)، كل ما في الأمر أن العملة يصبح تداولها مشفراً بالكامل، بدلاً من تداولها ببطاقات الائتمان، أو الدفع نقداً.
وللتغلب على مشكلة إخفاء الهوية، يصبح التسجيل في المحافظ الإلكترونية الخاصة بهذه العملة عبر بطاقات الهوية الوطنية، منعاً لإساءة الاستخدام. وتتولى جهة حكومية، كالبنك المركزي مثلاً، عملية مراجعة وتدقيق العمليات التي تتم عبر المحافظ الإلكترونية، للتأكد من سلامتها، وعدم استخدامها في تمويل عمليات غير شرعية، أو التهرب من الضرائب وإضافة إلى مراجعة البنك المركزي، فإن جميع المنقبين Miners ممن يمتلكون محافظ إلكترونية يساهمون في التأكد من صحة المعاملات المالية، من خلال عملية التعدين التي يقومون بها داخل سلسلة الكتلة الخاصة بالعملة المشفرة، وتكون نتيجة ذلك أن يتم تحويل الأموال بين جميع المنقبين من دون أي رسوم إضافية كتلك التي تحصل عليها البنوك، لأنه بالفعل تم دفعها مسبقاً من خلال الطاقة التي تم استخدامها من أجهزتها في عملية التعدين داخل السلسلة.
ومن هنا تحقق الدول ميزات العملات المشفرة، وهي تقليل دور المؤسسات الوسيطة في التحويل المالي، وتوفير رسوم التحويل، وتوفير الوقت، والتغلب على تزوير وتهريب العملات الوطنية، ومن ناحية أخرى، تتجنب عيوب وسلبيات العملات الرقمية بفرض رقابة صارمة على استخدام العملات المشفرة، وحصر الأنشطة المالية التي تتم داخل الدولة ومراقبتها.
تحديات التحول
وبالطبع، فإن التحول لن يكون سهلاً، فهناك تحديات فنية وأمنية واقتصادية وثقافية في دول كثيرة، حتى المتقدمة منها، ولكن الدول الأكثر تقدماً التي قطع نظامها النقدي شوطاً كبيراً في الرقمنة والتحول المالي، وترسخت فيها ثقافة الدفع الإلكتروني، هي الأكثر استعداداً لتقبل التغيير والتكيف معه.
كما أن عملية بناء بنية تحتية كاملة تضمن السيطرة على العملة الوطنية وعدم خروجها من الاقتصاد الوطني، إلا وفق معايير وضوابط، ستكون شديدة التعقيد، لأنه في هذه الحالة يجب دمج شبكات العملات المشفرة على مستوى الدول لتحديد مصادر خروج ودخول الأموال، تماماً مثلما تفعل البنوك التقليدية حالياً.
من ناحية أخرى، يجب التفكير أيضاً في مصير البنوك والمؤسسات المالية، وهناك تصور أنها لن تكون، آنذاك، وسيطاً لتبادل الأموال، لأنه لا توجد أموال ليتم وضعها في الحسابات، أو لتحتفظ بها البنوك في خزائنها، بالتالي لن يستطيع البنك القيام بدوره كمؤسسة للإقراض، أو حتى الاستثمار، لأنه لم يعد خزانة توجد بها أموال للمودعين حتى يتم استثمارها، بل قد يتحول إلى مجرد مؤسسة تمويل محدودة، يضع فيها مجموعة من رجال الأعمال رؤوس أموال لإقراض الأفراد سلة عملات مشفرة نظير عائد مالي أو فائدة.
وقال المصرفي الإماراتي حسن الريس "هذا تحليل سليم، إلا أن خرجت البنوك بأفكار جديدة". وتابع، "فروع البنوك ستكون مستقبلاً، مثل معارض السيارات، لأن التغيير الحتمي والمستمر في طبيعة المعاملات المالية، سيقضي على غالبية الوظائف البنكية. أما الثروات التي يمتلكها بعض الأفراد، والرواتب الشهرية والمكافآت التي يحصل عليها الموظفون، فستكون مجرد رمز على المحفظة الإلكترونية، من دون وجود فعلي لها على الأرض، وكذلك الأمر بالنسبة للمدفوعات المالية المتنوعة مقابل شراء السلع الغذائية ودفع الفواتير والأقساط الشهرية ومتطلبات الحياة اليومية، ستتم جميعها عبر المحفظة نفسها".
وإذا كان الأمر كذلك، أي أصبح هناك توجه رسمي للاعتماد على العملات المشفرة، فقد يكون من العدالة أيضاً تدشين عملة عالمية مشفرة تكون مستقلة بذاتها، وتدعمها جهة دولية يتم تأسيسها خصيصاً لهذا الشأن، وتصبح عملة التداول العالمي، مثلها مثل الدولار حالياً، أو إنشاء عملات مشفرة للتبادل التجاري بين الدول، مثل التي تم إعلانها بين السعودية والإمارات.
والطرح الوارد حالياً هو الاعتماد على "بيتكوين" كعملة احتياط عالمي، مثلما اقترح البعض، لذا بات من الضروري ترشيد هذه العملة عبر بناء مؤسسة مستقلة تدعمها بدلاً من مؤسسها الخفي "ساتوشي نكاماتو"، الذي قد يكون في النهاية هو الآخر أحد المشروعات السرية داخل جيوش إحدى الدول التي تسعى لفرض سيطرتها على النظام المالي العالمي، لكنها لا ترغب في الإفصاح عن ذلك رسمياً.
وتقول المتخصصة الاقتصادية عواطف الهرمودي، إن "(بيتكوين) في حد ذاتها فكرة جميلة، إلا أنه من المستحيل أن تتحول في الوقت الحالي إلى عملة احتياط عالمي، ولا حتى في وقت قريب، إلا إذا توافرت شروط كثيرة وعديدة، بينها أن يوجد تشريعات تنظمها وضوابط للحركة السعرية للعملة التي أصبح التداول عليها مثل القمار". وتسألت: "إذا تعرضت للنصب في التعامل بعملة "بيتكوين" لمن تذهب؟ كما أنها العملة المفضلة في كل العمليات الإجرامية والمشبوهة، لأنه ليس هناك من يقول من أين لك هذا؟ هناك عقبات كثيرة تجعل ذلك الطرح غير منطقي إلا إذا تغيرت الشروط".
وحذرت الهرمودي من أنه إذا تحقق هذا السيناريو، الذي قد يصبح محل تفكير في المستقبل القريب، فستشهد أسواق العملات المشفرة تضارباً كبيراً، فقد يندفع كبار وصغار المستثمرين للاستثمار فيها بقوة، تاركين الاقتصاد الحقيقي، فترتفع قيمة هذه العملات بصورة غير منطقية، أكثر بكثير من قيمتها الحقيقية، وتنتهي بفقاعة مالية عملاقة تجعل جميع الأفراد يخسرون أموالهم، مسببين أزمة اقتصادية كبيرة في الأسواق، لذلك فإن عملية التحول هذه لا بد أن تكون وفق رؤية دولية، وليس فقط وطنية، تحافظ على استقرار الأسواق قدر المستطاع.
المصدر : اندبندت عربيه