أصدر مركز المستقبل للدراسات والأبحاث المتقدمة، في أبريل 2021، عدداً جديداً من سلسلة أوراق أكاديمية، بعنوان: "الثورات المعرفية: لماذا تتصاعد الدعوات لاستقلال العلاقات الدولية عن العلوم السياسية؟"، يناقش الجدالات النظرية والأكاديمية الحديثة في حقل العلاقات الدولية، والتي تسعى من خلاله اتجاهات متزايدة للانفصال المنهاجي والنظري عن هيمنة "العلوم السياسية"، وهو ما يراه البعض مسعى مشروعاً في ظل التطورات المستمرة التي تشهدها ساحة العلاقات الدولية تنظيراً وممارسة، في حين يراه البعض الآخر نوعاً من جدالات الهوية المعرفية التي طالما تذخر بها العلوم الاجتماعية والإنسانية بشكل عام، والتي يتقاطع فيها الاعتبارات الوجودية والمعرفية، وتتعمق فيها أزمة مقاربات المكان والزمان والفاعل بصورة أساسية.
فمن خلال ثلاثة ملامح رئيسية تلخص الدراسة محفزات الاستقطاب حول "تقرير مصير حقل العلاقات الدولية"، بين تياري الانفصال والاستمرار، والتي تضمنت؛ تصاعد "أزمة هوية" الحقل المعرفي، وأنطولوجيا القوة كرابط بين العلاقات الدولية والسياسة، ورفض احتكار العلاقات الدولية لدراسة "المكان"، وهي الملامح التي قادت أنصار الانفصال إلى إطلاق دعوة لتحرير العلاقات الدولية من سجن السياسة من خلال صياغة مشروع معرفي لفصل العلاقات الدولية عن العلوم السياسية وصولاً إلى الاستقلال التام كعلم وحقل معرفي قائم بذاته.
ويعزز هذه الطرح مجموعة من الدوافع الناجمة عن طبيعة التفاعلات الدولية المعاصرة، والتي تعزز إلى حد كبير موقف أنصار الفصل بين العلاقات الدولية والعلوم السياسية، من قبيل؛ صعود ما يمكن وصفه بالتفاعلات السياسية "الرخوة"، والتي نجمت عن تراجــع الــوزن النســبي للاعتبــارات السياســية والعسـكرية على المستوى الدولي لحســاب الاعتبــارات الاقتصاديــة والبيئيـة، إلى الحـد الـذي جعـل هـذه الاعتبـارات الأخيرة هـي الأكثر تأثيراً على السياسـة وليـس العكــس.
كما أن العلاقات الدولية، بحسب هذا الطرح، أكثر ارتباطاً بحقول معرفية أخرى كالاقتصاد والتاريخ على سببل المثال، من ارتباطها بحقل السياسة، مع دعم تلك الحجة بجدال منطقي مفاده أن الربـط بـن تخصصين عادة ما مـا يتـم نتيجـة للأثر المتبادل لـكل منهـا عـى الآخر أو لاسـتخدام أحدهمـا للآخر كنهـج للإثبات والتحليـل، وهو أمر في نظر أنصار هذا الاتجاه غير متحقق بين حقلي العلاقات الدولية والسياسة، ما يجعل من غير المنطقي الربط بينهما بشكل تلقائي، هذا بالإضافة إلى الزعم بأن الربط بين الحقلين أضر بالعلاقات الدولية على الصعيد المنهجي والأدواتي والتنظيري إضافة إلى التطبيقي العملي كذلك.
ومع تراجع المدرسة الواقعية لحساب صعود مدارس وتيارات أخرى بديلة، كالنيوليبرالية المؤسسية والاعتماد المتبادل، تتزايد مؤشرات تصاعد الاتجاهات الرامية إلى تحقيق الطلاق البائن بين حقلي العلاقات الدولية والعلوم السياسية، والتي يضاف إلى مؤشرات أخرى لافتة، مثل تصاعد حركة النشر العالمية التي تبحث في معيارية تبعية حقل العلاقات الدولية، والتي تدعو إلى إعادة هيكلة الارتباط بين السياسة من جهة والعلاقات الدولية من جهة أخرى، وتنادي بضرورة التوسع في توظيف العلاقات الدولية في الحقول المعرفية الأخرى.
وأخيراً؛ تطرح الدراسة عدة توقعات بشأن تداعيات الانفصال بين العلاقات الدولية والعلوم السياسية، والتي من بينها؛ حدوث تنافس عابر للتخصصات بين العلوم الاجتماعية لاجتذاب العلاقات الدولية، وتطوير لغة ومصطلحات وأطر مفاهمية جديدة لحقل العلاقات الدولية تنأى به بعيداً عن الهيمنة التقليدية للسياسة، مع تراجع التركيز على العنصر "البشري" في دراسة الظواهر الدولية، إلى جانب تصاعد أزمة الثقة في فروع العلوم السياسية الأخرى، والتي قد يؤدي بها انفراط عقد الحقل المعرفي الجامع إلى تصدع حقول معرفية أكثر تخصصاً؛ كالاجتماع السياسي وعلم النفس السياسي وحتى النظرية السياسية ذاتها.