تشهد تونس احتجاجات وتظاهرات ليلية شملت العديد من المدن والمحافظات وبعض الأحياء الشعبية بتونس العاصمة، تخللتها أعمال عنف وتخريب دون رفع شعارات أو مطالب سياسية، وبالتالي لا وجود لواجهة أو لجهة ممثلة لها.
إلا أن المتابع لا يخفى عليه السياقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي جاءت فيها هذه الأحداث. فقد أثارت هذه الأحداث ردود فعل من مجمل الطبقة السياسية، سواء منها الحاكمة أو التي توجد خارج دوائر الحكم. وقد اختلفت جميع الأطراف في قراءة الأحداث؛ إلا أنها اتفقت على إدانة مظاهر العنف والتخريب.
احتجاجات تبدو في ظاهرها عفوية؛ إلا أن تواترها وانطلاقها في تاريخ وأوقات موحدة، وتزامنها مع التعديل الوزاري المختلف حوله، واحتدام الصراع والتنافس بين مختلف دوائر السلطة؛ دفع البعض إلى البحث في أصولها السياسية والأطراف التي قد تكون تقف وراءها، مع الاعتراف بصعوبة الوضع الاقتصادي والاجتماعي لمختلف الشرائح الاجتماعية، وخاصة في بعض مناطق الظل والفئات المحرومة وشريحة المعطلين والشباب اليائس، خصوصًا في زمن (كوفيد-19).
خريطة المشاركين:
ولعل التساؤل الأول يكون حول الفاعلين في هذه التظاهرات الليلية. تُفيد أشرطة الفيديو المتناقلة على مختلف وسائط التواصل والتفاعل الاجتماعي وكذلك شهادات إعلامية وتقارير المصالح الأمنية المسؤولة، بأن التجمعات يقودها وينظمها بضع عشرات من الأحداث والقُصّر الذين تتراوح أعمارهم في الكثير منها بين 14 و17 سنة، مع مشاركة بعض الشبان الذين لا تتجاوز أعمارهم 25 عامًا إلا بالنادر، يتجمهرون مع دخول توقيت حظر التنقل الذي فرضته السلطات الحكومية بسبب تزايد أعداد الإصابات بكورونا (بعد الساعة الرابعة عصرًا).
إذن، نحن أمام شريحة اجتماعية اقتحمت مجال الفعل السياسي عبر الاحتجاج والتظاهر دون رفع شعارات أو مطالب دقيقة واضحة ودون استهداف جهة سياسية بعينها. حركة اجتماعية يلفها الكثير من الغموض، لكن فك رموزها وشفراتها ليس بالأمر العسير، ذلك أن هذه الفئات الاجتماعية تمثل كل الذين تضرروا من التداعيات والصعوبات المعيشية في زمن كورونا، مع انسداد أفق المستقبل بالنسبة لها ولغيرها من الشرائح الاجتماعية التي ترى في مسار أسباب رزقها ومعاشها تعقيدات ما انفكت تتضاعف منذ بضع سنوات، فهي شريحة اجتماعية تشترك مع غيرها في الكثير من الهموم لكنها تميزت بعدم معايشتها لمرحلة ما قبل الثورة.
وكثيرًا ما يذهب الظن بالبعض إلى أن كل هذه الصعوبات الاقتصادية والأزمات العميقة المتفاقمة تعود أساسًا إلى أحداث سنة 2011 وما تلاها، وتحميل المسؤولية للثورة والأطراف التي قادتها، بل كثيرًا ما يتم توجيه الاتهام واللوم لكل الأطراف الثورية، سواء من شارك في الحكم منها أو من بقي في المعارضة. لكن العارف بأوضاع البلاد التونسية ومتابعة أحداثها وحيثياتها السياسية والاقتصادية يعلم جيدًا أن البلاد تحصد اليوم عواقب ونتاج سياسات ونمط تنمية صُمم ونفذ منذ عقود. وجاءت الحكومات المتتالية منذ الثورة لإدارة أزمات العهد السابق في سياقات سياسية مختلفة لتزيد الوضع تعقيداً.
موقف القوى السياسية:
التساؤل الوجيه الثاني يتعلق بإمكانية وجود أطراف سياسية أو غيرها حرضت ووقفت وراء هذه الأحداث. فتزامن التظاهرات وانتشارها وتشابه السلوكيات الاحتجاجية فيها تترك انطباعًا بوجود جهة أو أطراف تقف وراءها. صحيح أنه لم يتم تبنيها من قبل أحزاب سياسية من المعارضة، وأن كل الأطراف سارعت إلى التنديد بالعنف والتظاهر الليلي، وذهبت جهات أخرى مثل المركزية العمالية -التي كثيرًا ما تقود تظاهرات واضرابات واعتصامات شعبية أو قطاعية– إلى المطالبة بالكف عن هذا النمط من الاحتجاج المتفلت. كما كان موقف أشد الأحزاب البرلمانية معارضة لمنظومة الحكم الحالية (وهو الحزب الدستوري الحر) شاجبًا أيضًا لهذه التحركات. هذا إلى جانب دعوة بعض الأحزاب اليسارية المعارضة والموجودة خارج البرلمان للتظاهر نهارًا، وتجنب كل أشكال العنف. ثم حاولت العمل على تأطير الاحتجاجات، ودفعها نحو أن تكون سلمية ومطلبية.
لكن الأكيد أن بعض الأطراف الناشطة سياسيًّا على وسائل التواصل الاجتماعي دعت منذ بداية الاحتجاجات إلى المشاركة فيها، بل وشجعتها، وحاولت توجيهها ومنحها غطاء ومطالب سياسية. وتتمثل هذه الأطراف في التنسيقيات التي تزعم انتماءها للأوساط القريبة من الرئيس "قيس سعيد". وهي تنظيمات شبابية نشطت منذ الحملة الانتخابية الرئاسية، وكانت مؤيدة للرئيس، لكن لا علاقة مباشرة له بها. ويذكر هنا أن الرئيس "قيس سعيد" توجه إلى المحتجين يوم الاثنين 18 يناير بطريقة غير مباشرة وفي كلمة ألقاها في أحد الأحياء الشعبية للعاصمة (حي الرفاه بالمنيهلة) على مجموعة من المواطنين، وحض على التزام الهدوء، وعدم اللجوء إلى العنف، وحذر من محاولة استغلال غضب الشباب. وبالتالي تبرأ من هذه الاحتجاجات الليلية وما يرافقها من أعمال نهب وتخريب.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الأحداث تزامنت مع إعلان رئيس الحكومة تعديلًا وزاريًا كبيرًا، تعديل أطاح بأغلب الوزراء الذين كان لهم ولاء للرئاسة، مما يوحي بأن التوازنات السياسية تتجه نحو تقليص نفوذ المؤسسة الرئاسية على مستوى السلطة التنفيذية لصالح رئيس الحكومة وحزامه السياسي في البرلمان.
ومن جهة ثانية، سبق أن دعت بعض الأطراف التي وجدت نفسها خارج دوائر السلطة بفعل انتخابات 2019 وكذلك بفعل سقوط حكومة "إلياس الفخفاخ" إلى حل البرلمان والتوجه نحو تعديل الدستور وإقامة نظام رئاسي، بل دعا بعضها إلى نشر الجيش، وحل البرلمان، والذهاب نحو انتخابات تشريعية مبكرة، كحل جذري للأزمة السياسية التي تشهدها البلاد، من وجهة نظرها.
إلا أن رئيس الجمهورية كان دائمًا حريصًا على مسألة الشرعية، ولم يتجه صوب مثل هذه الخيارات. وانتشر الجيش لحماية الممتلكات والدوائر الرسمية في وجه عمليات التخريب التي تتم ليلًا أثناء هذه الاحتجاجات.
ختامًا، تراجعت التظاهرات الليلية في اليومين الأخيرين، لكنها تركت أثرًا وبلغت رسالة لكل الطبقة السياسية، كما أنها لم تستطع أن تستقطب أعدادًا كبيرة من المحتجين، وليس لها حظوظ لأن تتحول إلى "ثورة" ثانية. كما أخفق الذين حاولوا مسايرتها وتبنيها في النهاية، وزعموا أنها حركة شعبية عريضة قد تطيح بالمنظومة الحاكمة وتفتح لهم أفقًا جديدًا نحو إمكانية الوصول إلى السلطة. والأقرب أنها محاولة احتجاجية أخرى، تضاف إلى المحاولات الكثيرة التي حدثت في الأشهر الأخيرة ولم تنجح في تحقيق أغراضها، وأقصى ما يمكن أن تنتجه هو المزيد من الإرباك لدوائر الحكم، والتعقيد في وضع تراكمت صعوباته ومآزقه.