واصلت الولايات المتحدة الأمريكية فرض عقوبات جديدة على إيران، في إشارة إلى سعى إدارة الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب إلى وضع مزيد من العقبات أمام إدارة الرئيس الجديد جو بايدن، قبل أن تحاول اختبار مدى إمكانية الوصول إلى تفاهمات محتملة مع إيران في المرحلة القادمة. وقد كان لافتاً في هذا السياق، أن العقوبات الجديدة لم تتركز على المؤسسات النافذة في الدولة، على غرار الحرس الثوري أو الشركات الرئيسية مثل شركات الطاقة والبتروكيماويات وغيرها، وإنما بدأت تمتد حتى إلى بعض المؤسسات الخيرية الاجتماعية التي تعرف بـ"البنياد" وتحظى بنفوذ واسع داخل وخارج إيران.
ففي 13 يناير الجاري، أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية فرض عقوبات على مؤسسة "آستان قدس رضوي" و"هيئة تنفيذ أوامر الإمام"، بما يتضمن المديرين التنفيذيين والشركات التابعة لهما. وقبل ذلك، تعرضت مؤسسة "المستضعفين" لعقوبات أمريكية مماثلة في 18 نوفمبر الماضي.
اهتمام متأخر:
اللافت في هذا السياق، هو أن امتداد العقوبات الأمريكية إلى تلك المؤسسات يعبر عن اتجاه جديد لكنه متأخر، خاصة أن تلك المؤسسات تمارس أدواراً اقتصادية وسياسية واجتماعية ليست هينة، ولا تقتصر أنشطتها على الساحة الداخلية بل تمتد إلى الساحة الخارجية أيضاً، لاسيما في الدول التي تحاول إيران تكريس نفوذها فيها، على غرار سوريا والعراق.
وقد بدا ذلك جلياً في استناد وزارة الخزانة الأمريكية إلى أسباب تعد "تاريخية" في تبرير بعض تلك الإجراءات، حيث أشار وزير الخزانة ستيفن منوشين، على سبيل المثال، إلى أن فرض عقوبات على "هيئة تنفيذ أوامر الإمام"، يعود إلى أنها "انتهكت بشكل منهجي حقوق المنشقين بمصادرة الأراضي والممتلكات من معارضي النظام، بمن فيهم المعارضون السياسيون والأقليات الدينية والمنفيون"، وهو إجراء لا تنفيه المؤسسة ولا السلطات الإيرانية من الأساس، حيث كان الهدف الرئيسي من تأسيسها هو إدارة الثروات (لاسيما العقارات) التي كان يمتلكها النظام الملكي السابق وأنصاره وقادة ورموز بعض تنظيمات المعارضة التي لجأت إلى دول أخرى. وقد وفر لها ذلك مصادر مالية ضخمة، ومنحها نفوذاً واسعاً، لاسيما بعد أن بدأت في ممارسة أنشطة اقتصادية كبيرة تم إعفاءها من الضرائب ووضعت تحت إشراف المرشد الأعلى للجمهورية بشكل مباشر.
وقد أشارت تقديرات عديدة إلى أن تلك المؤسسات تمتلك أصولاً تقدر بنحو 200 مليار دولار. كما أنها تحصل على إيرادات ضخمة سنوياً. وعلى سبيل المثال، قال رئيس مؤسسة "المستضعفين" برويز فتاح، في 27 يوليو الماضي، أن إيرادات المنظمة زادت بنسبة 34% في نهاية العام المالي (الذي انتهى في 20 مارس 2020)، وقدّر تلك الإيرادات بحوالي 2.5 مليار دولار في العام.
اعتبارات عديدة:
يمكن تفسير اتجاه إدارة ترامب إلى التركيز على مؤسسات البنياد في الوقت الحالي في ضوء اعتبارات ثلاثة رئيسية تتمثل في:
1- احتواء العقوبات: مارست تلك المؤسسات دوراً رئيسياً في الجهود التي بذلتها إيران في احتواء تداعيات العقوبات الأمريكية. ويعود ذلك في البداية إلى أن هذه المؤسسات لم تتعرض لتلك العقوبات، على عكس المؤسسات والشركات التابعة للدولة بشكل رسمي، على نحو وفر لها فرصة لملء الفراغ الناتج عن تراجع الأنشطة الرسمية للدولة في بعض القطاعات. وتمتلك بعض تلك المؤسسات، مثل آستان قدس رضوي، شركات في قطاعات الطاقة والتعدين والسيارات والبناء. ووصل نفوذها حتى إلى التدخل بشكل واسع في الجهود التي تبذلها الدولة من أجل مكافحة انتشار فيروس "كوفيد-19"، على نحو بدا جلياً في تصريحات رئيس "هيئة تنفيذ أوامر الإمام" محمد مخبر، في 29 ديسمبر الفائت، التي قال فيها أن "المؤسسة مستعدة لإنتاج مليون ونصف حقنة لقاح فيروس كوفيد-19 شهرياً في غضون أسبوعين".
2- دعم النفوذ الإيراني في الخارج: يبدو أن تلك المؤسسات تساهم في تمويل العمليات التي يقوم بها فيلق القدس التابع للحرس الثوري في الخارج. فعلى سبيل المثال، قامت مؤسسة "آستان قدس رضوي" برعاية مؤتمر في شمال شرق إيران، في 14 أغسطس الماضي، بالتعاون مع فيلق "فاطميون" الذي يضم الشيعة الأفغان الذين يقاتلون في سوريا إلى جانب النظام السوري. كما يقوم مركز "إعمار العتبات المقدسة" بتوفير خدمات عديدة للمقاتلين في تلك الميليشيات، حيث تم تأسيسه في العراق وامتد نشاطه إلى سوريا.
3- إضعاف الحرس والمحافظين الأصوليين: ربما لا تنفصل تلك الإجراءات عن الجهود التي تبذلها واشنطن لإضعاف الحرس الثوري وتيار المحافظين الأصوليين على الساحة الداخلية الإيرانية، باعتبار أن ذلك قد يؤدي في النهاية إلى ممارسة ضغوط أقوى على النظام وربما دفعه، في مرحلة لاحقة، إلى إجراء تغييرات في سياسته الخارجية، لاسيما إزاء الملفات التي تحظى باهتمام خاص من جانبها. وهنا، كان لافتاً، على سبيل المثال، أن إبراهيم رئيسي، الذي يتولى في الوقت الحالي منصب رئيس السلطة القضائية، أوكل له في السابق المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي، مسئولية الإشراف على مؤسسة "آستان قدس رضوي"، على نحو ساهم في تعزيز دوره السياسي واقترابه من مؤسسة الحرس الثوري، وكان لذلك دور في ترشحه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، التي أجريت في يونيو 2017، بعد أن ضغطت أطراف عديدة على رئيس البرلمان الحالي محمد باقر قاليباف للانسحاب لصالحه من أجل تعزيز قدرته على منافسة الرئيس الحالي حسن روحاني، الذي تمكن في النهاية من الفوز عليه وتجديد ولايته الرئاسية.
تأثير محدود:
ربما يكون التأثير الأهم لتلك العقوبات منحصراً في إلقاء الضوء على الأدوار السلبية التي تقوم بها تلك المؤسسات، على نحو يمكن أن يزيد من حدة الاستياء الشعبي ضدها، حيث كان لافتاً أن الاحتجاجات التي شهدتها إيران في نوفمبر 2017 للاعتراض على تردي الأوضاع المعيشية، كانت نقطة انطلاقها مدينة مشهد تحديداً، وهى مركز ثقل مؤسسة "آستان قدس رضوي". لكن لا يبدو أن تلك العقوبات سوف تساهم في فرض قيود على الأدوار الاقتصادية لتلك المؤسسات، خاصة أنها تقوم بذلك بشكل غير رسمي، فضلاً عن أنه من المستبعد أن تكون لها أرصدة مالية في الخارج، حيث دائماً ما تستخدم واجهات أخرى في هذا السياق، بما يوحي في النهاية بأنها سوف تواصل أدوارها المختلفة على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية خلال المرحلة القادمة.