التاريخ لا يعرف نهاية لقصصه الكبرى والصغرى ارتباطاً بما نعرفه من أيام وأسابيع وشهور وسنوات وعقود وقرون وألفيات. الأمر فيه مخالفة كبيرة لما تواضع عليه البشر من تقسيم الزمن وانتظار التغيير؛ ولا يوجد مثل نهاية العام ومولد عام جديد تقديراً لنهاية القصص وبدايات قصص أخرى. ومع ذلك، فإن هناك ثلاث قصص كبرى هي «كوفيد - 19»، والانتخابات الأميركية، وما سمي «الربيع العربي»، إذا ما وضعت على محك نهاية العام الحالي نجدها كلها لم تصل إلى نهايتها المتوقعة. القصة الأولى وضعت لنفسها نهاية مفتعلة، ربما لتهدئة الرأي العام، والتأكيد له أن هناك ضوءاً في نهاية النفق حدث أنه يتلازم مع نهاية العام. التواريخ عادة ما تزيد الأمور ثقة ويقيناً، خصوصاً لو أن القضية ارتبطت بحقيقة موضوعية هي إنتاج اللقاح الذي سيمنع المرض من الانتشار، وتعود الأيام الطيبة إلى سيرتها الأولى. التنبؤ باللقاح لم يكن بعيداً عن الدقة، رغم التقديرات المتفائلة دوماً للرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي كان مصمماً دائماً أن الحصول على المنتظر قد بات على مرمى حجر. ولكن الواقع كانت له قصته الخاصة، وكما لم يكن العالم مستعداً لمرض الفيروس التاجي، فيبدو أنه لم يكن مستعداً بالقدر ذاته لتلقي اللقاح، أو على الأقل في ضوء المعلومات المتوافرة عنه. فهو لم يأت في النهاية على شكل حبات يتلقاها الإنسان، أو سائل يحقن به وكفى، وإنما جاء مصطحباً معه شروطاً، بعضها يحتاج تجهيزات خاصة ليست متوفرة وجاهزة على الأقل في كثرة من بلدان العالم. جاء اللقاح الأول، وهو يحتاج درجة من التبريد تصل إلى 70 درجة مئوية تحت الصفر، بقية اللقاحات خففت هذا الشرط، لكن بقيت لها شروطها الأخرى. لم يعد الأمر سهلاً، كما كان في القصة الأصلية، أصبح الأمر يحتاج المزيد من التجهيزات وخطط التوزيع المعقدة، لم تعد نهاية العام بداية حقيقية لقصة الخلاص من «كورونا». ما زاد الأمر تعقيداً، ويجعل القصة تدخل في مجال الخيال العلمي، هو أن الطرف الآخر من المعركة، أي الفيروس، كان له رأي آخر فقد قرر إعادة التمحور في أشكال جديدة اختلف عليها الناس، وعما إذا كانت اللقاحات تحتاج هي الأخرى تمحوراً للتعامل مع التمحورات الحالية في الفيروس. النتيجة هي أن العام الحالي يصل إلى نهايته بينما يتزايد عدد المصابين والوفيات، وارتباك الدول في التعامل مع المرض لا يقل عن أي وقت مضي. الخلاصة أن قصة الفيروس سوف تكون معنا في العام المقبل طالما أن نهايتها لا تزال بعيدة.
قصة الانتخابات الأميركية تحدت كافة أشكال قصص الانتخابات السابقة في نهاياتها، كما كانت في بداياتها. قبل أربعة أعوام كانت القصة المتوقعة في نهاية عام 2016 أن تبدأ هيلاري كلينتون - أول امرأة في التاريخ يسميها حزبها رئيساً للولايات المتحدة - قصة الرئاسة. لم تتغير القصة الأصلية فقط وبات هناك رئيس آخر هو دونالد ترمب، وإنما كان وجوده خالقاً لقصة رئاسية مختلفة تماماً عن كل الرئاسات الأميركية السابقة. الرجل أدار البيت الأبيض، وعلاقات أميركا في الداخل والخارج، بطرق لم تعرفها الولايات المتحدة، بلد المؤسسات العريقة، من قبل. ولم تختلف نهاية القصة النهائية عن بدايتها المثيرة، فلم يعد هناك مجال لما كان معروفاً بفترة «البطة العرجاء»، حيث يكمن الرئيس في بيته، بينما يملأ الرئيس المنتخب الساحة بما ينوي فعله، ومن سوف يكون معه في الرحلة، هي في العموم تكون أياماً للتفاؤل، خصوصاً أنها تأتي في وقت أعياد الميلاد وإجازات نهاية العام. القصة لم تكن بهذا الحبور والسرور، كانت درامية للغاية، وكان هناك من اعتبرها تراجيدية، ترمب قرر مقاضاة الناخبين والإدارات المحلية الجمهورية والديمقراطية، ومعها القضاة أنفسهم إذا لزم الأمر. حتى وقت كتابة هذا المقال، قبل أيام، كان ترمب لا يزال مؤكداً أنه سوف يبقى في البيت الأبيض. لم تكن قصته الأخيرة تدور حول ما كان متوقعاً حتى من قصة الرئيس غير العادي في العفو عن أصدقائه، أو العفو عمن ينتظر منهم العون في المرحلة المقبلة، أو إصدار قرارات إجرائية لتسير الأمور؛ صاحبنا كان أكثر من ذلك كله فقد مضى في إنتاج السياسات كما لو أنه باق إلى الأبد، وأكثر من ذلك اعترض على قوانين للكونغرس عندما أعاد إليه قانون الانتعاش مطالباً بتعديله وفقاً لرغباته الخاصة التي لم يتشاور فيها لا مع مستشار ولا مع حزبه. انتهي عام 2020، ولم يخرج ترمب من السياسة الأميركية، وعندما يكتب تاريخ العشرين يوماً الأولى من العام الجديد سوف يكون الرجل باقياً بقوة. بعد ذلك فإن قصة ترمب/ بايدن سوف لا تضع نهاية للقصة السابقة، كما أنها لن تضع بداية لقصة جديدة!
وإذا كانت قصة «كورونا» مداها يقع بين العام الحالي والعام المقبل، وقصة ترمب مداها الفترة الرئاسية الأولي، فإن قصة «الربيع العربي» مداها عشر سنوات أو عقد كامل دفع محللين ومراقبين للتساؤل عما جرى لها. وكانت الإجابة التي وضعت قصة العقد كله موضع التشريح هي أن ذاك الربيع لم ينته بعد، وأن غداً الذي لا نعرف عما إذا كان يوماً أو عاماً أو عقداً سوف يشهد نهاية مختلفة عن تلك التي جرت وشاهدناها خلال السنوات السابقة يختلط فيها الدماء بالتراب بالحروب الأهلية وتمزيق الدول وانهيار الأمم. التأكيد هنا هو أن بذرة القصة التي بدأت في 17 ديسمبر (كانون الأول) 2010، عندما أضرم بائع الفاكهة محمد البوعزيزي، البالغ من العمر 26 عاماً، في نفسه خارج مبنى حكومي في تونس، لا تزال مشتعلة تحت الرماد. القصة في أغلبها غربية الإنتاج، وتقوم على أن العالم كله يريد النظام الديمقراطي الأوروبي والأميركي، وطالما كان ذلك كذلك، فإن «النموذج» سوف يظل ملهماً. القصة هكذا بسيطة وساذجة، وغائب عنها حقيقة ما حدث، وبل وأكثر من ذلك التجاهل التام لكيف تعامل العرب أنفسهم مع الوقائع التي جرت، وكيف أن بعضهم لا يزال يعاني في سوريا واليمن وليبيا والعراق من نتائج الربيع المزعوم إرهاباً وتعصباً وطائفية، وكيف أن بعضهم الآخر كانت لديه الشجاعة لكي يستخلص الدروس مما جرى، ويدخل إلى رحاب الدولة الوطنية ببرنامج إصلاحي عميق جعل من عام 2030 سقفاً للدخول إلى العالم المعاصر الذي يجمع ما بين المشاركة والكفاءة. القصة العالمية الغربية تجعل قصة الربيع مفتوحة تنتظر العودة مرة أخرى إلى ما بدأت به القصة، هي بالتأكيد لم تنته في العام الحالي 2020، ولكن نهايتها المتفائلة آتية لا ريب فيها بعد سنة أو سنين. القصة العربية تعرف أن العام الحالي لم يضع نهاية لما جرى من آلام، لأن الشفاء من ويلاتها سوف يحتاج عقداً آخر من البناء والتعمير والإصلاح الديني والدستوري.
*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط