عادت الهجمات الصاروخية على المنطقة الخضراء في بغداد، والتي تشمل أغلب التمثيل الدبلوماسي الدولي في العراق، لتشكل مصدر قلق أمني للسلطات العراقية بعد فترة وجيزة من توقفها في ضوء الهدنة التي كانت قد أعلنت عنها بعض الفصائل الموالية للحشد الشعبي بشأن استهداف المصالح الأمريكية في العراق. إذ أصدرت السفارة الأمريكية في بغداد بياناً بشأن الهجوم الصاروخي الذي وقع في 20 ديسمبر الجاري، قالت فيه أن "الصواريخ التي استهدفت المنطقة أدت إلى رد الأنظمة الدفاعية للسفارة"، مشيرة إلى أن "أضراراً طفيفة لحقت بمجمع السفارة ولكن لم تقع إصابات أو خسائر بشرية".
دلالات متعددة:
تطرح الهجمات المتجددة ضد المصالح الأجنبية في العراق في الأيام الأخيرة مجموعة من الدلالات، والتي يتمثل أبرزها في:
1- تصعيد حدة الأزمة أمام الحكومة: تكشف وتيرة الاستهدافات الأخيرة ضد الحضور الأجنبي في العراق عن أن الفترة المقبلة قد تشهد تصاعداً محتملاً في معدل تلك الاستهدافات، وهو ما يُوحي بأن المتورطين فيها عازمون على تكثيف هذا النهج في المستقبل القرب، وبما يُرسخ من كون ما يجري يفرض أزمة مزمنة أمام الحكومة العراقية، خاصةً وأن عدم القدرة على تأمين المنشآت والأهداف الأجنبية في عموم البلاد، والمنطقة الخضراء على وجه التحديد، يشكل إحراجاً بالغاً أمام المجتمع الدولي.
2- إرباك إجراءات ضبط الأمن: تتزامن الهجمات المتصاعدة ضد المصالح الأجنبية في العراق مع تحركات مكثفة من جانب السلطات العراقية لضبط الأمن في شتى أرجاء البلاد، وخاصة في مناطق الجنوب، ضمن ما يعرف بعمليات "الوعد الصادق". جدير بالذكر أن قيادة عمليات محافظة البصرة بجنوب العراق كانت قد أعلنت، في 12 ديسمبر الحالي، عن أن القطاعات الملحقة بها باشرت بتنفيذ عملية "الوعد الصادق"- المرحلة الثالثة، وهو ما يوحي بأن الجهة التي شنت الهجوم الأخير تسعى إلى توجيه رسالة بأنها لن تتراجع عن خطواتها التصعيدية.
3- عرقلة جهود فتح ملفات الفساد: جدد رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، في 19 ديسمبر الجاري، عزمه تفكيك "معادلة الفساد" السابقة عبر إبداء حكومته جرأة غير معهودة في فتح ملفات الفساد الكبرى. ويمكن تفسير ذلك في ضوء اعتبارات عديدة، أهمها محاولة تقديم حلول سريعة للأزمة الاقتصادية الحالية، والتبعات السلبية لتقدم ترتيب العراق في مؤشر الفساد، والطبيعة الانتقالية للحكومة الحالية. ومن اللافت في هذا الإطار أن مساعي الحكومة العراقية الحالية لتفكيك شبكات الفساد أعقبها بيوم واحد الهجوم على المنطقة الخضراء، وهو الأمر الذي قد يؤشر إلى أن ثمة علاقة محتملة بين المتضررين من جهود التصدي للفساد والهجوم.
4- إصرار الميليشيات على تحدي الكاظمي: من الواضح أنه رغم الجهود التي يبذلها الكاظمي لفرض سيادة وهيبة الدولة، باعتبارها أحد المحاور التي طالما أكد عليها منذ توليه منصبه، إلا أنها لا تزال غير فعّالة حتى الآن، وذلك في ضوء بقاء البيئة غير المُحفِّزة والقادرة على عرقلتها، خاصة مع الدور السلبي الذي تقوم به ميليشيات الحشد الشعبي.
5- حسابات طهران: لا تبدي إيران دعماً واضحاً للإجراءات الإصلاحية التي يقوم بها الكاظمي، خاصة فيما يتعلق بفرض قيود على حركة الميليشيات الموالية لها. ومن هنا، فإنها ربما تسعى إلى إرباك حساباته خلال المرحلة القادمة، التي تراقب فيها التغييرات المحتملة التي ربما تشهدها السياسة الأمريكية في عهد الرئيس الجديد جو بايدن.
ويُشار في هذا الصدد إلى أن إيران سعت وبقوة هذه المرة إلى محاولة تبرئة نفسها من اتهامات واشنطن لها بالمسئولية عن الضربات، حيث رفضت الخارجية الإيرانية، في 21 ديسمبر الجاري، الهجوم على المقرات الدبلوماسية والمناطق السكنية في العراق، مشيرة إلى أن نوع الهجوم على السفارة الأمريكية، وتوقيت بيان وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، مثير للشكوك. وأضافت: "نعتقد أن بيان بومبيو معد سلفاً"، وتابعت: "اتهامات بومبيو لطهران كاذبة، وملفقة ومضللة، ومدانة". وحذرت الخارجية الإيرانية في ختام البيان إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من السعى إلى إثارة الحروب والتوتر في المنطقة. كما حذر وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في 24 ديسمبر الحالي، من أى مغامرة قد يقدم عليها بعد اتهامه لإيران بالمسئولية عن إطلاق الصواريخ.
ويمكن تفسير الموقف الإيراني في ضوء وجود احتمال، وإن كان ضعيفاً، بأن تكون الميليشيات التي تبدي قلقاً من القرارات الإصلاحية الأخيرة داخل هيئة الحشد الشعبي، هى المسئولة عن هذا الهجوم بعد الأنباء التي تحدثت عن رفع طهران يدها عنها، وهو ما جعلها تواجه خطر التفكيك والحل، على نحو دفع طهران إلى استباق أى تحركات أمريكية للرد على الهجوم الصاروخي بتأكيد عدم ضلوعها فيه.
ختاماً، من الواضح أنه رغم غموض هوية الجهة التي نفذت الهجوم الصاروخي الأخير على المنطقة الخضراء، إلا أن كل الاحتمالات تشير إلى أن ميليشيات الحشد الشعبي ربما تكون المسئولة عنها، وهو الأمر الذي يفرض تحدياً رئيسياً أمام أية جهود إصلاحية قد تستهدفها الحكومة العراقية على الصعيد الداخلي أو على مستوى تطوير علاقاتها مع القوى الإقليمية والدولية.