لم يكن عام 2020 رحيماً بالبشرية في عمومها، فتوالت النوائب بأشكال مختلفة على العالم، وإقليمنا الذي نعيش فيه، ولم تنجُ دولة في الدنيا إلا ووقعت تحت آلام عنيفة سياسية واقتصادية. ولكن العام لم يشأ أن يرحل من دون انفراجات ثلاث لثلاث أزمات كبرى. الأولى منها كانت «الجائحة»، فقد ظلت «أزمة كورونا» منذ بداية عام 2020 حاكمة للسلوكيات العامة في الدول والعلاقات الدولية؛ وكل ما لا يؤثر مباشرة مع مواجهة الفيروس كان إما مؤجلاً أو لا يلقى الاهتمام الكافي. ومرض «كوفيد - 19» هو مرض معد سببه آخر فيروس تم اكتشافه من سلالة فيروسات «كورونا».
ولم يكن هناك أي علم بوجود هذا الفيروس الجديد ومرضه قبل بدء تفشيه في مدينة ووهان الصينية في ديسمبر (كانون الأول) 2019. وبعد عام بلغ إجمالي عدد حالات الإصابة حتى 7 ديسمبر الحالي أكثر من 67 مليون حالة، والوفيات أكثر من 1.54 مليون حالة في 220 دولة وكيان سياسي.
والأزمة هنا كانت «مركبة»، فهي صحية تهدد حياة الإنسان؛ وهي اقتصادية لأن جزءاً من علاجها سحب الجماهير من دوائر العمل والإنتاج، وفصلها عن بعضها البعض مع غلق وعزل مناطق؛ وهي اجتماعية لأنها أثرت سلباً على قطاعات واسعة من المواطنين انخفض دخلها أو انعدم بالبطالة، ووضعت المواطنين أمام خيارات صعبة، بعضها روحي، وكثير منها مادي يتمثل في فقدان أعزاء. والأزمة كانت غامضة، وقف العلم أمامها مستطلعاً ومستكشفاً وباحثاً عن مخرج أو لقاح أو علاج. وللتعامل مع هذه الأزمة المركبة، أصبح «التعايش» مع المرض هو الصيحة العالمية في دول عانت جميعاً من البلاء.
وكانت المعضلة الأولى التي يجري حلها هي التعامل مع عامل الزمن، ونفاد الصبر، والرغبة السريعة للشعوب في العودة إلى الحالة «الطبيعية». واكتسب البحث عن لقاح للفيروس شدة لم يسبق لها مثيل في الأبحاث الطبية، مع ما يترتب على ذلك من آثار هائلة على الصحة العامة والاقتصاد العالمي.
وعملت الحكومات والشركات والمختبرات الأكاديمية على تسريع جهودها وسط التيارات الجيوسياسية وتحديات إنتاج جرعات كافية لمليارات البشر. وفي شهرنا هذا جرى اكتشاف اللقاح، وتصنيعه، وبدء توزيعه على العالم في بشارة انفراج أزمة قاسية.
الأزمة الثانية كانت في حالة النظام العالمي، بعد أن دخلت الولايات المتحدة، الدولة العظمى الباقية، في فترة غياب سياسي تمثل في انتخابات رئاسية شغلت الدنيا كلها. كان العام هو عام الانتخابات الأميركية، وفاز كل من ترمب وبايدن بالانتخابات التمهيدية لحزبيهما.
وفي مواجهة ثلاث أزمات - تزايد عدد الإصابات والوفيات بفيروس كورونا، والانهيار الاقتصادي الذي أعقب ذلك، والاحتجاجات ضد قتل الشرطة للأميركيين السود - أتيحت لترمب الفرصة كرئيس للولايات المتحدة لتوحيد الأميركيين من مختلف الاتجاهات السياسية في العام الأخير من ولايته الأولى؛ وبدلاً من ذلك، في كل لحظة محورية تقريباً، ظل ترمب وفياً لعلامته التجارية المثيرة للانقسام، رافضاً نصيحة العلماء والمستشارين، وسخر من أولئك الذين تجرأوا على الاختلاف. ولأول مرة حقق الحضور الأميركي في الانتخابات في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020 في كل المؤشرات ما لم يحققه من قبل، حيث بلغت نسبة المشاركة 70 في المائة ممن هم في سن التصويت، ومن ناحية فاز جو بايدن بأصوات أكثر من 82 مليوناً، بينما حصل منافسه دونالد ترمب على أكثر من 76 مليوناً، بزيادة قدرها 8 ملايين عما حققه في الانتخابات السابقة في 2016.
ورفض ترمب الاعتراف بالهزيمة، معتبراً هزيمته كانت نتيجة عملية «احتيال واسعة النطاق»؛ ولكن بعد العديد من المشاكسات السياسية بدأت عملية انتقال السلطة السياسية إلى الرئيس المنتخب؛ وأصبح للدولة القائدة في النظام الدولي عنوان يمكن تحليل توجهاته، وفهم نواياه، والحديث والتفاوض معه.
الشرق الأوسط بدأت أزمته المصيرية قبل عقد تقريباً، وعندما وصلته الجائحة، فإنها كانت تضيف إلى الكثير من الأوجاع آلاماً إضافية. ومع ذلك فإن عام 2020 شهد ثلاثة أنواع من الانفراجات التي تبشر بعقد جديد، ربما يكون فاتحاً لتغييرات كثيرة في المنطقة للحاق بعصرها. أولها استطاعت المنطقة خلال عام 2020 التعامل بجدارة مع عدد من الملفات في المنطقة، بعد حالة عدم الاستقرار التي ألمت بالعديد من دولها، واتجهت نحو تهدئة الأوضاع في العديد من البلدان.
وسواء كان الأمر في ليبيا أو سوريا، أو حتى في اليمن، فإن مزيجاً من الدبلوماسية وسياسة توازن القوى والإرهاق دفع في اتجاه تخفيض العنف ومحاولة البحث عن حل. باختصار فإن دول الموجة الأولى من «الربيع العربي» المزعوم استنزفت طاقتها في العنف، وبدأت في البحث عن خروج من مأزق.
أما الموجة الثانية التي بدأت في عام 2019، فإنها مع نهاية 2020 كانت قد تعلمت الكثير من الدروس. وثانيها شهد عام 2020 توقيع إسرائيل اتفاقيات دبلوماسية تاريخية مع دولتين عربيتين خليجيتين، هما الإمارات والبحرين في احتفال بالبيت الأبيض.
وتضفي الاتفاقيات الثنائية الطابع الرسمي على تطبيع العلاقات بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة والبحرين التي تتماشى مع معارضتهم المشتركة لإيران. ووقعت الدول الثلاث على وثيقة أطلق عليها اسم «اتفاقيات إبراهيم».
وتتكون الوثيقتان من بيانات عامة تتعهد فيها تعزيز الدبلوماسية والتعاون المتبادل والسلام الإقليمي. واتفقت الدول على الموافقة على اتفاقيات ثنائية بشأن 15 مجالاً من مجالات الاهتمام المشترك، بما في ذلك التمويل والتجارة والطيران والطاقة والاتصالات والصحة والزراعة والمياه.
وفي الأيام التي تلت ذلك، وافق السودان على تطبيع العلاقات مع إسرائيل. وكأن العام لم يشأ أن ينصرم قبل الإعلان في 9 ديسمبر (كانون الأول) عن اتفاق إسرائيل والمملكة المغربية على إقامة علاقات طبيعية بينهما.
وثالثها أنه رغم «كورونا» والضغوط الاقتصادية، فإن تيار الإصلاح في المنطقة لم ينجح فقط في التعامل مع «الجائحة»، سواء ما تعلق بالإصابات أو الوفيات، أو حتى في التعامل مع الآثار الاقتصادية السلبية بعد تراجع أسعار النفط، وإنما في الإصرار على استمرار الإصلاح، وأحياناً تحقيق معدلات نمو إيجابية.
الانفراجات الثلاث تفتح أبواباً كثيرة، ليس فقط للعام المقبل، وإنما أكثر من ذلك للعقد المقبل كله.
فهناك درس أنه لا توجد دولة واحدة في العالم تستطيع مواجهة المشكلات العالمية وحدها، وإنما سوف تحتاج في كل الأحوال للتعاون مع المجتمع الدولي. والدرس الآخر أن التقدم البشري، وقدرة الإنسان على التحكم في الطبيعة، لها حدود، وأن هناك حاجة ماسة لمزيد من الجهد للتعامل مع قضايا كوكب الأرض. والدرس الثالث في الشرق الأوسط أن أمور المنطقة تؤكد حقيقة أن مصالح الدولة الوطنية لها الأولية فيما يتعلق بعلاقاتها الخارجية، ولكن هذه المصالح ذاتها تدعو إلى مراجعة للكثير من السياسات والتوجهات التي جعلت من المنطقة استثناءً عالمياً في تحقيق التقدم. استمرار الإصلاح وتعميقه داخل الدولة الوطنية وفي الإقليم كله يجعل السلام والرخاء والتقدم ممكناً.
*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط