بعد ثماني سنوات من المفاوضات، أبرم زعماء 15 دولة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، في 15 نوفمبر، اتفاق الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة (R.C.E.P) الذي يُعد واحدًا من أكبر الصفقات التجارية في التاريخ، حيث يعمل هذا الاتفاق على إنشاء منطقة تجارة حرة بين (الصين، اليابان، كوريا الجنوبية، ودول رابطة الآسيان العشرة، وأستراليا، ونيوزيلندا)، وذلك سعيًا لتقليص الحواجز التجارية بين هذه الدول.
دوافع إبرام الاتفاق:
لا يمكن الحديث عن اتفاق الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة الذي تم توقيعه في منتصف نوفمبر بمعزل عن اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ (TPP)، فرغم أن الاتفاقيتين بدأ التفاوض عليهما في عام 2012، وكلاهما اتفاقيتان لإقامة منطقة تجارة حرة؛ إلا أن كلا الاتفاقيتين كان لهما أهداف مختلفة، وينظر إلى الاتفاقيتين بشكل كبير على أنهما مثال واضح للتنافس الأمريكي-الصيني في منطقة آسيا والمحيط الهادئ.
فاتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ التي تم التوقيع عليها في عام 2016 بين اثنتي عشرة دولة (الولايات المتحدة، واليابان، والمكسيك، وكندا، وأستراليا، ونيوزيلندا، وفيتنام، وبيرو، وتشيلي، وماليزيا، وسنغافورة، وبروناي)، كان ينظر إليها على أنها الآلية الأمريكية الأهم لتحجيم النفوذ الصيني المتزايد في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. حيث تضمنت هذه الاتفاقية أحكامًا واسعة النطاق بشأن الخدمات وحقوق الملكية الفكرية والنقابات العمالية المستقلة وحماية البيئة. كما دعت الاتفاقية إلى فرض قيود على رعاية الدولة للصناعات، وهو ما مثل تحديًا للصين لكي تخفف من قبضتها على اقتصادها.
وفي المقابل، بدأت الصين ودول رابطة الآسيان في عام 2012 التفاوض على اتفاق الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة، فيما وصف بأنه رد صيني على قيام الولايات المتحدة باستثنائها من الانضمام لاتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ وتأكيدًا لنفوذ الصين في آسيا والمحيط الهادئ.
ولكن انسحاب "ترامب" من اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ في عام 2017 بسبب ما أسماه الممارسات التجارية غير العادلة، أدى إلى أن تقوم الدول الـ11 المتبقية بإتمام التفاوض على الاتفاقية، وتم التوقيع على الاتفاقية الشاملة والمتقدمة للشراكة عبر المحيط الهادئ (CPTPP) في عام 2018.
ورغم ذلك إلا أن انسحاب الولايات المتحدة قد خلّف فراغًا سياسيًّا كبيرًا في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، حيث رأت باقي الدول الأعضاء في الاتفاقية أن الولايات المتحدة لم تعد حليفًا يُعتمد عليه، وما عزز ذلك الشعور هو السياسات الخارجية التي اتبعها "ترامب" تجاه الصين والتي اتسمت بأنها ذات طابع أحادي الجانب دون استشارة لحلفاء واشنطن في المنطقة.
ويرى عدد كبير من المراقبين للشأن الآسيوي أن انسحاب "ترامب" من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، وتهديداته المستمرة لليابان وكوريا الجنوبية بسحب القوات الأمريكية من أراضيهما؛ مثلت السبب الرئيسي لقيام الدول الآسيوية بالمضي قدمًا بشكل مكثف في المفاوضات مع الصين للتوصل إلى اتفاق الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة.
بنود "الشراكة الاقتصادية":
تجدر الإشارة إلى أن توقيع اتفاق الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة يخلق أكبر كتلة تجارية على مستوى العالم، حيث يدشن الاتفاق لإقامة منطقة تجارة حرة تغطي سوقًا يبلغ قوامه 2.2 مليار شخص (أي حوالي 30٪ من سكان العالم) . كما أن مجموع الناتج المحلي الإجمالي للدول الخمس عشرة الأعضاء يبلغ 26.2 تريليون دولار (أي ما يقرب من 29% من إجمالي الناتج المحلي العالمي) .
وقد عمل هذا الاتفاق على ضم الترتيبات التجارية المنفصلة التي سبق وأن وقّعتها دول رابطة الآسيان (بروناي، وكمبوديا، وإندونيسيا، ولاوس، وماليزيا، وميانمار، والفلبين، وسنغافورة، وتايلاند، وفيتنام) في اتفاقية واحدة متعددة الأطراف مع أستراليا والصين واليابان ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية، وذلك بهدف خلق منطقة تجارية في آسيا، على غرار المناطق التجارية بين دول الاتحاد الأوروبي أو أمريكا الشمالية.
ومن المنتظر أن يقوم الاتفاق بإلغاء بعض التعريفات الجمركية خلال 20 عامًا. كما يسمح الاتفاق للدول الأعضاء بالحفاظ على التعريفات الجمركية على واردات السلع والمنتجات في القطاعات التي تعتبرها مهمة أو حساسة بشكل خاص.
كما تجدر الإشارة أن الهند كان من المقرر أن تكون جزءًا من هذا الاتفاق؛ إلا أنها انسحبت في 2019 بسبب تخوفاتها من أن إقرار هذا الاتفاق سيُغرق أسواقها بالمنتجات الصينية الرخيصة، وهو ما سيضر شركاتها المحلية، كما أعلنت الهند عن تخوفها من أن الاتفاق لا يضيف أي زخم لتعزيز التجارة في الخدمات، وهو ما تتمتع فيه الهند بميزة نسبية، لذا لم تجد نيودلهي منفعة اقتصادية تبرر استمرارها في هذا الاتفاق.
تداعيات متوقعة:
يمكن التمييز بين نوعين من التداعيات لهذا الاتفاق:
1- التداعيات الاقتصادية: يرى غالبية الاقتصاديين أن التداعيات الاقتصادية لاتفاق الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة تعد محدودة، وذلك لأن التعريفات الجمركية بين العديد من الدول الأعضاء في هذا الاتفاق هي تعريفات مخفضة بالفعل، إما بسبب اتفاقيات التجارة الحرة الموقعة بينهم بشكل ثنائي، أو بسبب الاتفاقية الشاملة والمتقدمة للشراكة عبر المحيط الهادئ (CPTPP). فعلى سبيل المثال، يتم إجراء أكثر من 70٪ من عمليات التجارة بين دول الآسيان العشر بدون رسوم جمركية بالفعل.
وفي هذا السياق، أشارت "جاريث ليذر" (كبير الاقتصاديين المتخصصين في الشأن الآسيوي في شركة كابيتال إيكونوميكس الاستشارية) إلى أن التخفيضات الإضافية للرسوم الجمركية بموجب اتفاق الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة لن تدخل حيز التنفيذ إلا بشكل تدريجي على مدار 20 سنة، وستمر سنوات قبل أن تدخل المعاهدة حيز التنفيذ الكامل، مما يؤكد ضعف المردود الاقتصادي للاتفاق .
كما صرح "سايمون بابتيست" (كبير الاقتصاديين العالميين في وحدة الإيكونوميست إنتليجنس الاستشارية) بأن الاتفاق يهدف إلى وضع أساس مستقبلي لتعاون أعمق بين الدول الأعضاء، خاصة بين الدول التي ليست لديها اتفاقيات تجارة حرة ثنائية قائمة بالفعل مع باقي الدول الأعضاء .
وما يؤكد هامشية الأرباح الاقتصادية لهذا الاتفاق، خاصة بالنسبة للصين، هو الإحصائيات التي صدرت عن معهد بيترسون للاقتصاد الدولي (PIIE) من أن هذا الاتفاق من شأنه أن يضيف 0.4% فقط إلى الدخل الحقيقي للصين بحلول عام 2030، بينما من المنتظر أن يعمل هذا الاتفاق على تقليص الآثار السلبية على الاقتصاد الصيني جراء الحرب التجارية مع أمريكيا –حال استمرارها- بنسبة 1.1% فقط.
في حين أنه من المرجّح أن تستفيد دول رابطة الآسيان، بشكل كبير من الاتفاق، الذي يرى الخبراء أنه سيؤدي إلى تدفق ما يقرب من 19 مليار دولار سنويًّا في اقتصاديات الآسيان بحلول عام 2030 . وتجدر الإشارة إلى أن كافة الدول الأعضاء في الاتفاق، ستستفيد من دون شك من جذب مزيد من الاستثمارات الأجنبية التي ستسعى للاستفادة من قواعد المنشأ التي يقرها الاتفاق.
2- تحدي واشنطن: رغم محدودية الآثار الاقتصادية للاتفاق، إلا أن تأثيراته على الصعيد السياسي والجيواستراتيجيي هي تأثيرات جمة، فالرسالة الأساسية التي بعثتها الصين بتوقيع هذا الاتفاق كانت دحض تهديدات الولايات المتحدة حول إمكانية عزل الصين والتهديد بتغيير مسار سلاسل التوريد والتصنيع بعيدًا عن الصين، فكأن الصين تؤكد اندماجها مع محيطها الإقليمي في اتفاق يستبعد تواجد الولايات المتحدة والهند أيضًا، وذلك لتؤكد أنه من الصعوبة بمكان أن يتم عزلها بأي شكل.
بل والـأكثر من ذلك أن الصين تقوم بتوقيع أول اتفاق تجاري متعدد الأطراف في تاريخها، في الوقت الذي تنسحب فيه الولايات المتحدة من الاتفاقيات متعددة الأطراف، وتخذل حلفاءها، فكأن بكين ترسل رسالة هامة للدول الآسيوية مفادها أنها حليف يمكن الاعتماد عليه بشكل أكبر من الولايات المتحدة.
وفي المقابل، فإن الرسالة الأساسية لباقي الدول الأعضاء في هذه الاتفاقية، هو أنها لا ترغب في حصر نفسها في الاختيار بأن تكون حليفة للولايات المتحدة فقط، أو الصين فقط؛ بل إنها تسعى إلى إحداث تكامل اقتصادي إقليمي لتحقيق أقصى استفادة ممكنة.
وبالتالي، فإن الأثر الأكثر خطورة لتوقيع هذا الاتفاق يتمثل في التأكيد على أن العالم لن ينتظر الولايات المتحدة لكي تقوده، بل إن كل منطقة إقليمية ستسعى لاستلام زمام قيادة نفسها من خلال توقيع مثل هذه الاتفاقيات الإقليمية.
ومن ثمّ فإن توقيع مزيد من هذه الاتفاقيات الإقليمية -وهو شيء مرجح أن يحدث- سيؤدي إلى فقدان المصدرين الأمريكيين قوتهم بشكل تدريجي. فضلًا عن أنه سيؤثر سلبًا على التوازن الإقليمي في آسيا، وكذلك سيؤدي إلى تقليص النفوذ الأمريكي في المنطقة. وهو ما سيعزز –على المدى المتوسط والطويل- النفوذ الاقتصادي الصيني في المنطقة، وسيعمل على جذب مزيد من الدول الآسيوية إلى المدار الاقتصادي والسياسي للصين، وهو ما قد يساعد الصين في كسب تأييد بعض من هذه الدول في صراعها في بحر الصين الجنوبي.
3- تعزيز الموقف التفاوضي مع "بايدن": يمكن استقراء تأثير آخر لتوقيع هذا الاتفاق، يتمثل في وضع مزيد من القيود على إدارة "بايدن" في مفاوضاتها مع الصين حيال الحرب التجارية بين البلدين، وتقليص قدرة الولايات المتحدة على الضغط على الصين لتعديل ممارساتها التجارية والاقتصادية، مما سيمثل تحديًا إضافيًّا لإدارة "بايدن" في تعاملها مع الصين.
ختامًا، إن توقيع هذا الاتفاق يُعد انتصارًا دبلوماسيًا وجيواستراتيجيًا للصين، وفي المقابل فهو خسارة فادحة للولايات المتحدة، خاصة مع انضمام (اليابان، كوريا الجنوبية، أستراليا) أقرب حلفائها في آسيا والمحيط الهادئ، مما سيصعب مهمة إدارة "بايدن" في موازنة تنامي النفوذ الصيني في القارة الآسيوية. ومن ثم فعلى "بايدن" أن يدرك أهمية تغيير سياساته الخارجية تجاه آسيا، وقد يتمثل الخيار الأمثل للولايات المتحدة لمعالجة هذا الموقف في إعادة انخراطها الكامل في الشبكات الاقتصادية الإقليمية الآسيوية جنبًا إلى جنب مع الاعتماد على دور أمني نشط في بحر الصين الجنوبي.
فمن ناحية يمكن للولايات المتحدة أن تنضم إلى الاتفاقية الشاملة والمتقدمة للشراكة عبر المحيط الهادئ الموقعة عام 2018، بل وتدعو إلى توسعها السريع لتشمل مزيدًا من الدول (مثل: إندونيسيا، والفلبين، وكوريا الجنوبية، وتايلاند، والمملكة المتحدة)، مما قد يساعدها على تحجيم النفوذ الصيني.
ومن ناحية أخرى، يمكن للولايات المتحدة أن تستمر في التنسيق مع الدول الآسيوية، خاصة دول الآسيان واليابان، لاستمرار إجراء التدريبات والمناورات المشتركة في بحر الصين الجنوبي المتنازع عليه بين عدد من دول الآسيان والصين، وذلك بهدف التأكيد على استمرار وجود الولايات المتحدة كقوة بحرية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، مما قد يعمل على تحجيم النفوذ الصيني المتصاعد في هذه المنطقة.