عرض: د/ إسراء إسماعيل - خبير في الشؤون السياسية والأمنية
تمثل الحملات الانتخابية الرئاسية في الولايات المتحدة الأمريكية -بما تشمله من دعاية انتخابية- عاملًا رئيسًا في العملية الانتخابية، وتعد آلية مهمة لعرض أفكار المرشحين وبرامجهم، بهدف دفع الناخبين لتأييدهم واختيارهم، ولكن هل تعتبر الحملات الانتخابية وحدها كافية لاختيار مرشح دون آخر؟
هذا ما طرحه المحلل السياسي والمؤرخ "ألان ليختمان" في كتابه "التنبؤ بالرئيس القادم: مفاتيح البيت الأبيض"، والذي انتقد خلاله التركيز على الحملات الانتخابية، والخطب الدعائية، ودعا إلى التركيز على القضايا الجوهرية والأداء الفعلي للأحزاب، وقدَّم في هذا الإطار ثلاثة عشر عاملًا تاريخيًّا، أو "مفاتيح" لقياس أداء الأحزاب، وتحديد نتيجة الانتخابات الرئاسية.
محاولات إصلاح العملية الانتخابية
أقر الكونجرس بأهمية حماية نزاهة الديمقراطية الأمريكية، وأصدر قانون مساعدة أمريكا على التصويت لعام 2002 (Help America Vote Act)، والذي أنشأ لجنة جديدة لمساعدة الولايات على إصلاح أنظمتها الانتخابية، ويؤكد "ليختمان" أن عمل اللجنة سيستمر لسنوات عديدة، لا سيما بالنظر إلى محدودية التمويل المتاح والنظام الانتخابي اللامركزي في الولايات المتحدة؛ حيث تختلف الإجراءات عبر مختلف الولايات، وبين المقاطعات داخل الولايات.
وفي عام 2005، شكَّل الرئيس السابق "جيمي كارتر" والجمهوري "جيمس بيكر" لجنة مستقلة للإصلاح الانتخابي، تم تنظيمها تحت رعاية مركز الديمقراطية وإدارة الانتخابات بالجامعة الأمريكية، وأكد "كارتر" على أهمية تحديد نظام انتخابي للقرن الحادي والعشرين يستعيد ثقة وفخر الأمريكيين مرة أخرى في وطنهم، ويوضح "ليختمان" أن هذا التركيز المتجدد على العملية الديمقراطية الأمريكية يسلِّط الضوء على أهمية فهم العملية الانتخابية، ليس فقط من الناحية الفنية والإجرائية، ولكن الأهم هو فهم أفكار المرشحين الرئاسيين وأحزابهم، فالديمقراطية الحقيقية تتطلب ليس فقط توفُّر أنظمة عادلة ودقيقة للتصويت، ولكنها تتطلب أيضًا استكشافًا صريحًا وواسع النطاق للقضايا التي تحيط بالمشهد الانتخابي.
ومع ذلك، يتعرض الأمريكيون كل أربع سنوات لحملات انتخابية وصفها "ليختمان" بأنها سطحية ومتشابهة؛ لأن وسائل الإعلام والمرشحين والقائمين على استطلاعات الرأي والمستشارين متواطؤون على فكرة واحدة، وهي أن الانتخابات ليست سوى مناورات سياسية يتم من خلالها التلاعب بالناخبين، مما يتسبب في إنتاج حملات انتخابية سلبية، ومناقشات سطحية لا معنى لها، مؤكدًا أن إصلاح السياسات الأمريكية لن يتحقق حتى يدرك الأمريكيون وصانعو القرار أن الانتخابات الرئاسية تدور حول مدى جودة الحكم والإدارة، وليس حول أداء المرشحين في الحملات الانتخابية، ويتطلب ذلك أن يتخلى الطامحون للرئاسة عن وسائل الدعاية الهجومية، وبدلًا من ذلك السعي للتعبير بوضوح عما يجب على الأمريكيين إنجازه خلال السنوات الأربع المقبلة في فترة الحكم.
ثلاثة عشر مفتاحًا للبيت الأبيض
يرى "ليختمان" أن دراسة التاريخ تُظهر أن الناخبين الأمريكيين البراجماتيين يختارون الرئيس وفقًا لأداء الحزب الذي يتولى إدارة البيت الأبيض، والأحداث السياسية، والأوضاع الاقتصادية، ونجاحات السياسة الخارجية وإخفاقاتها، والاضطرابات الاجتماعية، والفضائح، والسياسات المبتكرة، فإذا كان الأداء العام جيدًا خلال فترة الحزب الحاكم؛ يفوز بأربع سنوات أخرى، أما إذا لم يتمكن من تحقيق الأداء المنشود يفوز الحزب المنافس.
تستند هذه الرؤية إلى ما أطلق عليه "ليختمان" "مفاتيح البيت الأبيض"، وهو نظام تنبؤ مكوَّن من 13 مفتاحًا، طرحه لأول مرة في عام 1981، ويُظهر النظام أنه من الممكن التنبؤ بنتائج الانتخابات الرئاسية من المؤشرات التي تتابع بشكل أساسي أداء الحزب الحاكم للبيت الأبيض، وتتمثل هذه المفاتيح في التالي:
١- تفويض الحزب القائم: أن يشغل الحزب الحاكم مقاعد بالكونجرس بعد انتخابات التجديد النصفي أكثر مما كان عليه بعد انتخابات التجديد النصفي السابقة.
٢- سباق الترشح: عدم وجود منافسة حقيقية أمام الحزب الحاكم.
٣- شَغْل المنصب: أن يكون مرشح الحزب الحالي هو الرئيس الحالي.
٤- منافس ثالث: عدم وجود حملة انتخابية لحزب ثالث أو مستقل يتمتع بثِقل أو أهمية.
٥- الوضع الاقتصادي على المدى القصير: ألَّا يعاني الاقتصاد من حالة ركود خلال الحملة الانتخابية.
٦- الوضع الاقتصادي على المدى البعيد: أن يكون النمو الاقتصادي السنوي الحقيقي للفرد خلال فترة الحكم مساويًا -أو يتجاوز- متوسط النمو خلال الفترتين السابقتين.
٧- تغيير السياسة: أن يكون للإدارة القائمة تأثير على التغيرات في السياسة الوطنية.
٨- الاضطرابات الاجتماعية: عدم وجود اضطرابات اجتماعية مستمرة خلال فترة الحكم.
٩- الفضيحة: الإدارة الحالية غير ملوثة بالفضائح.
١٠- الفشل الأجنبي أو العسكري: ألَّا تعاني الإدارة الحاكمة من فشل في الشؤون الخارجية أو العسكرية.
١١ - النجاح الخارجي أو العسكري: أن تتمكن الإدارة القائمة من تحقيق نجاح كبير في الشؤون الخارجية أو العسكرية.
١٢- الكاريزما: أن يتمتع مرشح الحزب الحاكم بشخصية كاريزمية أو يظهر في صورة بطل قومي.
١٣- كاريزما المنافس: ألَّا يتمتع مرشح الحزب المنافس بشخصية كاريزمية.
ويوضح "ليختمان" أن هذه المفاتيح تعد بمثابة شروط أو معايير لقياس الأداء، وفي هذا الإطار تقيس المفاتيح الأربعة الأولى (المفاتيح السياسية) بشكل أساسي قوة ووحدة الحزب الحاكم، بينما تقيس المفاتيح من 5 إلى 11 (مفاتيح الأداء السبعة) إنجازات الحزب وإخفاقاته عبر مجموعة واسعة من الاهتمامات، ويشير المفتاحان الأخيران (مفتاحا الكاريزما) إلى أن الشخصية تُحدِث فَرقًا في السياسة الرئاسية، لكن الاختلاف مهم فقط عندما يكون المرشح إما مقنعًا بشكل غير عادي أو يتمتع بمكانة بطولية.
ويضيف "ليختمان" أنه في حالة عدم تحقق خمسة معايير أو أقل يفوز الحزب الحاكم، أما في حالة عدم تحقق ستة أو أكثر يخسر الحزب القائم، وعلى عكس العديد من النماذج التي طورها علماء السياسة لا تتضمن المفاتيح أية بيانات استطلاعية، لكنها تستند إلى الصورة الكبيرة الخاصة بأداء الحزب الحاكم والدولة قبل الانتخابات، بالإضافة إلى ذلك، لا تفترض المفاتيح أن آراء الناخبين مدفوعة بالمخاوف الاقتصادية وحدها، بل بناءً على تقييم واسع النطاق لأداء الأحزاب.
التنبؤ بنتائج الانتخابات
أكد "ليختمان" أن المفاتيح تمثل تطبيقًا زمنيًا ناجحًا لنتائج كل انتخابات رئاسية جرت منذ عام 1860 حتى عام 1980 بأثر رجعي، وهي فترة أطول بكثير من أي نظام تنبؤ آخر، ومن الناحية المستقبلية، تنبأت المفاتيح في وقت مبكر بالفائزين في كل انتخابات رئاسية من عام 1984 حتى عام 2016؛ حيث يؤكد الكتاب أنه في عام 1992 فقد "جورج بوش" الأب فرصته في ولاية ثانية -كما توقعت المفاتيح- بسبب الاقتصاد المتعثِّر، والافتقار إلى الإنجازات المحلية، كما تنبأت المفاتيح في أبريل 2003 بإعادة انتخاب الرئيس "جورج دبليو بوش" عام 2004، أي قبل عام ونصف من الانتخابات، مع عدم وجود منافس له في حزبه، أو منافسة جادة من طرف ثالث، كما كان سِجلُّه المختلط من الإنجازات في الداخل والخارج كافيًا لتوقُّع فوزه في عام 2004.
كذلك أشارت المفاتيح في توقعات نُشرت في بداية عام 2010، إلى احتفاظ الديمقراطيين بمؤشرات إيجابية كافية لتأمين إعادة انتخاب الرئيس "باراك أوباما" في الانتخابات الرئاسية لعام 2012، وذلك بالرغم من التعافي البطيء من واحدة من أسوأ الكوارث الاقتصادية في الولايات المتحدة، وانخفاض معدلات التأييد الرئاسي، ولذلك شكَّلت التوقعات مفاجأة وتحديًا كبيرًا، وقد تنبأ الكاتب بفوز "دونالد ترامب" بالبيت الأبيض في عام 2016 قبل أسابيع من تلك الانتخابات.
ويؤكد "ليختمان" أن نظام المفاتيح يطرح توقعاته الخاصة بالتصويت الشعبي الوطني فقط، وليس التصويت داخل الولايات الفردية، مشيرًا إلى أنه في ثلاث انتخابات منذ عام 1860 كان هناك فارق كبير بين نتائج التصويت الشعبي مقارنة بنتائج المجمع الانتخابي، وبالرغم من ذلك اتسمت النتائج الخاصة بتحديد الفائزين في الانتخابات وفقًا لنظام المفاتيح بالدقة، ولكن يرى بعض المحللين أنه ربما تطرأ تغيرات مستقبلًا؛ نظرًا للانقسام الحاد في أمريكا بين "الولايات الحمراء" الجمهورية و"الولايات الزرقاء" الديمقراطية.
الدروس المستفادة من المفاتيح
على الرغم من أن نظام المفاتيح -والذي تم تطويره للانتخابات الأمريكية- لا يمكن تطبيقه على الأنظمة السياسية الأخرى، فإن الدروس المستفادة منه لها آثار عالمية؛ حيث تسهم في نشر الديمقراطية، وتشير التجربة الانتخابية في الولايات المتحدة -كما تم قياسها من خلال المفاتيح- إلى أن القادة الذين يكتسبون السلطة في المجتمعات الديمقراطية يكون تركيزهم الأساسي على جودة الحكم، وليس الدعاية السياسية.
ويؤكد "ليختمان" أنه مع انتشار الديمقراطية في جميع أنحاء العالم في القرن الحادي والعشرين، ينبغي لقادة العالم أن ينتبهوا إلى أن أولئك الذين يخدمون شعوبهم بشكل جيد سينجحون في انتخابات حرة ونزيهة، مقابل فشل آخرين، بغض النظر عن مدى براعة مستشاريهم أو حملاتهم الانتخابية، حيث أظهرت المفاتيح أن ما يهم في الانتخابات الرئاسية هو الحُكم الفَعَّال، كما يتم قياسه من خلال الأحداث اللاحقة لفترة الرئاسة، من خلال التركيز على جوهر القضايا، وليس الحملات الدعائية؛ لأن الجمهور لا ينخدع، وبالتالي فالجهود المبذولة للتلاعب من خلال وسائل الإعلام لا تتسبب سوى في إهدار الوقت والجهد والموارد.
وعن ما إذا كان مجرد معرفة المفاتيح يفتح الباب أمام إمكانية محاولة التلاعب بها، يؤكد "ليختمان" أن الإدارات الأمريكية تبذل ما في وسعها لتحفيز الاقتصاد في عام الانتخابات، وتحقيق إنجازات داخلية وخارجية، لكن يتم الحكم على الحزب الحاكم وفقًا لنجاحاته وإخفاقاته الحقيقية، وهو سجل لا يمكن تصنيعه أو تزويره من قِبل أي طرف.
وختامًا، يؤكد "ليختمان" أهمية تطوير الحزب الحاكم لجداول أعمال للمستقبل، بحيث يكون تركيزه الأساسي على الاستمرار في الحكم بأكبر قدر ممكن من الفاعلية؛ من أجل منع الإطاحة بأي مفاتيح إضافية، وهذا لا يعني تبني استراتيجية دفاعية، بل يعني أن تواصل الإدارة أسلوب الحكم الذي يضعها في المقدمة، وأن تكون مستعدة للتعامل مع التحديات فور ظهورها.
المصدر:
Allan Lichtman, Predicting the Next President: The Keys to the White House, (London and New York: Rowan and Littlefield, 2020).