في ظل التوتر الذي يشوب العلاقات الصينية-الأمريكية، وتعدد أسباب هذا التوتر بدءاً من الحرب التجارية إلى فرض البلدين عقوبات على بعض مسؤوليهما بسبب الخلاف حول الاحتجاجات في هونج كونج، وقضية الإيغور في مقاطعة تشينجيانج؛ تأتي الانتخابات الرئاسية الأمريكية المزمع عقدها في نوفمبر المقبل، لتصبح مجالًا جديدًا للتوتر بين البلدين.
حيث تحدّث مستشار الرئيس الأمريكي للأمن القومي "روبرت أوبراين" عن وجود معلومات استخباراتية تفيد بأن كلًّا من الصين وروسيا وإيران تسعى للتأثير على مسار الانتخابات الأمريكية. وصرّح بأن الصين تبذل جهودًا مضنية للتأثير على الانتخابات الأمريكية من خلال التأثير على الرأي العام الأمريكي والمواطنين الأمريكيين، من خلال إطلاق حملات لتضليل الرأي العام والمواطنين الأمريكيين على وسائل التواصل الاجتماعي .
وبافتراض صحة المعلومات الاستخباراتية، فإن قطاعًا كبيرًا من الخبراء يرون أنه -في الغالب- لن تقوم هذه الحملات بدعم مرشح معين للرئاسة الأمريكية على حساب آخر؛ بل إن هدف هذه الحملات سيكون العمل على تحسين صورة الصين الدولية من خلال التأكيد على أنها دولة تتمتع بإدارة قوية ورشيدة، واستطاعت أن تدير أزمة جائحة فيروس كورونا بشكل فعال. والترويج للرواية الصينية حول ما يحدث في هونج كونج ومقاطعة تشينجيانج لكسب مزيد من التعاطف.
وفي ضوء هذه المزاعم الاستخباراتية الأمريكية، فضلًا عن توتر العلاقات مع إدارة "ترامب"، فإن بكين تلتزم الصمت والحرص والتحفظ الشديد تجاه تأييد أي من المرشحين. لكن هذا لا ينفي اهتمامها بالانتخابات الأمريكية ونتائجها، والتي ستُحدد مسار العلاقات الثنائية بين البلدين خلال السنوات الأربع المقبلة. حيث يدور في بكين نقاش وانقسام حاد بشأن المرشح الذي يمثل التهديد الأكبر للصين في المرحلة الدقيقة المقبلة.
حيث يوجد فريقان؛ يؤيد الفريق الأول صعود "بايدن"، في حين أن الفريق الثاني يؤيد إعادة انتخاب "ترامب". وفيما يلي نستعرض أهم دوافع كلا الفريقين لدعم أي من المرشحين في الانتخابات الأمريكية المقبلة.
فريق مؤيد لـ "بايدن":
قام الرئيس الصيني "تشي جين بينغ" عام 2013 بوصف "جو بايدن" بأنه صديق قديم. فقد كان "بايدن" من أوائل أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي الذين زاروا الصين في أبريل 1979، حيث التقى بالزعيم الصيني "دنغ شياو بينغ" بعد ثلاثة أشهر فقط من إقامة العلاقات الرسمية بين بكين وواشنطن.
وقد اعتاد "بايدن" على التباهي بعلاقته الوطيدة بالرئيس الصيني الحالي، حيث قال "بايدن" أمام اجتماع لمجلس العلاقات الخارجية في عام 2018: "لقد قضيت وقتًا أطول في الاجتماعات الخاصة مع "تشي جين بينغ" أكثر من أي زعيم آخر".
وعلى الرغم من أن "بايدن" يعد من أهم الساسة الأمريكيين المؤيدين لسياسة المشاركة الاستراتيجية مع الصين، والتي تم اتّباعها منذ إقامة العلاقات بين البلدين؛ إلا أنّه من غير المرجّح أن يتّبع السياسة نفسها مع بكين حال فوزه في الانتخابات المقبلة. ففي مناظرة أولية للحزب الديمقراطي، شجب "بايدن" ممارسات الصين في تشينجيانج، واعتبر الرئيس الصيني "سفاحًا لاحتجازه مليون مسلم من عرقية الإيغور في معسكرات اعتقال".
فضلًا عن أن "بايدن" بدأ يستخدم خطابًا متشددًا في حملته الانتخابية تجاه الصين بعدما روج المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية "تشاو ليجيان" في مارس الماضي أنه من المحتمل أن فيروس كورونا لم ينشأ في ووهان، بل إن الجيش الأمريكي هو من قام بنشره هناك.
وفي هذا السياق، لا يقوم مؤيدو وصول "بايدن" لسدة الرئاسة برسم سيناريو متفائل حول العلاقات الصينية-الأمريكية، ولكنهم -على أقل تقدير- يرون أن فوزه سيؤدي إلى استبدال خطاب "ترامب" الهجومي بخطاب يتسم بمزيد من التوازن والرغبة في العمل مع بكين بشأن القضايا ذات الاهتمام المشترك.
فضلًا عن أن النخبة الصينية المثقفة التي نالت قدرًا من التعليم في الغرب، يأملون في أن يؤدي فوز "بايدن" إلى استعادة البرامج الثقافية والتعليمية المتبادلة بين البلدين، مما سيعمل على تعزيز مجالات التعاون المشترك.
كما يرى مؤيدو هذا الفريق أن "بايدن" البالغ من العمر 77 عامًا، من المرجح أن يكون رئيسًا لولاية واحدة فقط، مما يعني أنه من غير المحتمل أن يهدر وقته الثمين في الصراع مع الصين، خاصة مع وجود تحديات داخلية جسيمة تواجهه، وعلى رأسها إنعاش الاقتصاد الأمريكي، ومنع انزلاق البلاد نحو حرب أهلية.
ومن المرجّح حال فوز "بايدن" أن تتميز العلاقات الصينية-الأمريكية بمزيج من التعاون والتنافس، فقد يتم التعاون في بعض الملفات مثل: التغير المناخي، ومكافحة الأوبئة، والاستقرار المالي العالمي. ويتضح ذلك من تصريحات "بايدن" حول السياسة التي سيعتمدها تجاه الصين، ففي حين أكد أن تنويع سلاسل التوريد مسألة تتعلق بالأمن القومي الأمريكي؛ إلا أنه أشار بالنسبة للقضايا الخلافية الأخرى مع الصين إلى أنه لا يفضل اتخاذ إجراءات أحادية الجانب من قبل إدارته، وأنه سيسعى إلى تشكيل تحالف دولي للضغط على الصين.
ورغم منطقية هذه الحجج، إضافةً إلى أن "ترامب" صرح في أكثر من مناسبة بأن الصين تدعم وصول "بايدن" للبيت الأبيض ، إلى درجة أن "ترامب" قال إن على الأمريكيين البدء في تعلم اللغة الصينية حال فوز "بايدن"، كناية عن أن الصين ستستحوذ على الولايات المتحدة؛ ورغم كل ذلك إلا أنه لا توجد أي مؤشرات واضحة على غلبة الفريق المؤيد لـ"بايدن" في دوائر صنع القرار الصينية. بل على العكس، فقد قام السفير الصيني في واشنطن بنفي هذا الأمر في بداية شهر أغسطس، وذلك عندما دعا إدارة "ترامب" إلى بدء الحوار للبحث عن حلول للمشاكل القائمة بين البلدين في أي وقت وأي مكان. مما ينفي ما يتردد عن أن بكين تعلّق آمالها على انتخاب "جو بايدن" لبدء الحوار مع الولايات المتحدة .
ترامب ودعم صعود الصين !
رغم أن العلاقات الصينية-الأمريكية شهدت تدهورًا حادًّا في عهد "ترامب"، وأنه قد يكون من البديهي ألا تدعم أو ترغب الصين في تولي "ترامب" لولاية رئاسية أخرى بالولايات المتحدة الأمريكية؛ إلا أن الواقع يشهد عكس ذلك، ويبدو أن معظم صنّاع السياسة الخارجية الصينية ينتمون إلى هذا الفريق، ويؤيدون استمرار "ترامب" في حكم الولايات المتحدة.
حيث يؤكد "وانج يوي"، مدير معهد الشؤون الدولية بجامعة رينمين الصينية، أن العديد من المواطنين الصينين يرغبون في فوز "ترامب"، وذلك "لأنهم يعتقدون أن "ترامب" دمر النظام الأمريكي وتحالفاته"، مما يعني أنه إذا استمر "ترامب" في انتهاج الأسلوب نفسه، فقد تكون هناك فرصة كبيرة للصين لتعزيز مكانتها الدولية.
ومما يدعم ذلك أن قطاعًا كبيرًا من مستخدمي الإنترنت في الصين يعبرون عن أن وجود "ترامب" في سدة السلطة وتعثره في إدارة الولايات المتحدة هو بمثابة "نعمة ومصلحة كبيرة" للدولة الصينية، وذلك لأن إدارة "ترامب" تتميز باتخاذها إجراءات أحادية الجانب ضد الصين، وهو ما يُتيح الفرصة للأخيرة للتأكيد على أن "ترامب" يتنمر ضدها ومنزعج بشأن حقها المشروع في النمو. ولكن "بايدن" قد صرح بأنه سيشكّل تحالفًا دوليًّا للضغط على الصين، وهو ما سيضع الصين في موقف صعب للغاية، ويهدد شرعية الحزب الشيوعي، مما سيعني إمكانية تقويض استقرار النظام الصيني. وهذا سببٌ كافٍ لجعل الصين لا تحبذ وصول "بايدن" إلى البيت الأبيض.
ومما يؤكد غلبة الفريق المؤيد لإعادة انتخاب "ترامب" داخل دوائر السياسة الخارجية الصينية، هو قيام "هو شيجين" الصحفي الصيني البارز ومحرر صحيفة "جلوبال تايمز" الناطقة باسم الحزب الشيوعي الصيني، بالتغريد عبر موقع توتير في 24 يونيو الماضي لحث الشعب الأمريكي على إعادة انتخاب "ترامب"، وذلك "لأن فريقه يضم العديد من الأعضاء المجانين مثل وزير الخارجية مايك بومبيو". وأشار إلى أن إدارة "ترامب" "تساعد الصين في تعزيز التضامن والتماسك الداخلي بشكل مميز، وهو ما يُعد أمرًا حاسمًا لدعم صعود الصين"، وأنهى تغريدته بتقديم الشكر لإدارة "ترامب" بصفته عضوًا في الحزب الشيوعي الصيني.
وتجدر الإشارة إلى أنه حال فوز "ترامب" بولاية رئاسية ثانية، فمن المرجح أن تشهد العلاقات الأمريكية-الصينية استمرارًا في التوتر. فهناك العديد من الصقور بإدارة "ترامب" الذين يرون في الصعود الصيني والحزب الشيوعي الصيني تهديدًا وجوديًّا للولايات المتحدة، وعلى رأس هؤلاء الصقور: وزير الخارجية "مايك بومبيو"، ونائب مستشار الأمن القومي "ماثيو بوتينجر"، والمستشار التجاري للبيت الأبيض "بيتر نافارو".
كما أثبت "ترامب" خلال فترة رئاسته الأولى أنه على استعداد لإثارة قضايا غاية في الحساسية بالنسبة لبكين، مثل: (أقلية الإيغور، ومظاهرات هونج كونج، ووضع تايوان، وكذلك التواجد الصيني في بحر الصين الجنوبي)، وهذه القضايا لا تخلق توترًا في العلاقات الثنائية بين واشنطن وبكين فحسب؛ بل تمثل أزمة داخلية للحزب الشيوعي الصيني، وتؤثر على شرعيته.
وهذه الحقائق الهامة، ليست غائبة عن ذهن الفريق المؤيد لحصول "ترامب" على ولاية رئاسية ثانية، ولكنهم يرون أن التوتر الشديد الذي شاب العلاقات بين البلدين مؤخرًا يرجع بشكل أساسي إلى اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية. وقد يستمر "ترامب" في تبني مثل هذا الخطاب لفترة معينة حال فوزه بولاية ثانية، لكنه في نهاية المطاف سيتعين عليه أن يلجأ إلى طاولة المفاوضات، وقد تروّج إدارته لذلك على أنه انتصار دبلوماسي لها. ففي نهاية المطاف ليس من مصلحة كلا الطرفين إحداث ضرر لا رجعة فيه للعلاقات الصينية الأمريكية.
ختامًا، تُدرك الصين بشكل كامل أنه سواء فاز "ترامب" بفترة رئاسية ثانية أو فاز "بايدن" بفترة رئاسية واحدة، فإنه من غير المرجح أن تعود الولايات المتحدة إلى انتهاج سياسة "المشاركة الاستراتيجية" مع بكين والتي كانت متبعة قبل عام 2017. فكلا المرشحين الجمهوري والديمقراطي لا يمثلان الخيار الأمثل والأكثر جاذبية للصين. ولكن يبدو أن الصين أكثر ميلًا نحو إعادة انتخاب "ترامب"، وذلك في ظل ميل "ترامب" إلى كسر التحالفات التقليدية، والانسحاب من الاتفاقيات متعددة الأطراف؛ مما يُضعف من القوة الأمريكية، وهو دون شك ما سيفيد الصين لبسط مزيدٍ من نفوذها، وتعزيز قوتها على المستوى الدولي.