يحاول المبعوث الأممي إلى اليمن «مارتن غريفيث»، منذ مطلع مايو الماضي، إقناع الحكومة الشرعية وجماعة «الحوثيين» بالموافقة على مبادرة اقترحها ونال دعماً لها من مجلس الأمن الدولي، بهدف وقف شامل لإطلاق النار والتمهيد لاستئناف المفاوضات السياسية لإنهاء النزاع. لكن المبعوث اضطر إلى تعديل ما يسمّيه «الإعلان المشترك» أكثر من مرّة. ففي النسخة الأولى أخذ في الاعتبار تحوّلات ميدانية لمصلحة «الحوثيين»، فضلاً عن ظروف تفشي وباء «كورونا» ومناخ دولي يرمي إلى تهدئة الصراعات المسلّحة أو تهدئتها، فطرح وقفاً للنار في مأرب مقابل وقف العمليات الجوّية المكثّفة لـ «التحالف العربي»، ووافقت الحكومة و«التحالف»، لكن الانقلابيين اشترطوا تعديلات واستأنفوا إطلاق الصواريخ على الأراضي السعودية. وفي يوليو عاد بنسخة ثانية تمنح «الحوثيين» دور شريك في اتخاذ قرارات تتعلّق بموارد النفط والغاز والبنك المركزي، فرفضتها الحكومة لأنها تنتقص من سيادتها ومسؤولياتها.
في أغسطس عاد بنسخة ثالثة تركّز على تشكيل لجان مشتركة لمراقبة وقف النار وتبادل الأسرى وتسهيل عمل الطواقم الطبّية لمعالجة المصابين بالفيروس. أبدت الحكومة موافقة مبدئية، مشترطةً حصول ضمانات أممية لالتزام «الحوثيين» ما يُتّفق عليه، كأن ينفّذوا «اتفاق ستوكهولم» (أواخر 2018) في ما يتعلّق بالحُديدة ومينائها، أو أن يستجيبوا المطالبات الدولية بحل مشكلة الخزّان النفطي العائم «صافر» قبل أن تتسبّب تسرّباته بكارثة بيئية. لم يحصل غريفيث على أي ضمان، فـ«الحوثيون» يستخدمون «صافر» ورقة ابتزاز لانتزاع مكاسب، لذلك فضّل العمل على «الممكن» فدعا الطرفين إلى جنيف للبحث في تبادل إطلاق نحو 15 ألف أسير ومعتقل. هذا الملف الإنساني المهم كان أحد البنود الرئيسية في «اتفاق ستوكهولم»، وأشبع درساً في اجتماعات عُقدت في عمّان، ولم تُحرز فيه سوى تبادلات محدودة. لعل المحاولة الجديدة تنجح رغم أن «الحوثيين» يريدون حصرها بأسرى الحرب وحدهم من دون المعتقلين وهم من المدنيين المسجونين ظلماً.
في العادة يُعتبر إطلاق الأسرى من خطوات «بناء الثقة» قبل استئناف التفاوض السياسي، لكن هذا الهدف ليس مضموناً. إذ يسعى «الحوثيون» منذ شهور إلى السيطرة على مأرب كاختراق استراتيجي، ليفرضوا على الأقل تقاسماً للنفط. وفي حال نجحوا في ذلك لن يعودوا في حاجة إلى التفاوض. وعدا أن هذا التقاسم مرفوضٌ عموماً، فإن التجربة مع عائدات ميناء الحُديدة لا تشجع على الوثوق بـ«الحوثيين»، إذ أنهم باعتراف «غريفيث» نفسه استولوا على الأموال المخصصة لدفع رواتب المواطنين.
هذه الواقعة مجرّد عينة من انتهاكات كثيرة لـ «اتفاق ستوكهولم»، ولعلّها وراء أحجام العديد من الدول المانحة عن دفع مساعدات سبق أن التزمتها لليمن، كما شكت الأمم المتحدة أخيراً. لذا تصاعدت أخيراً الأصوات المطالبة بإلغاء ذلك الاتفاق، لكن من دون تفعيل حملة جديدة موالية للحكومة لتحرير الحُديدة. لا يزال «غريفيث» متمسّكاً بالاتفاق كوثيقة تبرّر تحركه ولو بلا جدوى، أما «الحوثيون»، فكانوا استغلّوا وقف الهجوم على الحُديدة لنقل مقاتليهم إلى الجوف ومأرب مروراً بجبهة نهم. قد يتساهلون في ملف الأسرى، فقط لحاجتهم إلى استعادة بضعة آلاف من المقاتلين الذين يمكن إعادة تأهيلهم سريعاً لدفعهم إلى جبهات مأرب. أما العودة إلى التفاوض فتلك مسألة لا يقررها «الحوثيون» بل الإيرانيون.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد.