أحدثت استقالة رئيس الوزراء التونسي "إلياس الفخفاخ"، في 15 يوليو الماضي، إرباكًا شديدًا في المشهد التونسي المتأزم، حيث قضى خمسة أشهر فقط في الحكومة، وبناءً عليه أصبح لزامًا على رئيس الجمهورية "قيس سعيد" أن يختار خلال 10 أيام منذ الاستقالة مرشحًا جديدًا لمنصب رئيس الوزراء، على أن يتم منحه مدة لا تتجاوز الشهر لتشكيل الحكومة الجديدة تمهيدًا لمنحها الثقة من جانب البرلمان. إلا أن حالة الانقسام المتأجج في البرلمان التونسي دفعت "قيس سعيد" إلى تكليف مستشاره الرئاسي ووزير الداخلية السابق "هشام المشيشي" بتشكيل الحكومة الجديدة، التي تُعد الحكومة الثالثة التي يتم تشكيلها منذ إجراء الانتخابات التشريعية في أكتوبر الماضي، وذلك بعد أن فشلت حكومة "الجملي" في الحصول على ثقة البرلمان، واستقالة حكومة "الفخفاخ" بعد توجيه اتهامات لها بالفساد وتضارب المصالح لرئيسها.
وفي حين نجحت حكومة "المشيشي"، صباح الأربعاء 2 سبتمبر، في الحصول على ثقة البرلمان بأغلبية (134) صوتًا من إجمالي (217) عضوًا؛ فقد رفضها (67) نائبًا. كما تسلّمت مهام عملها رسميًّا من الحكومة المستقيلة في إجراء ديمقراطي حرصت تونس منذ الثورة على ترسيخه.
سياقات تشكيل الحكومة:
واجه "المشيشي" في البداية معارضة حزبية، سواء من جانب حزب النهضة أو التيار الديمقراطي، حيث اعتبرت تلك الأحزاب أن "قيس سعيد" قد تجاوز الفصائل السياسية الرئيسية، سواء في اختيار رئيس الحكومة أو تشكيل الحكومة، وأن ذلك التشكيل يتعارض مع طبيعة الديمقراطية البرلمانية. إلا أنه في النهاية، قرر مجلس شورى حركة النهضة دعوة كتلته النيابية إلى التصويت لفائدة منح الثقة لحكومة "المشيشي"، تغليبًا للمصلحة الوطنية. كما قرر حزب قلب تونس، خلال اجتماع لمجلسه الوطني، دعوة الكتلة النيابية للحزب (27 نائبًا) لمنح الثقة لحكومة "المشيشي". وفي المقابل، أعلن المكتب السياسي لحركة الشعب عدم منح الثقة، كما أعلن ائتلاف الكرامة عن رفضه منح الثقة أيضًا، وعن عدم خشيته من حل البرلمان ومن إعادة الانتخابات.
كما استغلّت زعيمة الحزب الدستوري الحر "عبير موسى" حالة الإحباط التي خلّفتها استقالة "الفخفاخ" والانقسام الحزبي داخل البرلمان، في محاولةٍ للضغط على "هشام المشيشي" لإيقاف الحكومة الجديدة، حيث تتوقع أن تحصل على عدد أكبر من المقاعد حال إجراء انتخابات برلمانية جديدة. فوفقًا لآخر استطلاع للرأي، تبين أن "عبير موسى" تأتي في المرتبة الثانية بعد "سعيد فرجاني" كأكثر السياسيين شعبية في البلاد، وأظهرت النتائج أن (28%) من المشاركين في الاستطلاع سيصوتون لصالح الحزب الدستوري الحر مقابل (23%) لحزب النهضة.
لماذا حكومة "المشيشي"؟
تتمثل أهم دوافع اختيار "المشيشي" وحصول حكومته على الثقة في عدد من الأسباب التي يمكن الإشارة إليها فيما يلي:
1-شخصية "المشيشي": حيث جاء اختيار الرئيس "قيس سعيد" للمشيشي لمنصب رئيس الوزراء، ليحقق مجموعة من الأهداف لعل من بينها إيصال رسالة من قبل الرئيس بأنه مازال يهتم بالقواعد الشبابية التي انتخبته، حيث إن "المشيشي" يبلغ من العمر (46) عامًا فقط، وهو من منطقة جندوبة الشمالية الغربية المهمشة تقليديًّا، وليس من المناطق الساحلية التي تنحدر منها معظم الشخصيات السياسية في تونس. ولذا فإن اختيار "المشيشي" يُرجَّح أن يرضي بعض ناخبي "قيس سعيد" الذين كان أغلبهم من الشباب الثوري، الذين أُصيبوا بالإحباط بسبب عدم اهتمامه بالفوارق الاجتماعية والاقتصادية التي أدت إلى انطلاق شرارة ثورة الياسمين.
2- مكافحة الفساد: يأتي اختيار "المشيشي" أيضًا متواكبًا مع تركيز "سعيد" على مكافحة الفساد، وهي القضية الرئيسية في حملته الرئاسية. حيث خدم "المشيشي" في لجنة التحقيق في الاختلاس والفساد بعد الثورة، والتي حققت في انتهاكات عهد "بن علي"، كما عمل في الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد. ونظرًا لأن مكافحة الفساد تقع تحت ولاية رئيس الوزراء، وليس الرئيس؛ فسوف تكون لدى "سعيد" فرصة كبيرة لتنفيذ مبادراته لمكافحة الفساد، والتي بدأها بأعضاء حكومته، حيث عرض قائمة الوزراء على الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد للتثبت من خلوّ سجلاتهم من أية شبهات فساد أو تضارب مصالح، أو قضايا تهرب ضريبي.
3- حكومة تكنوقراط مستقلة: حرص الرئيس التونسي منذ البداية على اختيار "المشيشي" باعتباره شخصية مستقلة غير حزبية، وذلك في محاولة لملء الفراغ بعيدًا عن الأحزاب المنقسمة وخارج دائرة التجاذبات السياسية، حيث كلفه بتشكيل حكومة تكنوقراطية غير حزبية من الشخصيات المستقلّة من: القضاة، والتنفيذيين، والأكاديميين، والموظفين الحكوميين، والمسؤولين التنفيذيين من القطاع الخاص. حيث تضمّ حكومة "المشيشي" المعلنة (28) عضوًا و(25) وزيرًا و(3) كتّاب دولة، ومن بينهم (8) نساء، وغالبيتهم غير معروفين من الرأي العام. فوزير الدفاع الجديد "إبراهيم برطاجي"، هو أستاذ قانون في الجامعة التي سبق وعمل فيها الرئيس "قيس سعيد"، كما أن وزير العدل "محمد بوسيط" هو قاضٍ، ووزير الداخلية الجديد "توفيق شرف الدين" هو محامٍ سابق مقرب من الرئيس. كما اختير "علي الكعلي"، وهو مصرفي، وزيرًا للاقتصاد والمالية والاستثمار.
ومن ثمّ، يرى العديد من المحللين أن "قيس سعيد" قد أراد رئيسًا للوزراء تحت قيادته، كما أن الرئاسة قد تدخلت كثيرًا في اختيار التشكيل الحكومي ليخرج بالشكل الذي ظهر عليه، وأنه لولا عدم رغبة الأحزاب في خوض غمار انتخابات مبكرة جديدة في ظل مرحلة من انعدام الشعبية البرلمانية لأغلبها، لما تمت الموافقة على ذلك التشكيل الحكومي. حيث أعلنت حركة النهضة أن الحزب سيدعم "المشيشي" في ظل الوضع الصعب الذي تعيشه البلاد، إلا أنه سيسعى بعد ذلك إلى تطوير وإصلاح هذه الحكومة.
ومن الناحية النظرية، فإن وجود حكومة تكنوقراط، لن يتم تقسيمها داخليًّا على أسس حزبية، سيجعلها أكثر استعدادًا لتحمل المخاطر التي تحتاجها البلاد دون الخوف من انعكاس ذلك على صناديق الاقتراع في الانتخابات القادمة.
4- محاور خطة الإصلاح: ففي افتتاح الجلسة العامة للبرلمان لمنح الحكومة الثقة، أعلن "المشيشي" أنه يعتزم وقف نزيف المالية العامة ومعالجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية من خلال إعادة إطلاق إنتاج النفط والفوسفات في جنوب البلاد، وكلاهما يخضع لانقطاعات منتظمة بسبب الاحتجاجات على التوظيف. وكذلك الرغبة في استعادة الثقة في الاستثمار في تونس من خلال إصلاح نظام الضرائب. كما قدم خططًا موجزة لإصلاح البيروقراطية في البلاد، والحفاظ على القوة الشرائية للدولة من أجل حماية الفئات الأكثر ضعفًا. في ظل الرغبة الملحة لاتخاذ الخطوات التمهيدية لبدء المحادثات مع المقرضين، سواء صندوق النقد الدولي أو الدول الأوروبية، الأمر الذي قد يقترن بما أسماه عقلنة الدعم والنفقات، وهو ما قد يواجه معارضة شديدة.
تحديات الحكومة الجديدة:
تتمثل أهم التحديات التي تواجه الحكومة المقبلة فيما يلي:
1- الموجة الثانية لكورونا: في حين نجحت تونس في احتواء الفيروس بفرض إجراءات صارمة في بداية الأزمة، وهو ما جعلها تصل لمرحلة التسجيل الصفري للحالات، كما أنها كانت من ضمن الدول التي سمحت الدولُ الأوروبية في البداية باستئناف السفر إليها؛ إلا أنه يَنتظر الحكومة الجديدة مهمة مواجهة الموجة الثانية من الجائحة، الأمر الذي يحتاج إلى قدر كبير من توحيد الجهود والاستقرار السياسي لضبط الأمور، كما تم في المرحلة السابقة. وخلال المؤتمر الذي عُقد يوم الخميس لاستلام الحكومة التونسية الجديدة مهام عملها رسميًّا؛ أعلن "المشيشي" عن اهتمامه بالملف الاقتصادي والاجتماعي والطبي باعتباره أولوية في مواجهة جائحة "كوفيد-19".
2- التحديات الاقتصادية: تواجه الحكومة التونسية مجموعة كبيرة من التحديات الاقتصادية التي زاد من أعبائها جائحة "كوفيد-19"، وانعكس في الوصول لمرحلة الركود العميق. بالإضافة إلى ارتفاع معدلات البطالة، لا سيما بين الشباب، حيث تبلغ نسبتها أعلى من (15%). وكذلك انخفاض الدخول بمقدار الخمس خلال العقد الماضي. والدور الذي تلعبه النقابات القوية بما يشكل عائقًا أمام عملية الإصلاح. وبالإضافة إلى كل ما سبق، تتوقع الحكومة أن يتسع عجز الميزانية إلى حوالي (7٪) من الناتج المحلي الإجمالي بسبب الجائحة؛ كما أنه من المتوقع أن ينكمش الاقتصاد بنسبة (6.5٪) هذا العام. وفي مؤشر على تردي الأوضاع في البلاد يأتي التونسيون في صدارة المهاجرين غير الشرعيين إلى إيطاليا. كما تمّ تخفيض التصنيف الائتماني لتونس من قبل مؤسسة فيتش في مايو الماضي إلى "B" وذلك بدلًا من "B +" مع نظرة مستقبلية سلبية.
وفي مواجهة ما سبق، تعد الحكومة المستقرة ضرورة ملحة لمعالجة القضايا الكبرى التي تعاني منها تونس، والتي قد تجد ضالتها في إنعاش قطاع التعدين والطاقة. وفي حين كان اختيار "الفخفاخ" لرئاسة الحكومة السابقة، تلبية لحاجة تونس إلى رجل اقتصاد قوي؛ فإن "المشيشي" وعلى الرغم من كونه غير اقتصادي، إلا أنه رجل دولة قديم يرى بعض المحللين أنه يمكنه إكمال المسيرة التي بدأتها الحكومة السابقة، خاصة وأنه كان جزءًا منها.
3- التنافس بين الرئاسات الثلاث: قد يُعد التحدي الرئيسي أمام عمل الحكومة الجديدة هو التنافس المؤسسي المتوقع بين كل من مؤسسة الرئاسة والبرلمان، بل وكل من الرئاسة ورئيس الوزراء الجديد. وهو الخلاف الذي عبّر عنه أحد المحللين بأن تشكيل الحكومة الجديدة يجعل منها "حكومة رئيس" وليست حكومة برلمانية، وذلك في إشارة إلى سيطرة الرئيس "قيس سعيد" على الحكومة الجديدة، سواء من حيث اختيار رئيس الوزراء أو أعضاء الحكومة نفسها. الأمر الذي سينعكس على أعمالها، ويعرقل التواصل السليم مع البرلمان.
كما أنه بدون وجود محكمة دستورية سيُعد من الصعب الفصل في اختصاصات كل من مؤسستي الرئاسة والبرلمان، الأمر الذي سيعتمد على قدرة "المشيشي" على إجراء المواءمات بينهما ومحاولة إرضاء جميع الأطراف. وهنا يرى البعض أن اختيار "سعيد" للمشيشي يخدم رغبته في مواجهة والحدّ من توغل "الغنوشي" على صلاحيات رئيس الجمهورية وخاصة في المجال الخارجي، حيث اعتُبرت التحركات الخارجية للغنوشي وسفره إلى تركيا، حيث التقى بالرئيس "رجب طيب أردوغان"، اعتداءً على الاختصاصات التي خوّلها الدستور لرئيس الدولة. كما أنّ هناك اختلافًا بين موقفي كل من "الغنوشي" و"سعيد" من التدخلات الخارجية في ليبيا، حيث يقف "الغنوشي" إلى جانب تركيا وقطر في دعمهما لحكومة الوفاق الوطني، في حين أعلن "سعيد" بوضوح معارضته للتدخل التركي في ليبيا خلال زيارة رسمية لفرنسا في يونيو الماضي، متحالفًا بشكل أكبر مع الموقف الفرنسي الداعم للمشير "خليفة حفتر". واتصالًا بذلك، وجّه "الفخفاخ" خلال جلسة استلام الحكومة الجديدة لمهام عملها رسميًّا رسالة تحذيرية للمشيشي بأهمية الانتباه لدور الأطراف الخارجية وتدخلها في المشهد السياسي التونسي.
أيضًا، ازدادت الشائعات حول الخلاف بين كل من "سعيد" و"المشيشي"، ومن ثم احتمالية حدوث توترات بين الرئاسة والحكومة. حيث يؤكد بعض السياسيين التونسيين أنه على الرغم من أن الرئيس "قيس سعيد" هو من أتى بالمشيشي؛ إلا أنه قد تخلّى عن دعمه له منذ ذلك الحين، وهنا أكّد بعض المسؤولين من الأحزاب أن "سعيدًا" طلب منهم التصويت ضد حكومة "المشيشي" والاستمرار بدلًا من ذلك في حكومة تصريف الأعمال.
4- استئناف المفاوضات مع المانحين: كانت تونس تُجري محادثات مع صندوق النقد الدولي بشأن الحصول على برنامج جديد قبل نهاية عام 2020، لكن تلك المحادثات عُلقت في يوليو عندما استقال رئيس الوزراء "إلياس الفخفاخ". وعلى الرغم من أن تونس تواجه ضغوط تمويل فورية محدودة؛ فإن وضعها التمويلي سيصبح أكثر صعوبة في عام 2021، بدون الدعم الذي ستوفره صفقة صندوق النقد الدولي. على جانب آخر، يمكن القول إن تلك المفاوضات ذاتها ستضع الحكومة الجديدة في مأزق، حيث إن أحد الشروط التي يتطلبها استئناف المفاوضات لإتمام الصفقة هو ضرورة تشديد السياسة المالية من خلال فرض المزيد من التدابير مثل خفض الدعم. ومن ثمّ، سيكون تنفيذ مثل هذه الإصلاحات في إطار أي برنامج جديد لصندوق النقد الدولي أمرًا صعبًا في مواجهة المعارضة الاجتماعية المستمرة من قبل الشارع التونسي وكذلك البرلمان، بل والنقابات العمالية التي تقود فعليًّا بعض الإضرابات العامة.
5- تشظي البرلمان: حيث إن التشرذم الحزبي داخل البرلمان (لا يمتلك أي حزب ربع المقاعد على الأقل)، وكذلك استمرار الخلافات داخل البرلمان بشكل أساسي بين حركة النهضة وغيرها من الأحزاب وخاصة الحزب الدستوري الحر؛ كلها أمور تزيد من صعوبة مهمة "المشيشي". ومن أبرز الأمثلة على تلك الخلافات ما دأبت عليه "عبير موسى" من الهجوم على "راشد الغنوشي" رئيس حزب النهضة، متهمة حزبه بأنه وثيق الصلة بجماعة الإخوان المسلمين، وأنه يهدف إلى فرض الحكم الديني على البلاد. وفي خطاب لها أمام أعضاء البرلمان في يونيو طالبته بالرحيل لأنه "عار على البرلمان أن يرأسه أحد قادة جماعة الإخوان المسلمين". كما أنه بعد استقالة "الفخفاخ" كانت هناك تحركات برلمانية لسحب الثقة من "الغنوشي"، والتي نجا منها بفارق ضئيل. فيما كان عدد الأصوات المطلوبة ليتم سحب الثقة فعليًّا (109) أصوات. ومن ثم، يحتاج "المشيشي" إلى إيجاد طريقة يتمكن من خلالها من معالجة حالة الاقتتال الداخلي التي تعوق عمل البرلمان وتجاوبه مع الحكومة.
ختامًا، على الرغم من وجود العديد من التحديات التي تحيط بظروف نشأة وملابسات تشكيل الحكومة الجديدة؛ إلا أنه قد يُعد لزامًا على "المشيشي" استغلال الفرصة الحالية في محاولة الإبقاء على حكومته أطول فترة ممكنة، وهو الأمر الذي قد يواجه صعوبة شديدة خاصة في ظل تشعب الخلافات القائمة، ليس فقط بين العلمانيين والإسلاميين، أو الخلافات حول أولويات التحرك الاقتصادي في ظل تغول المال الفاسد والأطراف الخارجية وتدخلها في المشهد السياسي التونسي؛ بل وامتداد تلك الخلافات إلى العلاقة بين مؤسسات الدولة حول ممارسة السلطات.