تواجه دول أمريكا اللاتينية، بشكل متزايد، حالة طوارئ اقتصادية وإنسانية خطيرة، في ظل أزمة كورونا، خاصة مع تجاوز عدد الإصابات المؤكدة أربعة ملايين إصابة بالفيروس، نصفهم في البرازيل، لتصبح منطقة أمريكا اللاتينية بؤرة جديدة لجائحة كورونا.
وفي حين أن السياسة المالية يجب أن تلعب دورًا في تحفيز الطلب، ودعم القطاعات الأكثر تضررًا والاستثمار لإعادة الاقتصاد إلى نشاطه الكامل، إلا أن الحيز المالي محدود في العديد من بلدان المنطقة التي تواجه أزمة ديون محتملة من المتوقع أن تزيد من الأعباء الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة بالفعل في أمريكا اللاتينية.
ملامح الأزمة الحالية:
يواجه الاقتصاد العالمي في ظل أزمة كورونا، أسوأ ركود في العصر الحديث، خاصة مع بروز مظاهر أزمة ديون محتملة في المنطقة، تُعيد إلى الأذهان أزمة الديون التي عانت منها دول أمريكا اللاتينية خلال ثمانينيات القرن العشرين، وتتجلى أبرز ملامح هذه الأزمة فيما يلي:
1- حالة طوارئ اقتصادية: أدت أزمة كورونا إلى تداعيات خطيرة على اقتصادات أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي؛ إذ من المتوقع أن ينكمش الناتج المحلي الإجمالي في المنطقة بنسبة 9.1% في عام2020، وفقًا لصندوق النقد الدولي، وهو أكبر انكماش اقتصادي في المنطقة على الإطلاق خلال هذا القرن، وأسوأ بكثير من التوقعات بالنسبة للاقتصادات الإفريقية والآسيوية.
وتتوقع منظمة الأمم المتحدة أن تنخفض قيمة صادرات أمريكا الجنوبية بنحو الخمس هذا العام بسبب تقلص الطلب الدولي وضعف أسعار السلع، إلى جانب تراجع السياحة وتحويلات المواطنين بالخارج، وانخفاض الاستثمار الأجنبي بشكل كبير.
وأصبحت الأوضاع المالية للعديد من بلدان أمريكا اللاتينية اليوم أسوأ مما كانت عليه عند اندلاع الأزمة المالية العالمية عام 2008، مع ارتفاع مستويات الدين العام منذ 2014، وانخفاض نسبة الضرائب. والأخطر من ذلك أن سياسات التحفيز التي تعمل في الأوقات العادية لن تنجح في مواجهة التداعيات المترتبة على جائحة كورونا، خاصة مع نقص التمويل وهروب المستثمرين إلى الأصول والأسواق الأكثر أمانًا.
2- ارتفاع حجم الدين العام: أدى انخفاض الإيرادات الضريبية، وتراجع قيمة العملة، وتكاليف التمويل الطارئة لمواجهة المخاطر الصحية لأزمة كورونا، والحاجة إلى التمويل اللازم لتنفيذ إجراءات الإغاثة الاقتصادية؛ إلى زيادة العجز المالي والمديونية، وارتفعت الديون الحكومية عبر أمريكا اللاتينية بشكل كبير. وتُشير بعض التوقعات إلى احتمال أن يرتفع متوسط مستويات الديون عبر المنطقة إلى 71-76% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2022.
في هذا السياق، تشهد البرازيل، أكبر اقتصاد في المنطقة، ارتفاعًا حادًّا في ديونها، على خلفية الركود العميق وزيادة الإنفاق الحكومي بشكل حاد. وقد بلغت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في البرازيل خلال مايو الماضي، 93.5%، ومن المتوقع أن تصل إلى 100% بنهاية العام الجاري.
وتنطوي الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها دول أمريكا اللاتينية وارتفاع حجم الديون على إمكانيات أقل لزيادة الإنفاق في المستقبل، مما يتسبب في مشاكل خطيرة فيما يتعلق بتمويل برامج مكافحة الفقر. ووفقًا لتوقعات بعض الوكالات التابعة للأمم المتحدة ستؤدي هذه الأوضاع الاقتصادية الصعبة إلى دخول 16 مليون أمريكي لاتيني في دائرة الفقر المدقع في عام 2020، ليزيد الإجمالي إلى أكثر من 70 مليون شخص في المنطقة.
3- التخلف عن سداد الديون: تعاني بعض دول أمريكا اللاتينية، مثل الإكوادور وفنزويلا والأرجنتين، من مشاكل اقتصادية ومالية خطيرة، حيث تخلفت الأرجنتين في مايو الماضي عن تسديد دفعة تبلغ 500 مليون دولار، لكن المفاوضات لإعادة هيكلة 66 مليار دولار من ديونها متواصلة. وهذه هي المرة التاسعة التي تفشل فيها الأرجنتين في سداد ديونها منذ عام 1816.
على الجانب الآخر، توصلت الإكوادور مطلع الشهر الجاري، إلى اتفاق مبدئي مع بعض دائنيها لإعادة هيكلة نحو 17 مليار دولار من إجمالي ديونها البالغة 58.4 مليار دولار، أي ما يعادل أكثر من نصف ناتجها المحلي الإجمالي. وسيوفر هذا الاتفاق تخفيفًا لعبء الديون بقيمة 1.6 مليار دولار. كما سيمدد أيضًا آجال استحقاق سندات البلاد وخفض متوسط معدل الفائدة بنحو 5%، كما سيتضمن فترات سماح على المدفوعات الأساسية ومدفوعات الفائدة. ومع ذلك، لم تتوصل الأرجنتين والإكوادور بعد إلى اتفاق مع جميع الدائنين، مما يُثير المخاوف من تكرار حدوث أزمة الديون التي شهدتها المنطقة خلال عقد الثمانينيات الذي يُعرف بـ"العقد الضائع".
محدِّدات القدرة على الاستجابة للأزمة:
تتباين قدرة دول أمريكا اللاتينية على الاستجابة لأزمة الديون، وتتوقف هذه القدرة على عدد من المحددات، من أبرزها:
1- طبيعة الأوضاع قبل الأزمة: تكشف حقيقة الأوضاع الاقتصادية قبل أزمة كورونا عن أن دول أمريكا اللاتينية كانت في وضع غير مؤهل بشكل خاص لمواجهة التداعيات الاقتصادية لأزمة كورونا منذ البداية.
في هذا السياق، تشير البيانات الصادرة عن اللجنة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية التابعة للأمم المتحدة إلى أنه قبل الجائحة، كانت المنطقة تواجه بالفعل فترة من النمو الاقتصادي الضعيف (متوسط 0.4% بين عامي 2014 و2019)، وارتفاع مستويات الديون (من 29.8% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2011 إلى 43.2% في عام (2019، إلى جانب ارتفاع العجز في الموازنات العامة. وصاحب هذه الأوضاع الاقتصادية الصعبة مستويات غير مسبوقة من الاضطرابات والاحتجاجات الاجتماعية التي شهدتها غالبية دول المنطقة في عام 2019.
وتكشف هذه الأوضاع الاقتصادية الهشّة في دول المنطقة حتى قبل اندلاع أزمة كورونا، عن محدودية قدرة معظم حكوماتها على الانخراط في خطة قوية لتحفيز الاقتصاد، إلى جانب تفاقم الضغوط الملقاة على عاتق الدول ذات الاقتصادات الأكثر ضعفًا، حيث تتزايد احتمالات التخلف عن سداد الديون وإعادة جدولتها بشروط أكثر صرامة.
2- القدرة على الوصول إلى الأسواق المالية: يمكن للاقتصادات المتقدمة الاستفادة من موارد هائلة من البنوك المركزية لأن لديها عملات قوية ومستثمرين مستعدين لمواصلة شراء ديونها. ولا توجد لدى غالبية بلدان أمريكا اللاتينية فرص مماثلة، خاصة أنها تعمل تحت وطأة تاريخ أزمات الديون التي تمتد لأكثر من قرن.
وتتمتع بعض اقتصادات المنطقة بمصادر وافرة للتمويل منخفض التكلفة لدعم إنفاقها الطارئ، حيث تمكنت البرازيل من إنفاق أكثر من 220 مليار دولار على تدابير مكافحة الجائحة وتداعياتها الاقتصادية، جانب كبير منها من أسواق رأس المال المحلية، وذلك بفضل تطبيقها سياسات صديقة للادخار، بما في ذلك نظام نقدي مستقر، تم وضعه في التسعينيات.
وتتمتع دول مثل أوروجواي وتشيلي بإدارة جيدة للديون، ويَعرف الدائنون أن هذه الحكومات لديها القدرة على سداد ديونها، وذلك بخلاف فنزويلا، التي تعاني من حالة ركود منذ أكثر من ست سنوات، وهبطت صادراتها النفطية إلى أدنى مستوى لها منذ 77 عامًا في يونيو الماضي.
ويعني الفساد المتفشي وسوء الإدارة أن قلة من المقرضين أو المؤسسات الدولية من المرجح أن تقدم الائتمان لإدارة الرئيس "نيكولاس مادورو". وفي أوائل يوليو الجاري، عرقلت المحكمة العليا في المملكة المتحدة محاولات مادورو للوصول إلى ما قيمته مليار دولار من الذهب المخزن في بنك إنجلترا، مشيرة إلى اعتراف الحكومة البريطانية بزعيم المعارضة "خوان جوايدو" كرئيس مؤقت شرعي لفنزويلا.
3- نوعية السياسات المطبقة: تسعى حكومة الرئيس البرازيلي "جايير بولسونارو" إلى البدء في تطبيق الإصلاحات المؤيدة للسوق في وقت لاحق من هذا العام، ومع ذلك فإنه من غير المرجح أن يتم ذلك، نظرًا لأن البرازيل ستشهد إجراء انتخابات رئاسية في عام 2022، مما يجعل من غير المرجح أن تتبنى الحكومة إجراءات تقشف مؤلمة قبل موعد الانتخابات.
وعلى العكس من ذلك، فقد بدأت المكسيك، ثاني أكبر اقتصاد في المنطقة، الوباء بسياسة مالية عامة سليمة نسبيًّا ومستويات منخفضة من الديون. ومع ذلك، فإن قرار الرئيس "أندريس أوبرادور" بالمضيّ قدمًا في برنامج التقشف، بدلًا من الإنفاق لإنقاذ الاقتصاد، من المرجح أن يعمق الركود في البلاد ويعيق انتعاشها. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن ينخفض الناتج المحلي الإجمالي للمكسيك بنسبة 10.5% هذا العام، الأمر الذي سيجعله أكبر الأسواق الناشئة تضررًا في العالم. ويعني انخفاض عائدات النفط وتأثير الفيروس أن الدين السيادي للبلاد من المرجح أن يفقد تصنيفه الائتماني المرغوب فيه في عام 2022 ما لم تتغير السياسة المطبقة.
أما بالنسبة لكولومبيا، رابع أكبر اقتصاد في المنطقة، فلديها سياسات حكومية سليمة، لكنها تخاطر بخفض التصنيف الائتماني في النصف الأول من العام المقبل بسبب ضعف سياسات المالية العامة.
4- مستوى الدعم الخارجي: خلال الفترة الأخيرة، انطلقت الدعوات من داخل أمريكا اللاتينية المطالِبة بإلغاء الديون الجماعية لدول المنطقة وتخفيفها. ووقّعت مجموعة من سبعة قادة سابقين يساريين (بمن فيهم: ديلما روسيف من البرازيل، إيفو موراليس من بوليفيا، ورفائيل كوريا من الإكوادور، وإرنستو سامبر من كولومبيا) على عريضة تطالب بإلغاء الديون الجماعية وتخفيفها لدول أمريكا اللاتينية.
ويدعو الموقّعون على العريضة صندوق النقد الدولي والمنظمات المتعددة الأطراف الأخرى، مثل البنك الدولي، إلى إلغاء الديون الخارجية لدول أمريكا اللاتينية، وقبول حاملي السندات الخارجية إعادة جدولة فورية للديون المملوكة للقطاع الخاص بوقف دفع فوائد لمدة عامين. ويجادل الموقّعون على العريضة بأن مثل هذه الإجراءات "عادلة وضرورية" نظرًا للتحدي الاستثنائي الذي يُشكّله الوباء على المنطقة، مستشهدين بأمثلة تاريخية لإعفاء الديون.
وبالنظر إلى الوضع الإنساني المتردي في فنزويلا، اقترحت منظمات حقوق الإنسان مثل مكتب واشنطن لأمريكا اللاتينية (WOLA)، أن تساعد الولايات المتحدة والدول الأخرى في منع وقوع كارثة إنسانية من خلال رفع العقوبات الاقتصادية والمالية على فنزويلا، وإن كان ذلك بشروط.
وهناك اقتراحات أخرى أقل جذرية، مثل دعوة رئيس كوستاريكا "كارلوس ألفارادو"، إلى إنشاء صندوق لمواجهة التداعيات الاقتصادية لأزمة كورونا، والذي يسعى بموجبه إلى إقناع الدول الغنية بتقديم "اللقاحات المالية" للدول الفقيرة عن طريق تقديم قروض بدون فوائد لمدة خمسين عامًا. كما دعا وزير المالية الكولومبي السابق "ماوريسيو كارديناس" صندوق النقد الدولي إلى إصدار سندات جديدة لمساعدة دول أمريكا اللاتينية بشكل أكبر.
وتدخل صندوق النقد الدولي بالفعل لتزويد 17 دولة في أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، بما في ذلك هندوراس وجامايكا وجمهورية الدومينيكيان والإكوادور، بما مجموعه 5.5 مليارات دولار في تمويل الطوارئ منذ مارس الماضي.
وفي نهاية المطاف، ستحاول معظم بلدان أمريكا اللاتينية اجتياز الأزمة الاقتصادية والمالية الراهنة، ويمكن أن تتغلب عليها بمزيج من زيادة الديون والضرائب، والعمل على تنويع مصادر الإيرادات، شريطة أن تكون الحكومات اللاتينية قادرة على منح المقرضين الدوليين، الثقة بأنهم ينفقون ويفرضون الضرائب بشكل فعال. ومع ذلك، فإن هذه النظرة المتفائلة بحذر تعتمد على انتعاش عالمي معتدل في عام 2021.