ناقشت المقالة السابقة أفكار النظرية المثالية في العلاقات الدولية، وكيف حلمت بأن تهتدي البشرية في أعقاب الكوارث الإنسانية الكبرى، إلى أن يسود السلام والقانون هذه العلاقات، وهو ما حدث بعد الحرب العالمية الأولى، وتجسد في حلم «الحكومة العالمية»، وتوهم أن تمثل «عصبة الأمم» هذه الحكومة، ثم انهار هذا كله على ضوء ممارسات القوى الاستعمارية ثم سياسات هتلر، التي انتهت بتفجير الحرب العالمية الثانية، التي بدت سابقتها مزحة بالنسبة لها خاصة، وقد انتهت بكارثة الاستخدام الأول للأسلحة الذرية، ثم تكفل الصراع بين العملاقين الأميركي والسوفييتي باستمرار هيمنة المدرسة الواقعية على تحليل العلاقات الدولية، مع آمال محدودة سرعان ما تبددت، كما في أفكار الزعيم السوفيتي جورباتشوف، حول ضرورة اصطفاف العالم في مواجهة الأخطار المشتركة (عالم واحد أو لا عالم)، أو الأفكار الساذجة عن «نهاية التاريخ» بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، ورأينا كيف تكررت الأحلام ذاتها بعد المخاطر الهائلة، التي ترتبت على وباء كورونا، وتبددت بسرعة كما يظهر من «الحرب الباردة الجديدة» بين الصين والولايات المتحدة ظاهرياً، حول المسؤولية عن الوباء، وجوهرياً حول الصراع على قيادة النظام العالمي.
وانسحبت طريقة التفكير ذاتها على آمال البعض في تهدئة لصراعات إقليمية طال أمدها، غير أن التطورات أظهرت النتيجة نفسها على الصعيد الإقليمي، فعلى الرغم من مؤشرات محدودة للتهدئة، كان واضحاً أنها تحدث نتيجة للإنهاك وليس تغيير الأفكار، ظهر بوضوح أن البعض يحاول استغلال انشغال العالم بالوباء لتحقيق مكاسب جديدة آملاً في حسم الصراع لصالحه، وتبدو السياسة التركية الأبرز في هذا الصدد، ومن المعروف أنها شهدت منذ بداية العقد تحولاً جذرياً نقلها من مرحلة «صفر مشاكل» -التي نظر لها أحمد داوود أوغلو وزير الخارجية ورئيس الوزراء التركي السابق والمنشق حالياً على أردوغان- إلى سياسة راكمت الحد الأقصى من المشاكل مع الجميع تقريباً، ويعود هذا إلى عوامل عديدة لعل تطلعات أردوغان لاستعادة ما يعتبره إرثاً عثمانياً، كما يتضح من تلميحاته المتكررة إلى أطماع إقليمية في سوريا والعراق، بل وإشاراته الهزلية إلى أصول تركية لقطاعات من الشعب الليبي يبرر بها تدخله في ليبيا، وكذلك المعضلة الأمنية التركية المترتبة على الفشل في حل مشكلة الأكراد داخل تركيا، مما يجعلها شديدة الحساسية لأي تطورات تطرأ على وضع الأكراد في البلدان المتاخمة لها، ويسوغ لها التدخل السياسي والعسكري في هذه البلدان، ومنذ أحداث ما سُمي «الربيع العربي»، وجدت السياسة التركية أن صعود التيارات التي تحسب نفسها زوراً على الإسلام يدعم أحلامها ومن ثم دعمتها ضد نظم الحكم في بلدان عربية أهمها سوريا ومصر، وضحت بعلاقاتها بهذه البلدان على مذبح أوهام «الخلافة الإسلامية».
وأخيراً وليس آخراً، تأتي الأطماع التركية في ثروات شرق المتوسط بعد اكتشافات الغاز الأخيرة، لكي تدفع بتركيا إلى صدام مع قبرص واليونان، أدى إلى فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات عليها، وإن تكن غير فعالة حتى الآن، كما استغلت علاقتها بحكومة السراج الخاضعة لنفوذ الميليشيات الإرهابية في طرابلس، لتوقيع مذكرتي التفاهم الشهيرتين اللتين جسدت أولاهما الأطماع التركية في ثروات شرق المتوسط، بتحديد غير قانوني للحدود البحرية مع ليبيا، وأعطت الثانية تركيا الحق في التدخل لدعم حكومة السراج، بما يناقض قرارات مجلس الأمن، ولاحقاً مؤتمر برلين، ناهيك عن التهريب المفضوح للمرتزقة من الجبهة السورية إلى طرابلس.
وفي ظل أزمة وباء كورونا، ومع أن تركيا تصدرت الدول الآسيوية من حيث عدد الإصابات، فإنها استغلت انشغال العالم بالوباء، فقدمت دعماً عسكرياً مباشراً لحكومة المليشيات في طرابلس تمثل في إرسال قطع بحرية رست بالقرب من الشواطئ الليبية، انطلقت منها طائرات مسيرة لتهاجم ثلاثة مواقع للجيش الوطني الليبي بالصواريخ، ثم تتقدم الميليشيات الإرهابية إلى هذه المواقع لاحتلالها، وهو ما يؤكد تبدد أوهام التهدئة، وأنها لن تحدث إلا في حالة إنهاك الطرف القائم بالتصعيد، ومن هنا مسؤولية الشعب الليبي وجيشه الوطني وداعميه في التصدي سياسياً وعسكرياً لهذه الهجمة، التي يمكن أن يؤدي التهاون في مواجهتها إلى آثار وخيمة، لا على أمن ليبيا وجيرانها فحسب، وإنما على مجمل الأمن العربي وأمن شرق المتوسط.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد