تُمثّل وسائل الإعلام وسيطًا مهمًّا في نقل الحقائق والبيانات في أوقات الأزمات، ومنذ بداية انتشار فيروس كورونا تقوم الصحف الدولية الكبرى، مثل: "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست" و"الجارديان"، بنشر أرقام وإحصائيات عن انتشار الفيروس في بلدان العالم، وتعتمد في رصد هذه الأرقام على المصادر الموثوق فيها من الجهات الرسمية ومنظمة الصحة العالمية.
ورغم الخدمة الصحفية المتميزة التي تقدمها صحيفة "الجارديان" بشأن أرقام انتشار الفيروس عالميًّا، والتي تستند فيها إلى أرقام موثقة، نشرت الصحيفة تقريرًا إخباريًّا عن الحالة المصرية يشير إلى أن أرقام انتشار فيروس كورونا في مصر من المحتمل أن تكون أكبر من الأرقام الرسمية المعلنة. وهذا التقدير المستند إلى دراسة علمية أعدتها جامعة كندية، أغفل الكثير من القواعد المهنية للتحقق من طبيعة الدراسة، والتي أُجريت أصلًا على إيران وليس مصر، كما أن محاولة تطبيق النموذج الإحصائي الذي تم بناؤه في الدراسة على مصر تم دون الاستناد إلى أية معايير علمية.
الرسالة الإعلامية:
نشرت صحيفة "الجارديان" البريطانية، يوم الأحد 15 مارس 2020، تقريرًا صحفيًّا أعدته مراسلتها في القاهرة "روث مايكلسون"، ووضعت الصحيفة عنوانًا رئيسيًّا للتقرير يقول "مصر: معدل حالات فيروس كورونا، من المحتمل أن يكون أكبر مما تشير الأرقام"، وأضافت الصحيفة في عنوان فرعي "يقدم الأخصائيون في الأمراض المعدية من جامعة تورنتو صورة قاتمة عن انتشار الفيروس المحتمل".
وفي متن التقرير أشارت "الجارديان" إلى الأرقام الرسمية المعلنة من الجهات المصرية، وأن 126 حالة من الأشخاص الأجانب والمصريين كشفت الاختبارات عن نتائج إيجابية بشأن إصابتهم بالفيروس، وقالت: "إن المتخصصين في الأمراض المعدية الذين درسوا الاختلاف بين الأرقام التي يعلنها المسؤولون الرسميون ومعدل الإصابات المحتمل في أماكن مثل إيران، يقدمون صورة قاتمة عن انتشار الفيروس في مصر". وأضافت الصحيفة: "في ظل نموذج متحفظ لتقييم انتشار فيروس كورونا، والذي تم استبعاد الحالات المرتبطة والغامضة فيه؛ فإن تقدير حجم انتشار فيروس كورونا في مصر يُقدر بـ19.310 حالة" (بمعنى أن الحالات المصابة أكثر من 19 ألف حالة). وأضافت الصحيفة: "وبحسب البيانات التي استند إليها هؤلاء العلماء والتي تعتمد بيانات الرحلات والمسافرين ومعدلات الإصابة، فمن المرجح أن مصر لديها عدد أكبر من الحالات لم يتم الإبلاغ عنها، ولديها قدرة إكلينيكية أكبر للصحة العامة قد تساعد في تحديد وإدارة الحالات". وأضافت: "إن العلماء استخدموا بيانات من أوائل مارس عندما سجلت مصر رسميًّا ثلاث حالات من الفيروس".
وفي ضوء ما ورد في متن تقرير الصحيفة فإن الرسالة الإعلامية التي حاولت إبرازها هو وجود عدد مرتفع جدًّا من الإصابات بمصر، وهذه الرسالة حاولت إبرازها من خلال محتوى عنوان التقرير، أو إسناد رقم تقدير هذه الحالات المرتفعة جدًّا، والتي لم ترد من قِبَلِ أية جهة دولية أخرى، إلى دراسة جامعة تورنتو. واللافت للنظر أن صحيفة "الجارديان" وضعت رابطًا للدراسة ضمن التقرير، دون فحص وتدقيق هذه الدراسة.
وجزء من الترويج الإعلامي للتقرير الذي يتضمن هذه الرسالة الإعلامية والذي يحاول ترسيخ وتوسيع نطاق فكرة وجود أرقام كبيرة لانتشار فيروس كورونا في مصر، قيام مراسلة "الجارديان" بإعادة نشر التقرير على حسابها على تويتر. كما قام مراسل صحيفة "نيويورك تايمز" في القاهرة "ديكلان والش" بالإشارة إلى دراسة الفريق الكندي. وبعد حملة انتقادات في تويتر للأرقام المعلنة في الدراسة قام المراسل بحذفها.
إشكالية المصدر:
رغم محاولة التزام صحيفة "الجارديان" بمعايير التغطية الصحفية التقليدية في الإشارة إلى الأرقام الرسمية، ونقل بيانات متحدثين رسميين مصريين، والإشارة إلى الإجراءات التي اتخذتها السلطات الرسمية، والتزامها بشكل عام بعرض الموقف الرسمي؛ إلا أن هذا لا يعكس المهنية التامة، والالتزام بمعايير العمل الصحفي الاحترافي، فالمصدر الرئيسي الذي اعتمد عليه تقرير الصحيفة، وهو دراسة جامعة تورنتو، عليه بعض الملاحظات المنهجية التي تدحض في الاستنتاج النهائي الذي وصلت إليه "الجارديان" بخصوص عدد حالات الإصابة بفيروس كورونا في مصر، وذلك على النحو التالي:
1- الدراسة عن إيران وليست عن مصر: الدراسة التي وضعت صحيفة "الجارديان" رابطًا لها مع التقرير، عنوانها "تقدير عبء فيروس كوفيد-2019 واحتمالات نشره الإصابة دوليًّا من إيران". والدراسة أعدها ستة من أساتذة الأمراض المعدية بجامعة تورنتو الكندية، هم الدكاترة: إسحاق بوغش، ألكسندر واتس، ريان شبيرو، ديفيد فيسمان، كمران خان، أشلير تيود. وكان الهدف من الدراسة هو تحديد حجم انتشار فيروس كورونا في إيران، بناء على بيانات الحالات التي سافرت خارج إيران، ورحلات الطيران بين إيران والدول الأخرى، والتنبؤ بمدى انتشار الفيروس من داخل إيران إلى خارجها في المرحلة التالية.
واللافت للنظر أن الدراسة لم يرد فيها أي ذكر لمصر بالأساس، فقد قامت برصد وتحليل بيانات المسافرين من إيران إلى عشرين دولة حول العالم، ليس من بينهم مصر، ومن أبرز الدول التي تم تحليل بيانات المسافرين من إيران إليها، تركيا، وتم رصد عدد المسافرين إلى إسطنبول وأنقرة، وكذلك العراق، وقطر، والصين، وفرنسا، وإيطاليا، وغيرها.
2- فرضيات الدراسة وأطرها المنهجية قيد الاختبار: نُشرت الدراسة بموقع medRxiv، وهو موقع نشر علمي ينشر الأبحاث الطبية التي لم تنتهِ بعد أو ما زالت قيد المراجعة والتدقيق العلمي. ونشر الدراسة في هذا الموقع يعني أن نتائجها غير مؤكدة، ولم يتم إقرارها بشكل علمي بعد، ومن ثم لم تُنشر في دورية طبية أو علمية محكمة. ولم تؤكد هذه الجهة إذا ما كانت الدراسة ضمن مشروع بحثي أكبر يشمل عدة دول، أم تم تطبيقها على إيران فقط.
3- الافتقاد للمعايير في تطبيق النموذج الإحصائي في الدراسة على مصر: اعتمدت الدراسة على بناء نموذج إحصائي لتقدير عدد الحالات المصابة في إيران، ويُسمى هذا النموذج "نموذج فريسر"، وطوره في السابق دكتور "فريسر دونيلي"، لدراسة احتمالات حدوث جائحة من مرض الأنفلونزا. وفي النموذج الذي طبقه أساتذة جامعة تورنتو، قاموا ببناء علاقة بين عدد المسافرين من إيران إلى دول العالم، ووفقًا لهذه العلاقة ونماذج إحصائية، قاموا بتقدير عدد المصابين بفيروس كورونا في إيران بـ18.300 حالة في شهر فبراير (ثمانية عشر ألفًا و300 حالة)، وهذه الخلاصة كانت تتعلق بإيران، ولم يرد ذكر لمصر.
ومع الوضع في الاعتبار افتراض نظري بأن الدراسة كانت ضمن مشروع بحثي كبير شمل مصر، فلا توجد أية بيانات متاحة على موقع medRxiv، أو حتى الجهات العلمية التي يتبعها الأساتذة الذين أعدوا الورقة البحثية المنشورة عن المشروع، ومن ثم لا توجد أية معايير علمية أو قواعد واضحة توضح على أي أساس استندت صحيفة "الجارديان" في حديثها عن أن معدل الإصابات في مصر 19.300 حالة، فالرقم في الدراسة هو عن إيران، وليس عن مصر، وبدا لافتًا أن صحيفة "الجارديان" لم ترجع في تقريرها المنشور إلى أي أستاذ من فريق العمل الذي أعد الدراسة لتأكيد الرقم الذي نشرته الصحيفة ونسبته إلى مصر، وهذا يتناقض مع قواعد المهنية في تدقيق المعلومات من مصادرها الأصلية.
4- تناقض بين فريق الدراسة حول أرقام الحالات المصابة في مصر: رغم أن الدراسة لم تتعرض إلى مصر، ورغم أنه لا توجد أيضًا بيانات عما إذا كانت الدراسة جزءًا من مشروع بحثي أكبر يضم مصر، فقد بدا لافتًا للنظر تغريدات اثنين من فريق إعداد الدراسة، فالدكتور "إسحاق بوغش" قال في تغريدة على حسابه الشخصي "مصر: أسئلة كثيرة عن عبء كوفيد19 في مصر، فمصر قامت بتصدير حالات كثيرة إلى الخارج خلال الأسابيع الماضية، وتقديراتنا أن عدد المصابين في مصر 19.310 حالة"، ولم يوضح دكتور "إسحاق" كيف تم تطبيق النموذج الإحصائي على مصر. وفي المقابل، غرد الدكتور "ديفيد فيسمان" على حسابه الشخصي قائلًا: "مصر بلد رائع: هناك أسباب تجعل من الصعب تحديد فيروس كوفيد 19 في مصر: خاصة بسبب التوزيع العمري في مصر.. وهذا يعني توقفوا عن إطلاق النار على المرسل: فمن غير المعقول أن مصر لديها حالات قليلة إلا بين أولئك الذين يغادرون البلاد".
وتغريدة دكتور "ديفيد فيسمان" ربما تُشير إلى أن الدراسة لم تتضمن مصر، وأنه لا يوجد مشروع بحثي موسع، وأن النموذج الإحصائي تم تطبيقه على إيران. وهو يشير عندما قال "من الصعب تحديد فيروس كورونا في مصر بسبب التوزيع العمري"، إلى احتمال صعوبة تطبيق النموذج الإحصائي على مصر، وأن الفكرة بشكل عام هي ربما وجود أعداد كبيرة في مصر، وأن ما أثاره الفريق مجرد تحذير علمي فقط، يجب أخذه بعين الاعتبار.
وبدا لافتًا أيضًا دخول مراسل صحيفة "نيويورك تايمز" في القاهرة في الجدل المثار بتويتر بشأن أرقام الإصابات في مصر. ففي البداية قام بالإشارة إلى دراسة الفريق الكندي، ثم قام بحذف التغريدة التي تُشير إلى الدراسة، وعاد وغرد مرة أخرى بمشاركة تغريدة لأحد المتخصصين في إدارة المخاطر تقول إن دكتور "إسحاق بوغش" وزملاءه -بعد مشاورات عديدة- يرون أن تقدير عدد الإصابات في مصر قد يصل إلى 6000 حالة. وهذا يُشير مرةً أخرى إلى أنه لا توجد أسس علمية لدراسة الحالة المصرية، وأن النموذج الذي تم تطبيقه على إيران جرت محاولة تعميمه على مصر دون دلائل واضحة.
الانحياز المسبق:
لا يوجد تفسير منطقي لصنيع صحيفة "الجارديان" بتطبيق أرقام وإحصائيات دراسة أُجريت على إيران على الحالة المصرية، ولماذا حاولت الصحيفة الترويج لرسالة إعلامية حول تضخيم رقم حالات الإصابة في مصر. لكن بشكل عام ثمة مؤشرات يمكن من خلالها الإشارة إلى وجود انحياز مسبق في صياغة الرسالة الإعلامية بالتقرير، وذلك على النحو التالي:
1- توجهات الصحيفة: رغم أن صحيفة "الجارديان" تمثل إحدى الصحف الدولية المؤثرة، التي تلتزم -إلى حدٍّ كبير- بمعايير مهنية واحترافية؛ لكن بعض التقارير المرتبطة بتغطية الشؤون المصرية أثارت جدلًا مؤخرًا؛ إما لأنها تركز على إبراز رواية من منظور واحد، أو دون فحص وتدقيق شهادات المصادر. وبشكل عام فإن توجهات الصحيفة السلبية تجاه مصر، والتي يتم تفسيرها بسبب انحيازات فريق التحرير الرئيسي، وتأثيرات بعض مصادر التمويل غير المعلنة؛ تمثل جانبًا واحدًا يُفسّر موقف الصحيفة من مصر، رغم أن هذا التفسير لا يمكن إثباته بشكل علمي أو منهجي محدد.
2- نموذج تقديرات "نيويورك تايمز": نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" تقريرًا عن معدلات الإصابة المتوقعة في الولايات المتحدة الأمريكية بفيروس كورونا، وبعض التقديرات وصلت إلى ملايين. لكن من المهنية التي برزت في تقرير "نيويورك تايمز" أن النموذج الإحصائي الذي تم بناءً عليه تقدير عدد الإصابات المتوقعة، تم عرضه على مجموعة من الخبراء لتدقيق النموذج وإبداء آرائهم، ورصد هذه الآراء. لكن في حالة تقرير "الجارديان" عن مصر، فإن الأرقام التي تم عرضها وإبرازها لم يتم تدقيقها بشكل واضح.
3- فجوة بين الواقع والتقديرات: بجانب وقوع التقرير في خطأ تطبيق أرقام وإحصائيات الحالة الإيرانية على الحالة المصرية، دون دليل أو مؤشرات علمية؛ فإن الرقم الذي تم إبرازه باعتباره رقم الحالات المصابة في مصر (أكثر من 19 ألف حالة) لا يُعبِّر عن واقع أو حقيقة الوضع في مصر، لعدة أسباب أبرزها: أن منظمة الصحة العالمية تتابع عن قرب وكثب الحالة المصرية، ولم تصدر عنها أية بيانات تشير إلى اختلاف أرقامها عن الأرقام الرسمية المصرية. والسبب الآخر أن هذا الرقم الذي نشرته "الجارديان" لم يتم تناقل أرقام تقترب منه في أية مصادر دولية موثوق فيها. هذا بالإضافة إلى أنه -منطقيًّا- لا يمكن للدولة المصرية ممارسة عملية تعتيم على رقم بهذا الحجم، خاصة في ظل فاعلية الدور الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي في مصر. ورغم أن البعض يُشير إلى أن الحالات المصابة في مصر ربما تكون فعليًّا أكثر من الرقم الرسمي المعلن؛ إلا أن أحدًا لم يستطع أن يقدم رقمًا حقيقيًّا أو تقريبيًّا عن الإصابات، ومن ثمّ فإن الأرقام الرسمية المعلنة هي الأقرب للصحة. وإذا كانت هناك حالات أعلى منها، وهو أمر وارد، فلن يكون بشكل مبالغ فيه كما ادّعت "الجارديان"، وقد يعود للحالات التي لم تقم بالإبلاغ عن الإصابة، وهذا أمر وارد في كل دول العالم، فالحالات المؤكدة هي التي تم الإبلاغ عنها فقط.
ختاماً رغم أهمية وثقل صحيفة "الجارديان"، ومحاولتها الالتزام بمعايير التغطية المتعارف عليها، خاصة إبراز وجهة النظر الرسمية، وعرض جميع وجهات النظر؛ إلا أنها أوردت أرقامًا عن الإصابات بفيروس كورونا في مصر استنادًا إلى دراسة عن إيران لم تتطرق لمصر بالأساس، ولم تقم الصحيفة بتدقيق ومراجعة الدراسة الأصلية، ولا الحديث عما ورد فيها وفرضياتها ونتائجها، وهل هي جزء من مشروع بحثي أوسع يتضمن مصر أم لا؟ كما أن الصحيفة لم تحاول أن تقوم بمراجعة فريق العمل الذي قام بإعداد الدراسة، ومحاولة تدقيق الرقم الذي رددته عن معدلات الإصابة بالفيروس في مصر، والذي لا يوجد أي دليل علمي يدعمه. ويبدو أن التقرير أراد فقط نشر رسالة إعلامية تفتقد للمصداقية عن ارتفاع أرقام الحالات المصابة بالفيروس في مصر.