تصاعد الاهتمام العالمي خلال الآونة الأخيرة بالتداعيات السياسية لانتشار عدم المساواة في ظل الاختلال في توزيع العوائد الاقتصادية، وتركّز الثروة في مجموعة محدودة العدد، بالتوازي مع الارتباط بين النخب السياسية والاقتصادية وتبادل المنافع بينهم، مما أدى إلى تفجر الاحتجاجات الرافضة لعدم المساواة بالدول الغربية والتي تدعو لتحقيق العدالة في توزيع عوائد التنمية، بالتوازي مع تركيز المؤسسات الدولية الاقتصادية والمالية على ظاهرة عدم المساواة ووضع خطط ومقترحات سياسات للتصدي لها، وهو ما ركز عليه تقرير التنمية البشرية لسنة 2019 الصادر مؤخراً والمعنون "أوجه عدم المساواة في القرن الحادي والعشرين: ما وراء الدخل، والمتوسط، والحاضر".
الاحتجاجات في الدول الغربية الغنية:
شهد العالم في الأشهر القليلة الماضية اندلاع الموجة الثانية من الحركات الاحتجاجية الشعبية، التي خرج معظمها للتنديد ببعض القرارات الاقتصادية التقشفية، مثل: رفع أسعار المحروقات، أو فرض نوع جديد من الضرائب. وسرعان ما تحولت إلى أعمال شغب وعنف، أدت إلى تعطيل الحياة، وزعزعت الاستقرار في بعض العواصم في أماكن متفرقة من العالم، مثل: (تشيلي) في أكتوبر 2019، و(إيران) في نوفمبر 2019. وعلى غرار الموجة الأولى من الاحتجاجات، رفعت تلك التظاهرات عددًا من المطالب المرتبطة بتحقيق العدالة الاجتماعية، مثل: فرض الضرائب على الثروات، وإعفاء الفقراء ومحدودي الدخل من الضرائب على السلع والخدمات الأساسية، وتبني سياسات حماية اجتماعية أكثر شمولًا للفئات المتضررة من سياسات التقشف.
ولم تقتصر هذه المطالب على البلدان النامية والأقل نموًّا، ولا البلدان التي تعيش شعوبها تحت وطأة نظم استبدادية، بل امتدت إلى عددٍ ليس بقليل من البلدان التي تحتل موقعًا متقدمًا في مؤشرات النمو الاقتصادي والتنمية البشرية، وعدد من الديمقراطيات العريقة -خاصة في الموجة الأولى- مثل: اليونان، وإسبانيا، والولايات المتحدة، وفرنسا، وهي البلدان التي من المفترض أن يتمتع فيها المواطنون بقدرة على التأثير في عملية صنع القرار بما يضمن تحقيق مصالحهم؛ إلا أنّ واقع هذه البلدان -كما أوضحت الكثير من الدراسات- قد شهد تناميًا في ظاهرة المال السياسي على حساب الديمقراطية التمثيلية، فلم يجد المواطنون من سبيل سوى الخروج إلى الساحات والميادين العامة من أجل التعبير عن مطالبهم ومصالحهم. فقد شهدت الولايات المتحدة -على سبيل المثال- ظاهرة One Dollar, One vote كبديل عن One citizen, One vote كتعبير عن تأثير أصحاب الثروة والنفوذ على نتائج الانتخابات، وعملية صنع القرار برمتها.
تغير أجندة المؤسسات النيوليبرالية:
أصبحت قضية عدم المساواة إحدى القضايا المحورية على أجندة صانعي السياسات على المستويين المحلي والدولي منذ مطلع العقد الثاني من الألفية. ومع اندلاع الاحتجاجات الشعبية إثر الأزمة المالية العالمية في عام 2008 وما نتج عنها من آثار اقتصادية واجتماعية سواء في البلدان المتقدمة أو النامية على حد سواء، أدرك المجتمع الدولي خطورة هذه الظاهرة على النمو الاقتصادي على المدى المتوسط والبعيد، كما اتضح أيضًا آثارها الاجتماعية والسياسية لما خلقته من تفاوت بين قلة تمتلك الثروة والنفوذ، وكثرة لا تمتلك شيئًا على الإطلاق.
وظهر اهتمام المجتمع الدولي بخطورة هذه الظاهرة في التغير الملحوظ في خطاب بعض المؤسسات الدولية المعروفة بعقيدتها النيوليبرالية الراسخة، مثل (الصندوق الدولي، والبنك الدولي)، حيث أصبحت قضية عدالة توزيع عوائد النمو الاقتصادي ضمن أولوياتها. وهو ما يتضح من خلال مراجعة العديد من الدراسات والتقارير الدولية الصادرة عن هاتين المؤسستين، والتي تحدثت بوضوح عن خطورة انعدام المساواة على تحقيق النمو الاقتصادي على المدى البعيد، وأوصى بعضها بضرورة اتخاذ بعض الإجراءات والإصلاحات الاجتماعية من أجل تفادي أي نوعٍ من القلاقل والاضطرابات في المستقبل.
وتُعد أجندة التنمية المستدامة أبرز تجليات اهتمام المجتمع الدولي بقضية عدم المساواة والحرص على وضعها (بكافة أبعادها) ضمن أهداف التنمية المستدامة 2030؛ إذ تضمنت هذه الأهداف أكثر من هدف، وعددًا كبير من الغايات التي تؤكد ضرورة مكافحة عدم المساواة بشتى صورها، سواء كانت عدم مساواة في النوع الاجتماعي، أو في الدخل والثروة بين الأفراد داخل البلدان وفيما بينها. من هذا المنطلق لم تعد قضية عدم المساواة ذات أبعاد وتداعيات اقتصادية بحتة، بل أضحت من التحديات الكبرى التي وجب على المجتمع الدولي مواجهتها.
شرك "عدم المساواة":
يُشير تقرير التنمية البشرية لسنة 2019 المعنون "أوجه عدم المساواة في القرن الحادي والعشرين: ما وراء الدخل، والمتوسط، والحاضر"، إلى تنامي قناعة لدى الأفراد على مستوى العالم بضرورة تقليل عدم المساواة في الدخل والثروة. وبحسب التقرير فقد تضاءلت فرص الحراك الاجتماعي أمام الكثيرين ممن يعيشون على هامش المجتمعات، بينما استطاع أقرانهم الحصول على فرص أفضل لتحقيق الازدهار والنمو، وهي الظاهرة التي لم تعد تقتصر على البلدان النامية أو الأقل نموًّا، كما سبقت الإشارة.
وعلى الرغم من نجاح المجتمع الدولي في خفض نسبة من يعيشون في فقر مُدقع إذا حقق العالم طفرة كبيرة منذ عام 1990 حتى عام 2015، بحيث انخفض عدد مَن يعيشون على 1.9 دولار يوميًّا من 1.9 مليار شخص على مستوى العالم إلى 736 مليون شخص؛ إلا أن الأمر أضحى يتجاوز الفقر الذي يُقاس بفقر الدخل فقط. فهناك 600 مليون شخص على مستوى العالم ما زالوا يعيشون في فقر مُدقع، في مقابل مليار و300 ألف شخص يعيشون تحت وطأة الفقر متعدد الأبعاد Multi-dimensional Poverty، ليس هذا فحسب فهناك 262 مليون طفل على مستوى العالم لم يلتحقوا بالتعليم الأساسي.
وبحسب التقرير نفسه، هناك تزايد في حالات التمييز على أساس النوع الاجتماعي، أو الانتماء العرقي، أو الثروة، وجميعها عوامل لا دخل للأفراد في تحديدها، فجميعها موروثة من الآباء والأجداد، وهو ما يجعل الكثير من المجتمعات تعيش في شرك عدم المساواة The Inequality Trap. ويشير هذا المصطلح إلى تكالب أكثر من نمط من أنماط عدم المساواة على جماعة من البشر بما يحول دون تحقيقهم التنمية المنشودة، كحالة النساء في القبائل الهندية، إذ يتكالب عليهن أكثر من نمط من أنماط عدم المساواة (العرقية، والنوعية، والاقتصادية، والاجتماعية، والجغرافية) بما يجعل فرصهن في الخروج من براثن الفقر شبه منعدمة، حتى مع تَحسن مؤشر الفقر في مجتمعهن.
ويطرح تقرير التنمية البشرية سالف الذكر تفسيرًا منطقيًّا لحالة السخط التي شهدتها بعض البلدان التي تحظى بمكانة متقدمة في مؤشر التنمية البشرية، وبعض مؤشرات النمو الاقتصادي. ويَعزو التقرير هذا السخط إلى عجز الكثير من البلدان عن إحراز التقدم المطلوب فيما يتعلق بمؤشرات التنمية البشرية المرتبطة بالقدرات المعززة، Enhanced Capabilities، ومنها: الحصول على الخدمات الصحية الجيدة جدًّا، والحصول على الخدمات التعليمية الجيدة جدًّا في كافة المراحل، والقدرة على النفاذ إلى وسائل التكنولوجيا الحديثة، والقدرة على الصمود أمام الأنواع الجديدة من الصدمات كالناتجة عن التغير المناخي. وترتبط هذه القدرات بالحصول على فرص عمل ملائمة، وقدرة الأفراد والجماعات على التعبير عن ذواتهم، والوصول إلى الفرص المتاحة.
هذا على الرغم من نجاح أغلب الدول في تعزيز القدرات الأساسية Basic Capabilities، وهي: العمر المتوقع عند الميلاد، وتوفير التعليم الأساسي، ودرجة النفاذ إلى التكنولوجيا، والقدرة على الصمود أمام الصدمات. وقد استطاعت أغلب البلدان إحراز تقدم ملحوظ في تحقيقها، إلا أنه ما زالت هناك مشكلات فيما يتعلق بالقدرات المعززة التي تزداد إلحاحًا مع التقدم التكنولوجي الذي أدى إلى اتساع هوة التفاوت نتيجة عدم امتلاك الأغلبية لما يؤهلهم لتحقيق ذواتهم أو الحصول على فرص عمل ملائمة بمقتضيات العصر الحديث. والواقع أن هناك درجة تفاوت كبيرة في الحصول على المعرفة المتقدمة والتكنولوجيا المتطورة. فنسبة الحاصلين على التعليم العالي في دول لديها معدلات تنمية بشرية مرتفعة، تزداد بوتيرة أسرع بست مرات عن مثيلتها في بلدان التنمية البشرية المنخفضة، أما وتيرة الاشتراك في إنترنت النطاق العريض الثابت فهي أسرع في بلدان التنمية البشرية المرتفعة بـ15 مرة من البلدان ذات التنمية البشرية المنخفضة.
ويتضح من هذا أن عدم المساواة العالمية قضية هامة يزداد تأثيرها يومًا بعد يوم، ومن المرجح أن تتفاقم خلال العقد الحالي بما يؤثر على قدرة المجتمع الدولي على إنجاز بعض أهداف التنمية المستدامة، مثل: الهدف الخاص بالقضاء على انعدام المساواة في النوع الاجتماعي، أو القضاء على الفقر المُدقع، أو القضاء على الجوع.
ويظل السؤال: هل من سبيل لمواجهة هذه الظاهرة؟ على عكس ما يفترضه الكثير من المفكرين النيوليبراليين، فعدم المساواة -بمختلف صورها- ليست ظاهرة حتمية، ولكنها ظاهرة يمكن مواجهتها من خلال تبني سياسات عامة كلية تركز على الأبعاد المختلفة لانعدام المساواة. مع الأخذ في الاعتبار ظهور أنماط جديدة من عدم المساواة تتجاوز عدم المساواة في الدخل والثروة. وهذا يتطلب سياسات تتجاوز الإصلاح الضريبي أو سياسات الحماية، فعلى الرغم من أهمية تلك السياسات، إلا أن واقع الكثير من البلدان يشهد تعقد وتشابك أنماط مختلفة من عدم المساواة، بما يفرض ضرورة النظر فيما هو أبعد من الأرقام والإحصائيات من خلال النظر إلى الأبعاد الأخرى المرتبطة بموروث عدم المساواة على مستوى الأفراد والجماعات، والذي يشكل عقبة كبيرة أمام المضيّ قدمًا في الاستفادة من عوائد التنمية، والنمو الاقتصادي.
وختامًا، يبقى التأكيد على أن قضية عدم المساواة هي من القضايا الهامة والمُلحّة على المستويين المحلي والدولي؛ وذلك لما لها من تأثير على الاستقرار السياسي. فكلما زاد التفاوت وغياب المساواة، واتسعت الهوة بين القلة التي تملك كل شيء، والكثرة التي لا تملك شيئًا على الإطلاق بات استقرار الدول والشعوب على المحك. ويحتاج الأمر إلى تبني سياسات اقتصادية واجتماعية تعالج آثار هذا التفاوت، وسواء كانت سياسات إصلاح ضريبي، أو سياسات حماية اجتماعية، أو دعم نقدي؛ لا بد أن تراعي خصوصية الدول والشعوب، فما يصلح في مجتمع، لا يؤتي نفس النتائج في مجتمعات أخرى.