مثّلت الخطة الأمريكية للسلام في الشرق الأوسط التي طرحتها إدارة "ترامب"، يوم الثلاثاء 28 يناير 2020، لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، تحولًا عن كافة ثوابت الموقف الأمريكي تجاه حل هذا الصراع التاريخي، فعلى الرغم من أن الإدارات الأمريكية السابقة والمتعاقبة على مدار أكثر من نصف قرن، التزمت ولو نسبيًّا بمبدأ الوسيط المحايد؛ إلا أن إدارة الرئيس "ترامب" تبنّت نهجًا مختلفًا كليًّا تَمَثّل في الانحياز التام للطرف الإسرائيلي، وعكست الخطة التي تمت صياغتها دون تشاور مع الطرف الفلسطيني تبنيًا للموقف والأطروحات الإسرائيلية في حل الصراع. هذا التحول وطبيعة الخطة ذاتها، يؤشران إلى صعوبة نجاحها، ومع افتراض عمل الأطراف المعنية على تجنب سيناريو فشل الخطة، فإن نجاحها يرتبط بمجموعةٍ من المحدِّدات التي سيكون من الصعوبة أيضًا توافرها على المدى القريب والمتوسط.
بنود رئيسية
نشر البيت الأبيض يوم الثلاثاء النص الأصلي للخطة، وذلك بعد إعلان الرئيس "ترامب" الملامح الرئيسية لها في مؤتمر عام بالبيت الأبيض شارك فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي المنتهية ولايته "بنيامين نتنياهو". وجاءت الخطة في 181 صفحة، ووضعت أطرًا رئيسية لحلول القضايا الرئيسية في الصراع، خاصة قضايا الحل النهائي التي تجنبت الإدارات السابقة طرح تصورات محددة وشاملة بشأنها، فالخطة تضمنت تصورًا شاملًا حول حدود الدولتين الإسرائيلية والفلسطينية، والوضع القانوني للأماكن المقدسة، وقضية اللاجئين، وذلك على النحو التالي:
1- حدود الدولتين: تضمنت وثيقة الخطة، لأول مرة في تاريخ الدبلوماسية الأمريكية، خريطة واضحة ومحددة بدقة، لتحديد حدود الدولتين الإسرائيلية والفلسطينية، ووفقًا للخريطة تحتفظ إسرائيل بالسيادة على غور الأردن شرق الضفة الغربية، وهي المنطقة الواقعة على الحدود الشرقية للضفة الغربية المتاخمة للأردن، وتم تحديد تلك الحدود لتلبية المتطلبات الأمنية لإسرائيل، وقد أشارت الوثيقة في أكثر من موضع إلى يهودية الدولة الإسرائيلية.
في المقابل، نصت الخطة على إنشاء دولة مستقلة لفلسطين تكون عاصمتها جزءًا من القدس الشرقية، ومضاعفة مساحة الأراضي التي يسيطر عليها الفلسطينيون خلال السنوات القادمة، مقابل أن يعلن الجانب الفلسطيني الوفاء بمجموعة من المعايير والإجراءات، مثل" استئصال ما تسميه إسرائيل "إرهابًا"، ووقف المساعدات لأسر الإرهابيين، وتنفيذ إجراءات توفر حقوق الإنسان، وبصفة خاصة حرية التعبير والقضاء على الفساد وتنفيذ إصلاحات سياسية.
وحددت الخريطة المرفقة بالوثيقة أجزاء الأراضي التي ستشكل الدولة الفلسطينية، لكن الخطة نصت على أن الدولة الفلسطينية ستكون منزوعة السلاح، مع احتفاظ إسرائيل بالمسؤولية الأمنية غرب نهر الأردن. ونصت الخطة أيضًا على أنه بمرور الوقت، سيعمل الفلسطينيون مع الولايات المتحدة وإسرائيل لتحمل المزيد من المسؤولية الأمنية، حيث تقلل إسرائيل من سيطرتها الأمنية. وتشير الخطة إلى السماح للدولة الفلسطينية باستخدام وإدارة المرافق في موانئ حيفا وأشدود، ومنطقة على الساحل الشمالي للبحر الميت، واستمرار النشاط الزراعي في وادي الأردن، وربط الدولة الفلسطينية المقترحة بطرق وجسور وأنفاق من أجل الربط بين غزة والضفة الغربية.
2- وضع القدس: حددت وثيقة الخطة الوضع السياسي والقانوني للقدس والمواقع المقدسة، ونصت على أن القدس ستبقى موحّدة وستظل عاصمة إسرائيل، وأن إسرائيل ستواصل حماية الأماكن المقدسة في القدس، وستضمن حرية العبادة لليهود والمسيحيين والمسلمين، والحفاظ على الوضع الراهن في الحرم القدسي الشريف، والحفاظ على الدور الخاص والتاريخي للأردن فيما يتعلق بالأماكن المقدسة. وأشارت الخطة إلى أن جميع المسلمين مدعوون إلى زيارة المسجد الأقصى.
3- وضع المستوطنات: أشارت الخطة إلى أن إسرائيل وافقت على تجميد النشاط الاستيطاني لمدة أربع سنوات في الوقت الذي يجري فيه التفاوض على إقامة دولة فلسطينية. ونصت على أنه سيتم دمج حوالي 97٪ من الإسرائيليين في الضفة الغربية في الأراضي الإسرائيلية المجاورة، وسيتم دمج حوالي 97٪ من الفلسطينيين في الضفة الغربية في أراضٍ فلسطينية مجاورة. وأن السكان الفلسطينيين الموجودين في داخل الأراضي الإسرائيلية لكنهم تحت رعاية دولة فلسطين سوف يصبحون مواطنين لدولة فلسطين، وسوف تتوفر لهم طرق تربطهم بدولة فلسطين التي سوف تكون خاضعة للإدارة المدنية الفلسطينية المجاورة، بما في ذلك تقسيم المناطق والتخطيط داخل المناطق الفلسطينية المحتلة. وطرق الوصول هذه سوف تخضع لمسؤولية الأمن الإسرائيلية. كما أن السكان الإسرائيليين الموجودين في داخل الأراضي الفلسطينية لكنهم تحت رعاية دولة إسرائيل سوف يصبحون مواطنين لدولة إسرائيل، وسوف تتوفر لهم طرق تربطهم بدولة إسرائيل.
4- وضع اللاجئين: صاغت الخطة إطارًا واسعًا لمعالجة قضية اللاجئين، لكن اللافت للنظر أن هذا الإطار تناول قضية اللاجئين من الطرفين، اللاجئين الفلسطينيين، واللاجئين اليهود الذين تم تهجيرهم من الدول العربية بعد قيام إسرائيل، وألمحت الخطة إلى عدم عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم، مقابل منحهم تعويضات وتوطينهم في الدول التي يقيمون فيها، وأن اللاجئين الذين سيتم تعويضهم يجب أن ينطبق عليهم تعريف اللاجئ المعتمد من قبل الأونروا.
وبالإضافة إلى القضايا الرئيسية، تضمنت الخطة عددًا من البنود التي تُغطي جوانب أخرى، منها التفاصيل المرتبطة بالمعابر، وغزة، ومنطقة التجارة الحرة، واتفاق التجارة مع الولايات المتحدة، ومرافق الميناء، ومنتجع البحر الميت، وشؤون المياه، والإفراج عن المعتقلين، ووضع اللاجئين. وأهمية خلق ثقافة السلام والشراكات الاقتصادية الإقليمية وأهمية نهاية الصراع.
اختلافات جزئية
رغم الجهود المختلفة التي بذلتها الإدارات الأمريكية السابقة من "جورج بوش الابن" إلى "باراك أوباما"؛ تظل الجهود التي بذلتها إدارة الرئيس "بيل كلينتون" الأهم في جهود تلك الإدارات لتسوية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، خاصة ما تم إنجازه كأطر عامة في مفاوضات كامب ديفيد عام 2000 وطابا عام 2001، رغم أنه لم يكتب لها النجاح عمليًّا. وتُعد خطة السلام التي طرحتها إدارة "ترامب" تطويرًا لما تم التوصل إليه من أطر ومبادئ عامة خلال مفاوضات كامب ديفيد وطابا، لكن التباين بينهما أن إدارة "ترامب" تبنت نهجًا أكثر انحيازًا لإسرائيل في وضع تصورات لقضايا الحل النهائي.
ففي المفاوضات التي جرت في كامب ديفيد خلال شهر يوليو عام 2000 بين الرئيس "كلينتون" ورئيس الوزراء الإسرائيلي "إيهود باراك" ورئيس السلطة الفلسطينية "ياسر عرفات"، كان الطرح الأمريكي والإسرائيلي لحل قضايا الصراع يتضمن موافقة إسرائيلية على إقامة الدولة الفلسطينية على حوالي 94% من مساحة الضفة (عدا القدس) إضافة إلى كامل قطاع غزة بشرط ألّا تتمتع هذه الدولة بجيش، وأن يُسمح لقوات الاحتلال الإسرائيلي بالوجود في أراضي وأجواء هذه الدولة، وفصل الضفة عن غزة، مع ربط بعض المناطق بممرات آمنة وطرق التفافية تقع تحت السيطرة الفلسطينية، دون انتزاع السيادة الإسرائيلية عنها.
وفيما يتعلق بقضية اللاجئين الفلسطينيين، فيتم حلها بتوطين هؤلاء اللاجئين بالبلاد التي يقيمون فيها مع تعويضهم وإعادة جزء بسيط منهم، من دون اعتراف إسرائيل بأي مسؤولية قانونية أو مدنية لتشريدهم، وعلى ألّا يتجاوز عددهم 100 ألف، إضافة إلى السماح للدولة الفلسطينية بإعادة نصف مليون منهم وفق برنامج زمني محدود. كما يتم إقامة صندوق دولي لتعويض اللاجئين تساهم فيه إسرائيل وأمريكا وأوروبا، بشرط أن يتضمن تعويض اليهود الذين خرجوا من أماكن سكناهم في الدول العربية بعد قيام إسرائيل على أرض فلسطين عام 1948.
لكن المفاوضات فشلت بسبب المقترحات المتعلقة بالقدس، حيث اشترطت إسرائيل تقسيم مدينة القدس وضم أغلبها إلى سيادة إسرائيل باستثناء بعض الأراضي و"البقع" تحت السيادة الفلسطينية، وضم المسجد الأقصى (في القدس القديمة في القدس الشرقية) إلى السيادة الإسرائيلية.
وحاول الرئيس "كلينتون" معالجة الموقف في مفاوضات طابا في يناير عام 2001، فخلال هذه المفاوضات حاول الطرفان الإسرائيلي والفلسطيني البناء على معايير "كلينتون" أو الإطار العام الذي تم اقتراحه في مفاوضات كامب ديفيد، لكن المفاوضات فشلت أيضًا بسبب فجوة المطالب بين الجانبين، خاصة فيما يتعلق بقضايا اللاجئين والقدس.
المسارات المحتملة
في ضوء ما ورد في خطة السلام الأمريكية لتسوية الصراع الإسرائيلي والفلسطيني، ومواقف الطرفين الأصليين في الصراع، الحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية، هناك مساران محتملان لاحتمالات نجاح الخطة:
المسار الأول- مسار إطلاق عملية تفاوضية ممتدة: لا تعتبر خطة السلام الأمريكية لتسوية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني خطة إلزامية في حد ذاتها، ولكنها رؤية أمريكية ترسم الأطر الرئيسية لحل قضايا الصراع ولكن بشكل تفصيلي، فقد نصت الخطة على أن الأمر متروك للقادة الإسرائيليين والفلسطينيين لاتخاذ إجراءات شجاعة وجريئة لإنهاء الجمود السياسي، واستئناف المفاوضات على أساس هذه الرؤية، وجعل السلام الدائم والازدهار الاقتصادي حقيقة واقعة، وأنه إذا كان لدى الفلسطينيين مخاوف بشأن هذه الرؤية، فيجب عليهم طرحها في سياق مفاوضات مع الإسرائيليين، والمساعدة في إحراز تقدم، وأن معارضة هذه الرؤية تعني دعم الوضع الراهن اليائس الذي هو نتاج عقود من التفكير القديم.
بناء على ذلك فإن هناك احتمالات لنجاح الخطة ولو بشكل محدود، وهذا النجاح يتوقف على قبول الطرف الفلسطيني بالبدء في مفاوضات مع الطرف الإسرائيلي تحت رعاية أمريكية، وفي ظل الموقف المعلن للسلطة الفلسطينية برفض الخطة الأمريكية، فإن هذا المسار ونجاح الخطة غير ممكن، إلا إذا قبلت السلطة بالتفاوض مع الجانب الإسرائيلي، وأبدى الأخير مرونة في إمكانية إجراء تعديلات ولو جزئية في الخطة، يمكن أن يقبل بها الطرف الفلسطيني. لكن هذا التصور يتوقف على حدوث تطور غير متوقع يجبر الجانب الفلسطيني على القبول بالتفاوض.
المسار الثاني- مسار الفشل وترسيخ الموقف الإسرائيلي: انطلاقًا من رفض الجانب الفلسطيني القبول بالخطة، فإن الخطة لن يكتب لها النجاح، خاصة وأن الجانب الإسرائيلي بدأ في إجراءات أحادية منفردة لتطبيق الخطة، فقد أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" أن حكومته ستصوت يوم الأحد 2 فبراير 2020 على المرحلة الأولى من خطته لضم غور الأردن وشمال البحر الميت والمستوطنات اليهودية في الضفة الغربية المحتلة، كما أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي عن تشكيل طاقم خاص يُناط به مهمة اتخاذ التدابير اللازمة لفرض السيادة الإسرائيلية على غور الأردن وشمال البحر الميت والمستوطنات في الضفة الغربية، ويضم مسؤولين من الدوائر الأمنية الإسرائيلية المختلفة. ومن المحتمل أن يقوم الجانب الإسرائيلي بالتوازي مع تطبيق الخطة، بالعمل على انتقاد الفلسطينيين باستمرار بحجة أنهم أهدروا فرصة السلام، الأمر الذي سيجعل إدارة الرئيس "ترامب" تستمر في دعم الموقف الإسرائيلي وبكل قوة.