جاءت عملية استهداف قائد فيلق القدس الإيراني "قاسم سليماني"، ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي " أبو مهدي المهندس" بمثابة صدمة للقوى السياسية العراقية، إذ لم تكن هذه القوى تضع في حساباتها احتمالات استهداف واشنطن لقيادات عسكرية إيرانية بصورة مباشرة على الأراضي العراقية في خضم الأزمة السياسية الحادة التي يمر بها العراق، والاحتجاجات الحاشدة ضد النفوذ الإيراني في دوائر صنع القرار العراقي، وهو ما تسبب في تعميق الانقسامات ما بين القوى المعارضة للضربة الأمريكية والداعية لإتخاذ إجراءات صارمة لإدانتها، والتيارات المؤيدة لاستهداف التواجد العسكري الإيراني في العراق.
دلالات التوقيت:
يشغل "قاسم سليماني" منصب قائد "فيلق القدس" القوة الأبرز في الحرس الثوري الإيراني، كما أنه مقرب من المرشد الأعلى للثورة الإيرانية "علي خامنئي"، وأحد أهم أعمدة النظام الإيراني، ويُعد الممثل الرئيسي والمخطط للسياسة الأمنية الإيرانية على المستوى الإقليمي، وحلقة الوصل الأساسية بين إيران وحلفائها ووكلائها في دول الإقليم، ولا يخفى تأثيره في الساحات العراقية والسورية واللبنانية واليمنية، وغالبًا ما يتم تسريب صوره في هذه الساحات، سواء عمدًا أو عن غير قصد.
ويُشكل هذا الحدث تحولًا في الصراع الأمريكي-الإيراني، وبخاصة في الساحة العراقية، في ظل التأثير الإيراني على تطورات ومجريات الساحة العراقية، وتأثير "قاسم سليماني" بشكل خاص على السياسيين العراقيين والقوى السياسية العراقية من جهة والفصائل المسلحة من جهة أخرى.
وعلى الرغم من أنه من المتوقع ألا يُحدث مقتلُه تغييرًا جوهريًّا في السياسة الإيرانية تجاه المنطقة؛ إلا أن هذه العملية لها العديد من الدلالات والتأثيرات الكبيرة المتعددة. فمن حيث التوقيت فإنه جاء متزامنًا مع تصعيد الولايات المتحدة الأمريكية موقفها تجاه إيران في العراق بشكل مختلف عما هو سائد، حيث دأبت طهران على التحرك بإصرار لتنفيذ العديد من الخطوات ضد مصالح واشنطن في المنطقة، ولم يصدر من الطرف الأمريكي ردٌّ كافٍ يُقنع حلفاءه بجدية السياسة الأمريكية في ردع إيران ووكلائها.
كما تؤكد هذه العملية حدوث تحول آخر في السياسة الأمريكية تجاه وكلاء إيران؛ حيث كان الطرفان يعتمدان على الوكلاء في غالب الأمر؛ إلا أن واشنطن اتجهت لأن تقوم بالاستهداف المباشر لوكلاء إيران مؤخرًا. فعلى سبيل المثال، نفذت عددًا من الضربات استهدفت خلالها مقرات "حزب الله" في مدينة القائم بمحافظة الأنبار، وقد أعلنت الولايات المتحدة مسؤوليتها عن هذه العمليات، بالتوازي مع عددٍ من العمليات لم يتم الإعلان الرسمي عن الجهات التي نفذتها، مثل هجمات في محافظتي بغداد وصلاح الدين على معسكرات ومخازن للسلاح تابعة لفصائل الحشد الشعبي، ويُقال إنه كان هناك تواجد إيراني في بعضها، ولم يتم الإعلان عن المنفذ أيضًا على الرغم من أن بعض الصحف تداولت أنباء عن ضلوع إسرائيل في العملية. في المقابل، استمرت إيران في الاعتماد على الوكلاء، حيث شهدت الأيام الماضية هجمات على القواعد العسكرية الأمريكية في العراق، بالإضافة إلى الهجوم على السفارة الأمريكية في العراق.
ويُمكن القول إن عملية اغتيال "سليماني" في العراق تشكل إحدى أهم حلقات الصراع الأمريكي-الإيراني من حيث استهداف الشخصية الإيرانية الأبرز في إدارة هذا الصراع، وما يمثله من إعلان أمريكي صريح عن بداية مرحلة تحجيم النفوذ الإيراني في العراق في ظل دعم من الاحتجاجات الشعبية التي رفعت شعار "إيران بره بره"، وأجبرت الحكومة العراقية المدعومة من طهران على تقديم استقالتها.
تهديدات إيرانية بالتصعيد:
بعد الإعلان الرسمي عن مقتل "سليماني" من قبل القوات الأمريكية في العراق، توالت تصريحات التهديد والوعيد من قبل الطرف الإيراني، فنقلت وكالة "إرنا" الإيرانية أن "خامنئي" ترأس ولأول مرة اجتماعًا طارئًا لمجلس الأمن القومي الإيراني لبحث خيارات الرد، ونشر حساب "خامنئي" على تويتر تغريدة نصها: "إن انتقامًا قاسيًا بانتظار المجرمين" على حد تعبيرهم. بالإضافة إلى تغريدة أخرى نصها: "بسم الله الرحمن الرحيم"، الأمر الذي يُشير إلى بداية عملٍ ما ضد الولايات المتحدة الأمريكية.
ووصف الرئيس الإيراني "حسن روحاني" الحادثَ بالقول: "اغتيال قاسم سليماني عمل جبان، ويؤكد ضعف الولايات المتحدة في المنطقة". وأضاف: "واشنطن ارتكبت جريمة باغتيالها سليماني، وهذا سيضاعف من عزمنا لمواجهة سياسة الولايات المتحدة الأمريكية". بينما جاء موقف الحرس الثوري بالقول: "نحن وكل القوى المناوئة لأمريكا سنثأر لسليماني في شتى أنحاء العالم الإسلامي".
وذكرت هيئة الأركان الإيرانية في بيان لها أن "على الولايات المتحدة الأمريكية ومن نفذ عملية اغتيال قاسم سليماني أن ينتظر ردًّا قويًّا ومزلزِلًا"، وذكر "أحمد خاتمي" عضو مجلس خبراء القيادة في خطبة الجمعة بطهران أنه "حان الوقت للمقاومة لكي تظهر أن على الأمريكيين مغادرة المنطقة".
وقال المتحدث باسم الحكومة الإيرانية "سنلقن الولايات المتحدة الأمريكية درسًا لن ينساه جميع رؤسائها"، فيما صرح المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الإيراني قائلًا: "يجب أن تدفع واشنطن ثمنًا غاليًا لجريمة اغتيال قاسم سليماني". وأضاف قائلًا: "واشنطن تتحمل التداعيات الأمنية والعسكرية لاغتيالها سليماني".
احتمالات التصعيد العسكري:
في ظل هذهِ التطورات قد يأخذ الصراع الأمريكي-الإيراني في العراق منحاه في مجالين؛ الأول سيكون من خلال سعي كل طرف منهما إلى تشكيل حكومة عراقية تكون بجانبه من خلال القوى السياسية التي تؤيده، بالتزامن مع سعي كل منهما إلى تصفية الحساب مع القوى السياسية التي تقف إلى جانب الطرف الآخر، مع سعي إيراني لدفع القوى السياسية العراقية إلى اتخاذ موقف أو استصدار قرار بإنهاء التواجد العسكري الأمريكي في العراق.
كما أنه من المتوقع أن يتم التصعيد على المستوى العسكري، لا سيما في ظل تواجد القوات الأمريكية في عدة قواعد، مثل: بغداد، والرمادي، والقيارة، وكركوك، ومناطق أخرى، والتي يبلغ تعداد جنودها ما يقرب من 11 ألف جندي يتوزعون بين قوات رسمية وشركات أمنية. وفي المقابل، هناك تواجد إيراني مباشر وفصائل عراقية مسلحة تعدها الولايات المتحدة الأمريكية محسوبة على إيران، الأمر الذي يجعل من خطوط المواجهة والتصعيد العسكري مفتوحة أمام الطرفين.
وتلك المعطيات من الممكن أن تُشكل فرصًا أمام كلٍّ من الإدارة الأمريكية والقيادة الإيرانية من أجل استغلالها كوسيلة لصرف أنظار الداخل تجاه المشاكل الخارجية، فـ"دونالد ترامب" يريد أن يصرف أنظار مجلس النواب والشارع الأمريكي بعد إثارة قضية عزله الأخيرة، ويُعد مقتل "سليماني" موقفًا يُحسب له في الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة، بينما تجد فيها القيادة الإيرانية وسيلة لشغل الشارع الإيراني الذي يشهد احتجاجات شعبية واسعة منذ أكثر من شهر احتجاجًا على غلاء المعيشة وانخفاض مستوى الدخل والخدمات وسياسات إيران الخارجية في ظل العقوبات والتضييق الأمريكي على إيران.
ختامًا، يمكن القول إن حدث مقتل "سليماني" من المتوقع ألا يشكل حدثًا عابرًا في الصراع الأمريكي-الإيراني، خاصة وأن مقتله تم في الساحة العراقية بما يحمله ذلك من دلالات، سواء من ناحيتي الحدث أو التوقيت، أو في ساحات الصراع الأخرى، كما قد يتم حدوث عمليات تصعيدية من الجانبين من خلال استهداف قوات الطرفين، بالإضافة إلى عمليات غير مباشرة لتصفية وكلاء إيران والتضييق عليهم في العراق وسوريا ولبنان واليمن.