تُخَصِّص مراكز الدراسات الدولية والصحف العالمية والمواقع الإخبارية أعدادًا من إصداراتها عن "توقعات العام المقبل" استنادًا إلى مؤشرات أولية أو مداخل تحليلية أو اقترابات منهجية تُحاول رصد التحولات الرئيسية التي تشهدها أقاليم العالم، وفقًا لزوايا اهتمامها ولنطاق تأثيراتها، مع الأخذ في الاعتبار أن أغلب التحولات الإقليمية، ومنها تلك التي تحكم منطقة الشرق الأوسط قد تكون مفاجئة وصادمة وغير متوقعة، فيما يُعرف بسيناريوهات "البجع الأسود"، وتبلور حالة من اللا يقين بشأن "اليوم التالي" لهذا التحول أو ذاك.
يحكم الشرق الأوسط في عام 2020 بيئة إقليمية مضطربة تسودها صراعات مسلحة مفتوحة، واحتجاجات شعبية مستمرة، وتحالفات إقليمية مرنة، وأشباه جيوش جوالة، وجماعات جريمة منظمة خطرة، وذئاب إقليمية متوحشة، وسباقات مصالح دولية متعارضة. ويجري في إطارها إسقاط طائرات، وتفجيرات سفن، وقصف معسكرات، وإطلاق صواريخ، وتنقيب بحري، وتهديدات بإغلاق مضايق، وتبادل أسرى، على نحو يشير إلى "حالة حرب" مستمرة، سواء داخل الدول أو بين الدول، الأمر الذي يستبعد وضع نهاية لها خلال العام الجاري.
وتتمثل أبرز تلك التحولات المحتملة في الإقليم، والتي لا يمكن الفصل في ظلها بين أبعاد داخلية وتأثيرات خارجية، خلال عام 2020، فيما يلي:
ساحات القتال:
1- تصاعد حدة "حروب المدن" في بؤر الصراعات المسلحة العربية: من المرجح أن يشهد عام 2020 تصاعدًا في "حروب المدن" باعتبارها ساحات القتال الرئيسية لهجمات أطراف الصراع كافة، سواء كانت محلية أو خارجية، والتي تدور في الغالب في حيز مكتظ بالسكان، وهو ما ينطبق بشكل خاص على مدن: مصراتة في ليبيا، وتعز في اليمن، وإدلب في سوريا. كما تسيطر على أجزاء كبيرة من تلك المدن الميليشيات المتطرفة والجماعات المسلحة والتنظيمات الإرهابية. وتتمثل تلك التحديات التي تعوق تحرير تلك المدن في تدمير البنية التحتية الناتجة عن الضربات الجوية والهجمات البرية المتواصلة، على نحو يؤدي إلى تقويض تلك المدن بالكامل، والتي تتطلب سنوات طوالًا، وربما عقودًا، لإعادة الإعمار، وتزايد الخسائر البشرية ما بين قتلى وجرحى ومفقودين ونازحين، وتهجير قطاعات سكانية من مناطق جغرافية بعد تعرضها للقتل والحصار والتجويع.
ولعل أهمية حسم حروب المدن أنها تسهم في تغيير أوضاع ميدانية وإحداث تحول في معادلات إقليمية على نحو يفسر معارضة بعض القوى الإقليمية لها. فعلى سبيل المثال، تعارض تركيا حسم معركة إدلب لأنها تدرك أنها تعزز من سيطرة ونفوذ الجيش النظامي السوري، وتضع نهاية لاتفاق التهدئة الذي تم توقيعه بين اثنين من الأطراف الضامنة، هما روسيا وتركيا. وفي حال انتزاع سيطرة مدينة إدلب من قبضة المعارضة المسلحة والتنظيمات المتطرفة خلال عام 2020، فلن يصبح في سوريا أي مدينة تحت سيطرة تلك الكيانات المناوئة للأسد، مما سيعني انتصارًا للأخير، في الحرب المستمرة منذ ما يقرب من تسع سنوات، وتقليص نفوذ أنقرة ضمن ترتيبات الانتقال السياسي في سوريا، فضلًا عن إحداث تباعد بين الموقفين الروسي والتركي.
كما أنّ تعز تمثل أحد مفاتيح الحرب والسلام في الصراع اليمني، وهو ما يُفسر خطوة ميليشيا الحوثيين في حصار تعز من المحاور المختلفة على مدى خمس سنوات. فالصراع في تعز يعكس بشكل مصغر ديناميكيات وتعقيدات الصراع على مستوى الدولة بشكل كامل، حيث تشهد صراعًا ليس بين الحكومة الشرعية والحوثيين، بل هناك تنازع للسيطرة على المدينة من الحوثيين والإخوان المسلمين (حزب الإصلاح) والسلفيين. وفي حال حدوث حلحلة لوضع تلك المدينة خلال تفاعلات 2020، فسوف يؤثر بدرجة كبيرة على مسار الصراع اليمني. علاوةً على أن تحييد ميليشيات مصراتة عن معركة الحسم في طرابلس يُعد العامل الرئيسي لترجيح كفة قوات الجيش الوطني الليبي في مواجهة حكومة الوفاق المدعومة من الميليشيات، وخاصة ميليشيات مصراتة. فثمة ملف ضاغط كبير يعكس استمرار التصعيد العسكري وتعثر التوصل إلى الحل السياسي التفاوضي بين الأطراف المتحاربة في بؤر الصراعات العربية، وهو إشكالية "حروب المدن".
عودة الشارع:
2- تواصل "احتجاجات الشارع": يبدو أن عام 2020 سوف يشهد استمرارًا لتحركات أو سياسات الشارع street politics التي تدفع في اتجاه الاعتراض على القرارات أو السياسات التي تتخذها الحكومات في دول الإقليم، سواء على صعيد القضايا الداخلية، أو الانخراط في الشئون الخارجية. وعلى الرغم من أن هذا الملمح ظهر جليًّا في عام 2019 بحيث نجح الحراك الشعبي في الإطاحة بنظامي حكم الرئيسين "عمر البشير" و"عبدالعزيز بوتفليقة" في السودان والجزائر، فضلًا عن انفجار هذا الحراك في كلٍّ من لبنان والعراق وإيران؛ إلا أن العام الحالي سوف يشهد تزايد وتيرة هذا الحراك في السودان لتعقيد إدارة المرحلة الانتقالية من جانب مؤيدي الرئيس السابق، لا سيما بعد حل الحزب الحاكم وتصفية مقراته.
كما أن الحراك، ولا سيما الطلابي، لا يزال متواصلًا في الجزائر، خاصة على صعيد المطالبة بالإفراج عن المعتقلين السياسيين. ولا تزال تونس تواجه احتجاجات فئوية، خاصة من قاطني المناطق المهمشة تنمويًّا. ورغم خفوت حدة الحراك في لبنان، إلا أنه يُعد كمونًا تحت السطح، وسرعان ما يظهر متى توافرت السياقات الداخلية والإقليمية المحفزة له. ولا تزال الاحتجاجات مستمرة في العراق، بل برزت الاحتجاجات المجتمعية في المواقع النفطية لإيقاف الإنتاج في تلك الحقول حتى يتم توفير فرص عمل لقاطني تلك المناطق، وهو ما تشير إليه مؤخرًا الاحتجاجات في حقل الناصرية النفطي في كربلاء. وربما تنضم دول أخرى، فيما يعرف بنقاط الاشتعال الجديدة، وتعد الأردن والمغرب هي المرشحة لذلك، لا سيما في ظل أوضاع اقتصادية ضاغطة.
كما أن مظاهرات الميادين لم تعد ظاهرة إقليمية، بل صارت سمة عالمية تنتشر في الدول الأوروبية والآسيوية وأمريكا اللاتينية، لدرجة أن هناك من يرى أن القرن الحادي والعشرين هو "قرن الاحتجاجات"، بعد تنامي المظاهرات والاعتراضات، لإجبار الحكومات على تغيير السياسات، أو حتى على الاستقالة، بل ربما على إزاحة الطبقة أو النخبة الحاكمة من السلطة.
تعثر ائتلافي:
3- تعقّد تشكيل وإدارة الحكومات الائتلافية: يظل أحد التحولات التي يشهدها عدد من دول الإقليم -مثل تونس ولبنان والعراق وإسرائيل- تلك التي تتعلق بتحدي تكوين الائتلافات الحاكمة والحفاظ على بقائها خلال عام 2020. فالربع الأخير من عام 2019 كشف عن مجموعة من المعضلات التي تواجه الحكومات الائتلافية في الشرق الأوسط، ومنها تزايد حدة الانقسامات بين الكتل والتيارات والأحزاب السياسية، والاعتراض على المرشحين لرئاسة الوزراء والحقائب الوزارية، وضغوط الأحزاب الصغيرة وطرح الشروط المسبقة، فضلًا عن تأثير الضغوط الخارجية.
فحكومة "الحبيب الجملي" لم تخرج إلى النور حتى بداية عام 2020، لا سيما أن اختيار "الجملي" لم يكن نتاج تشاور أو توافق سياسي بين الأحزاب المرشحة للمشاركة في الائتلاف الحاكم، بل تم فرضه من قبل مجلس شورى حركة النهضة، فضلًا عن التباين بين النهضة وبقية القوى السياسية بشأن إسناد الحقائب الوزارية، وهو ما أدى لتعثر حكومة المحاصصة الحزبية. ولا توجد مؤشرات توحي بأن خيار تشكيل حكومة من التكنوقراط تحظى بقبول الأحزاب قد يكون قريبًا، بما يشير إلى احتمالات مفتوحة ومنها اللجوء إلى ما يعرف بحكومة الرئيس وفق المادة "89" من الدستور، أو الدعوة لإجراء انتخابات برلمانية مبكرة.
كما تواجه الحكومة اللبنانية برئاسة رئيس الوزراء المكلف "حسان دياب" تحديًا، لا سيما في ظل استمرار الضغوط التي يمارسها الثنائي الشيعي "حزب الله" وحركة "أمل"، لدعم مرشحيها والاعتراض على المرشحين الآخرين، فضلًا عن استيعاب مطالب الشارع. وبرز جليًّا تأثير الضغوط الخارجية في تعقيد تشكيل الحكومة العراقية بعد استقالة "عادل عبدالمهدي"، إذ تسهم السياسة الإيرانية في إضعاف قدرة القوى والكتل السياسية على التوافق بسبب دعم وكلائها وهيمنتها على عملية صنع القرار. وكان آخر النماذج الكاشفة لذلك، رفض الرئيس العراقي "برهم صالح" الإملاءات الخارجية برفض تكليف مرشح البناء محافظ البصرة "أسعد العيداني"، وعرض الاستقالة من منصبه، لا سيما في ظل محاولات حلفاء طهران بالداخل تجاوز الرئيس العراقي، وتخويل رئيس مجلس النواب "محمد الحلبوسي" صلاحية تكليف الحكومة الجديدة.
تصفية حسابات:
4- تزايد استهداف دول المنطقة كساحة لتصفية حسابات القوى الدولية والإقليمية: تتجه تفاعلات عام 2020 إلى استهداف طائرات أو قصف مواقع أو ضرب مصالح أو حصار سفارات، في عدد من بؤر التوترات في الإقليم، سواء بين الولايات المتحدة وروسيا، أو بين روسيا وتركيا، أو بين إسرائيل وإيران، أو بين الولايات المتحدة وإيران. فالولايات المتحدة قد ترى أنه يمكن إغراق روسيا في بؤر صراعات جديدة، بعد تعزيز وجودها في سوريا، وتكون المحطة المقبلة -مع الفارق- هي ليبيا على نحو يجعلها في موضع نزاع مع تركيا، بما قد يخصم من نقاط توافقهما في روسيا، لا سيما بعد اشتداد معركة إدلب، ورغبة موسكو في تعزيز السيطرة الميدانية للجيش السوري، وإنهاء آخر جولات الحرب السورية.
كما شهدت نهاية عام 2019 استهداف الجيش الأمريكي خمس قواعد في العراق وسوريا لـ"كتائب حزب الله" العراقية الموالية لإيران، وهو ما جاء ردًّا على هجوم بالصواريخ على "قاعدة ميدا 1" مما أدى إلى مقتل متعاقد أمريكي في 27 ديسمبر الماضي، وهو ما أدى إلى قتلى وجرحى في صفوف قوات الحشد الشعبي، وهو ما ردت عليه الأخيرة بحصار السفارة الأمريكية في العراق في 31 ديسمبر الماضي. ولعل الاستعداء بين الولايات المتحدة من ناحية، وإيران ووكلاء الأخيرة من ناحية أخرى، مرجعه سياسة "الضغوط القصوى" التي تتبناها إدارة "ترامب" تجاه طهران عبر العقوبات الاقتصادية وليس من خلال توجيه ضربات عسكرية، والتي يضعف احتمال حدوثها خلال عام 2020، لا سيما في ظل انتخابات رئاسية قادمة.
خطر الدرونز:
5- تعاظم تهديد الطائرات المسيرة في مناطق الصراعات بحكم أنها تتسم ببيئة عدم الاستقرار: لعل السلاح المستخدم في غالبية المواجهات بين القوى الإقليمية وبعضها، أو بين القوى الدولية والإقليمية، هو الطائرات المسيرة أو الدرونز، والتي تصاعد حيازتها أو امتلاك برامج لتصنيعها من قبل قوى دولية وإقليمية وفواعل عنيفة ما دون الدولة (سواء كانت الميليشيات المسلحة، أو التنظيمات الإرهابية، أو المنظمات الإجرامية)، في بؤر صراعية عدة بسوريا وليبيا واليمن، لا سيما في ظل تكلفتها المحدودة مقارنة بالطائرات الحربية التقليدية، في حين يبدو التصدي لها مستحيلًا على الرغم من محاولات عدة شركات في الدول المتقدمة إيجاد حلول لهذا التهديد المتصاعد القادر على تفادي أي عوائق قد تعترض طريقه كخطوط الكهرباء وأبراج الاتصالات.
هذا فضلًا عن قدرتها على التقليل من حجم الخسائر البشرية، وفقًا لتصور من يطلقها. كما أن المنظومة الدفاعية الجوية المضادة للدرونز تتطلب أموالًا، ونظام تعقب عبر الأقمار الصناعية، ورادارات متطورة، وكاميرات مراقبة، أو برامج الكشف عن مساراتها، وأخيرًا صواريخ خاصة لإسقاطها. ولعل ذلك هو ما سيفيد طهران في محاولاتها المستمرة لزعزعة الاستقرار الإقليمي خلال عام 2020 بعد توافر مؤشرات على تزويد وكلائها بالأسلحة النوعية المتقدمة، ممثلة في الدرونز الجوية والبحرية والصواريخ الباليستية، بحيث تستخدمه في مواجهة السعودية والولايات المتحدة. كما تستخدمه إسرائيل في مواجهة وكلاء إيران في لبنان وسوريا والعراق. واللافت للنظر أن الدرونز وسع أهدافه ليشمل قواعد عسكرية، أو مطارات مدنية، أو منشآت نفطية، على نحو ما تعرضت له السعودية وسوريا خلال عام 2019.
ذئاب الإرهاب:
6- استمرار خطر تنظيمي "داعش" و"القاعدة" على الاستقرار الإقليمي: على الرغم من أن تنظيم "داعش" خسر ما تبقى من دولته المزعومة التي أقامها في سوريا والعراق خلال عام 2019، وفقد رأسه ممثلًا في "أبو بكر البغدادي"، فضلًا عن الضربات الأمنية التي تعرضت لها فروعه في اليمن وليبيا وأفغانستان والفلبين وجنوب آسيا والساحل الإفريقي وإفريقيا الوسطى؛ إلا أن خطره لا يزال قائمًا في عام 2020، سواء من خلال تلك الفروع المختلفة أو من خلال "الذئاب المنفردة" التي تنفذ هجماتها بواسطة سكين مطبخ أو شاحنة، لا سيما بعد أن ظل وجوده في مناطق نفوذه الرئيسية مقصورًا على مناطق جبلية أو صحراوية، وتتمثل في شن هجمات بأعداد صغيرة أو اغتيالات لمسئولين محليين أو عناصر من قوات الأمن أو زرع عبوات ناسفة. وقد تظهر نسخة جديدة لداعش، وفقًا لأحد التقديرات السائدة لدى بعض مراكز الدراسات.
كما أن تنظيم "القاعدة" سيواصل عملياته في مناطق نفوذه الرئيسية، خاصة في شمال وغرب وشرق إفريقيا، كما أنه لا يزال يحتفظ بنشاطه في شبه جزيرة العرب باليمن، فضلًا عن نجاحه في الحفاظ على تواجده في سوريا، رغم كل الضغوط التي تعرض لها، سواء من تنظيم "داعش"، أو حليفه السابق (هيئة تحرير الشام)، إضافة إلى الضربات الأمريكية المتتالية. كما لا يزال العديد من قادة التنظيم الفاعلين على قيد الحياة، بعد الإعلان عن وفاة "حمزة بن لادن" في سبتمبر 2019. وسوف يعمل "القاعدة" خلال عام 2020 على إعادة بناء قدراته عبر الحفاظ على الكيانات القائمة، وتفعيل الأقنعة التنظيمية، وتعزيز التحالفات المتطرفة، والعودة إلى المعاقل القديمة، وتطوير الهجمات الإرهابية، وتنشيط الذئاب والخلايا النائمة.