23 مليون ناخب هو مجموع الجزائريين المخوّل لهم المشاركة في الانتخابات وتسمية رئيس للبلاد مدة السنوات الخمس المقبلة 2019-2024. وفي الواقع، فقد بدأت قوائم المترشحين لتلك الانتخابات قبل الحراك (تظاهرات فبراير 2019)، وتحديدًا في يناير مطلع العام الجاري، بإنشاء تحالف داعم للرئيس السابق "بوتفليقة" يضم أحزاب: جبهة التحرير الوطني، والتجمع الوطني الديمقراطي، والحركة الشعبية، وتجمع أمل الجزائر.
كما طالع الجزائريون وجوه وأسماء مترشحين كانوا "محتملين"، مثل: "أويحيى" رئيس الوزراء السابق وأمين عام التجمع الوطني الديمقراطي، و"مولود حمروش" رئيس الحكومة السابق والملقب بمهندس مرحلة الانفتاح السياسي، بل أكثر من ذلك فقد تقدمت للترشح مواطنة جزائرية تُدعى "نصيرة عزيزة" (وهي لا تحمل خلفيات تعليمية) تعلن نيتها الترشح للرئاسيات للوقوف بجانب الفقراء.
وقد نزعت تلك الوجوه فتيل الأزمة وأشعلت "الحراك" الذي دُشن بدعوات ترفض مقولات "لا خيار إلا الرئيس بوتفليقة"، حتى بعد أن وصل عدد المترشحين إلى 62 مترشحًا في يناير، 12 رئيس حزب و50 مترشحًا حرًّا منهم "راشد منكاز" الناشط الحقوقي، نظرًا لعدم ملاءمة المترشحين المقدمين، وعدم تمتع أيهم بالقبول الشعبي.
انتخابات "ما بعد بوتفليقة":
في أعقاب مرحلة ما بعد استقالة الرئيس السابق "بوتفليقة" مطلع أبريل الماضي، تتجه الجزائر نحو إحداث تغيير كبير في شكل وطبيعة النظام السياسي، بدايةً من النظام الانتخابي باستحداث سلطة مستقلة، هي السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات التي يهدف إنشاؤها إلى منع اقتراب السلطة العامة من مسار الانتخابات، وهي الجهة التي تمخضت عن جلسات مكثفة للبرلمان ناقش فيها قانون تنظيم الانتخابات، وكذلك المراجعة الاستثنائية للقوائم النهائية للناخبين في البلاد.
وظهر التغيير أيضًا في طبيعة الرقابة والمحاسبة فيما يتعلق بالرموز السياسية. ففي سبتمبر الماضي، قضت محكمة عسكرية بالسجن 15 سنة ضد 4 مسؤولين على قمة النظام السياسي السابق. أما أهم ملامح التغيير على الإطلاق، فتتجسد في تحديد يوم 12/12 موعدًا للرئاسيات (انتخابات الرئاسة) الذي أعلنه الرئيس الجزائري المؤقت.
وقد تَشَكَّل معسكران كرد فعل على قرار إجراء الانتخابات الرئاسية، بين معارض ومؤيد لها. فالمؤيدون هم طائفة من الجزائريين يجدون أن الانتخابات مخرج لما تمر به الجزائر من حراك، بشرط نزاهة الانتخابات. وعلى الرغم من عدم وضوح الرؤية بشأن نسبة المشاركة التصويتية، وكذلك عدم وضوح الأمر فيما يتعلق بالقائمة النهائية للمتنافسين على كرسي الرئيس حيث تجمع القائمة الحالية بين مترشحين من رؤساء أحزاب ووزراء سابقين ومترشحين أحرار. نذكر مثلًا "علي بن فليس" رئيس حزب طلائع الحريات، و"عبدالعزيز بلعيد" رئيس حزب جبهة المستقبل، و"بلقاسم ساحلي" رئيس حزب التحالف الوطني الجمهوري، إضافة إلى 3 مترشحات.
ومن غير الواضح كذلك من سيستطيع استيفاء شرط جمع 50 ألف توقيع من 25 ولاية بما لا يقل عن 1200 توقيع عن كل ولاية. وعلى الرغم من حالة التشكك تلك، يجدر تأمل المشهد الجزائري الحالي بالنظر إلى المترشحين الذين يشكلون هذا المشهد من حيث برامجهم والتحديات التي تواجههم كضرورة لفهم العملية الانتخابية ككل.
خريطة المرشحين الأولية:
تجدر الإشارة إلى أن عدد الراغبين في الترشح أو من أعلن نيته الدخول في سباق الانتخابات الرئاسية في الجزائر قد وصل إلى 140 قبل انتصاف شهر أكتوبر الجاري، ولا ينم هذا الرقم الضخم -بالضرورة- عن تصارع الكثير منهم على منصب الرئيس، فلم يتمكن سوى اثنين فقط منهما حتى الآن من استيفاء شرط التوقيعات السالف ذكره، هما: "عبدالعزيز بلعيد"، و"علي بن فليس"، ولم يتمكّنا إلا من حصد 70 ألف توقيع فقط، على الرغم أن "بن فليس" كان رئيسًا للحكومة الجزائرية بين عامي 2000 و2003.
ولا يزال أمام باقي الراغبين حوالي أسبوعين قبل إغلاق باب استيفاء الأوراق اللازمة لوضع القائمة النهائية للمتنافسين على مقعد الرئاسة بقصر المرادية. وهنا، فقد وجد أن مترشحي أحزاب وشخصيات أعلنت نيتها الترشح بصفة مستقلة قد اصطدمت بالفعل بعائق جمع التوقيعات، بمن فيهم من يُطلق عليهم بوسائل الإعلام أصحاب الأوزان الثقيلة. كما انسحب 50 شخصًا انسحبوا بالفعل، حيث لم يبدأوا العملية الفعلية للاستعداد فلم يقوموا حتى بسحب استمارات جمع التوقيعات.
وقد أدى ذلك التحدي (جمع التوقيعات الخمسين ألفًا) إلى وجود بعض التحليلات التي تُشير إلى أن عدد المترشحين الذين سيتنافسون فعليًّا على كرسي الرئيس لن يتجاوز 7 مترشحين فقط.
ولا تنحصر قدرة المترشح على التنافس في الشق الإجرائي فقط، ولكنّ ما يقدمه من برامج وخطط وما يطرحه من رؤى لإدارة مستقبل الجزائر المليء بالتحديات والعثرات، يشكل قسمًا أساسيًّا في الملف الذي سيقدمه أي مترشح للشعب. وبنظرة كلية على خريطة المترشحين المبدئية يمكن القول إن الساحة الجزائرية الحالية تشهد سباقات للوصول لقائمة التنافس على مقعد الرئيس ما بين سياسيين سابقين، ورؤساء أحزاب، وإعلاميين وأكاديميين.
ملامح البرامج الانتخابية:
وبالنظر إلى أهم ما يطرحه هؤلاء على الشعب، وكيف يقدمون أنفسهم له تعزيزًا لموقفهم في سباق الرئاسة، يمكن القول إن معظم -وربما جميع المترشحين- يركزون في التسويق لأنفسهم على الحديث عن الماضي والأوضاع المتردية التي أصبح عليها الاقتصاد الجزائري، وحالة غياب القيم مجتمعيًّا، وما أدت له من آثار اجتماعية ونفسية. بمعنى أن نبذ الماضي ظهر كنقطة بداية وانطلاق لمعظم المترشحين في الترويج لأنفسهم كأشخاص. لذا يمكن القول أن "الإصلاح" محور برامج العديد من المرشحين. كما انتهج العديد من المترشحين "الهجوم" كوسيلة للدفاع، فقد أطلق المترشحون على أحزاب النظام السياسي السابق "أحزاب العصابة".
ويلاحظ أيضًا أن "الشباب" محور الاستهداف في البرامج الانتخابية لمعظم المترشحين، وذلك ليس بمستغرب، فالشباب هم من دعوا للحراك وقاموا به، واسترضاؤهم هو صمام الأمان ليس فقط لاستقرار سياسي وإنما لتحقيق نمو اقتصادي مستدام أيضًا. فمثلًا تعهد "عبدالقادر بيجرين" للشباب الجزائري بأنه في حال أصبح رئيس الجزائر فسيعمل على تعزيز قوة جواز السفر الجزائري ليُمكّن حامله من دخول مائة دولة بدون تأشيرة. كما رفع "فارس مسدور" (مقدم برنامج "استبقوا الخيرات" في قناة القرآن بالتلفزة الجزائرية) شعار الحرية الاقتصادية، وتعهد بإعطاء الفرصة للشباب لتحسين مشاريعهم، كما أعلن أن من ضمن قراراته إلغاء كل القرارات التي اتخذها رئيس الوزراء السابق "أويحيى" لتمكين الشباب وتعزيز أداء الاقتصاد الجزائري. أما "سليمان بخليلي" فقد ركز على "الجنوب الكبير" الجزائري والمناطق الصحراوية التي عانت الكثير خلال 57 سنة، وهو عمر الجزائر كدولة مستقلة، ودعا لسياسة التوقف عن تفضيل جهة على جهة، والتأكيد على شمولية التنمية والعدالة في توزيع ثمار التنمية لتستفيد كل الولايات على قدم المساواة، كما شدد على خلق فرص العمل من خلال تقديم منظور جديد يعتبر "الجنوب الكبير" "خزانًا كبيرًا" فلاحيًّا تكون فيه الأولوية للقطاع الزراعي وليس البترولي لضمان الاستدامة. ومن ضمن مشروعاته أيضًا إنشاء أكبر مستشفى في الشمال الإفريقي بجوار الجامع الأعظم في الجزائر العاصمة. كما أن المترشح "أسامة وحيد" يرى أيضًا ضرورة التأكيد على الحق في العيش والحفاظ على حقوق المواطن البسيط.
ويظهر أيضًا البعد القيمي والاجتماعي في البرامج الانتخابية للعديد من المترشحين. فمثلًا يركز "بخليلي" على بناء الإنسان وإعادة بناء الشباب الجزائري، لذلك يرفع شعار مواجهة الآفات الاجتماعية وترميم قلوب الجزائريين، ويقدم نفسه للجزائريين على أنه منافس قوي للأحزاب الأخرى. أما الإعلامي "أسامة وحيد" فإنه يركز على "الهوية" بمحاربة "الفرنسة"، وتأكيد عروبة الجزائر، بالارتكاز على اللغة العربية وليس الفرنسية ولا الأمازيغية، وهو يتبنى خلفية ومرجعية الرئيس السابق "بومدين"، على اعتبار أنه -من وجهة نظره- أفضل رؤساء الجزائر يحمل أفكارًا تكفي لحماية المنظومة الأسرية والتربوية في الجزائر. ومن خلال برنامجه يطالب "وحيد" أو يدعو لإخراج القرآن والدين إلى الشارع في مواجهة لقرارات "التقييد" التي فرضتها مرحلة الرئيس السابق "عبدالعزيز بوتفليقة"، لذلك وجدنا "وحيد" وغيره من المترشحين يتحدثون عن قضايا دينية كانت "خلافية" في السابق، كالتأكيد على حق تعدد الزوجات، أو التأكيد على منع الخمور في البلاد ولو جزئيًّا، وهي جميعها قضايا طُرحت لنبذ النظام السابق، ومحاولة إقناع الناخب بأن المترشحين لا ينتمون للنظام البائد.
بمعنى آخر، اتجه كثير منهم إلى تقديم وعود كبرى، والسعي لتشييد رموز ضخمة لبناء جزائر جديدة على "أنقاض" النظام السابق، واتضح ذلك من خلال التركيز في الحديث على الأوضاع والمساوئ أكثر من تقديم رؤية اقتصادية متكاملة للتحرك بالبلاد نحو المستقبل أو حتى سبل الاستخدام الأمثل للموارد الاقتصادية التي تحظى بها الجزائر. وقد ظهرت حالة عدم الوضوح تلك من خلال اللقاءات التليفزيونية للمترشحين للتعريف بهم على المستوى الشعبي، والتي تناولت أسئلة عن خلفيات المترشحين، وأسباب الترشح، وسبل التنافس على المقعد، علاوة على أسئلة مثل المهارات اللغوية للمترشحين في لقاءات مصورة نقلتها التلفزة الجزائرية، وظهر من خلالها عدم جاهزية العديد منهم إذا تحدثنا عن رؤية متكاملة لإدارة الجزائر اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا وأمنيًّا.
إن التنافس على الوصول لشغل منصب الرئيس يحتاج وقتًا وجهدًا، وخاصةً إن جمهورية الجزائر الديمقراطية الشعبية دولة كبرى مترامية الأطراف بمساحة 2.38 مليون كم مربع، ونظام إداري ومحلي ممتد يشتمل على 48 ولاية بعد التعديل الذي أجراه الرئيس السابق في 2015، بحيث تمت ترقية 9 مدن لتصبح ولايات منتدبة، نضيف إلى ذلك تواصل التظاهرات أو كما يطلق عليه الحراك الشعبي ومحاولات التصدي له، ولذلك فإن التنافس على مقعد رئيس الجمهورية يمثل تحديًا كبيرًا لأي مترشح، وقد بدأت صعوبة التحدي في التنقل بين الولايات لجمع التوقيعات بما لا يقل عن 25 ولاية، يليه تحدي العدد الكبير من المتنافسين. أما استثنائية المشهد الذي تعيشه الجزائر اليوم تفرض -وبقوة- محددات إضافية لرسم ملامح عملية التصويت، ومنها -على سبيل المثال- بُعد أو قرب المترشح من النظام السياسي السابق، ومشاركته في الحراك السياسي الأخير.. إلخ.
ختامًا، فقد استغرق الشعب الجزائري 10 شهور بين الاحتجاج على ترشح "بوتفليقة" لعهدة خامسة وبين تحديد موعد انتخابات رئاسية بعد غيابه؛ فإن الشعب الجزائري لن يستغرق سوى ساعات قليلة لاختيار الرئيس في الثاني عشر من ديسمبر، وحتى ذلك الحين سيكون على المترشحين خوض العديد من المعارك، ومنها: الإعلامية، والاجتماعية، والإقليمية، وستحدد درجة الاحترافية في إدارة المعركة الفائز بمقعد قصر المرادية، أو على الأقل الفوز بمنصب كرئيس حكومة أو وزير، ومما يدل على صعوبة الأمر أنه لم يستكمل أي رئيس جزائري ولايته بشكل عادي منذ عام 1958، وهو ما يتطلب القيام بإعداد جيد ومتكامل ليس فقط لبرامجهم الانتخابية ولكن أيضًا لسياساتهم القادمة بعد تولي منصب الرئيس، وهي السياسات التي لا بد أن تقوم على أعمدة المشاركة والشمولية في التنمية للتمتع بــ"الاستقرار"؛ للبلاد والشعب والرئيس.