يشير اقتحام عناصر موالية لميليشيا "الحشد الشعبي" و"كتائب حزب الله العراق" حرم السفارة الأمريكية في بغداد، في 31 ديسمبر الجاري، إلى أن التصعيد سوف يستمر باعتباره سمة رئيسية للتفاعلات بين الميليشيات العراقية الموالية لإيران والولايات المتحدة الأمريكية في العراق خلال المرحلة القادمة. إذ جاء الاقتحام كرد فعل مبكر من جانب الأولى على الضربات العسكرية التي شنتها واشنطن، قبل يومين، واستهدفت من خلالها قواعد "كتائب حزب الله العراق" في العراق وسوريا، رداً على الهجوم الذي اتهمت الأخيرة بتنفيذه على قاعدة (k1) الأمريكية القريبة من كركوك وأسفر عن مقتل متعاقد مدني أمريكي.
أهداف متداخلة:
سعت الأطراف المختلفة إلى تحقيق أهداف عديدة عبر الجولة الحالية من التصعيد. فبالنسبة لإيران، فقد حاولت استغلال ذلك لتحويل الأنظار عن المشهد السياسي العراقي المرتبك في ظل أزمة تشكيل الحكومة الجديدة خلفاً لحكومة عادل عبد المهدي، والتي تفاقمت قبيل قيام "كتائب حزب الله" باستهداف القاعدة الأمريكية بأيام قليلة، بعد وضع الرئيس العراقي برهم صالح استقالته تحت تصرف مجلس النواب ورفض تكليف مرشح تحالف "الفتح"، المقرب من إيران، أسعد العيداني لرئاسة الحكومة.
ولا ينفصل ذلك عن محاولات طهران المستمرة لتقليص الأهمية التي حظى بها الحراك الشعبي في العراق، والذي لا يزال مستمراً في الساحات وتعكس شعاراته انتقادات حادة لنفوذها في العراق.
إلى جانب ذلك، فإن إجماع المراجع الدينية على انتقاد الضربات الأمريكية ضد قواعد "كتائب حزب الله" من شأنه تقريب وجهات النظر بين الأطراف المختلفة الذين كادوا يصلون إلى مرحلة الصدام خلال الفترة الأخيرة بسبب الخلافات التي تصاعدت حول تشكيل الحكومة الجديدة.
أما بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، فإنها سعت عبر الضربات الأخيرة إلى استعادة قوة الردع. ووفقاً لبرايان هوك المبعوث الأمريكي إلى إيران، فإنه رغم أن الولايات المتحدة الأمريكية ما زالت حريصة على تبني سياسة الاحتواء، ولا تسعى إلى التصعيد، إلا أنها مُصِرَّة على توجيه رسالة حازمة بأنها لن تتغاضى عن محاولات استهداف مصالحها، بعد أن تعرضت قواعدها في العراق لهجمات عديدة خلال المرحلة الماضية. وأضاف هوك في هذا السياق: "كنا نأمل بشدة أن لا تخطئ إيران في الحسابات وتعتقد أن ضبط النفس من جهتنا هو ضعف، ولكن وبعد العديد من الهجمات، كان من المهم للرئيس أن يوجه قواتنا للرد بطريقة يفهمها النظام الإيراني".
وبعبارة أخرى، فإن الرسالة السياسية من وراء الضربات الأمريكية على قواعد "كتائب حزب الله العراق" تتمثل في إظهار مدى قوة الردع الأمريكي، دون أن يعني ذلك في الوقت نفسه أن واشنطن تسعى إلى الحرب، باعتبار أنها ما زالت ترى أن سياسة الضغوط القصوى على طهران تحقق نتائج جيدة، بما يعني أن لجوئها إلى السلاح لن يكون إلا بهدف الدفاع عن النفس، لاسيما في حالة ما إذا تجاوزت إيران ووكلائها "الخطوط الحمراء" التي أعلنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ويأتي في مقدمتها استهداف القوات الأمريكية.
رسائل متبادلة:
لا يعني تحقيق الأطراف المختلفة لأهدافها من وراء الهجوم والهجوم المضاد أن جولات التصعيد العسكري انتهت، إذ أن هناك احتمالات لبدء جولات أخرى من هذا التصعيد بين الطرفين، بعضها قد يكون انتقامياً من جانب الميليشيات ردا على استهداف عناصرها في الضربات الأمريكية الأخيرة، لاسيما قائدها أبو علي الخزعلي، على نحو يعني أن محاولة اقتحام السفارة الأمريكية ربما تكون بداية لجولة جديدة سوف ترتبط بحسابات طهران وواشنطن لاتجاهات التفاعلات فيما بينهما خلال المرحلة القادمة.
وهنا، فإنه لا يمكن استبعاد أن تكون طهران قد حاولت عبر الخطوات الأخيرة التي اتخذها حلفائها توجيه رسالة إلى واشنطن بأن زيادة عدد القوات الأمريكية، قبل أسابيع قليلة من الهجوم على القاعده الأمريكية، لمراقبة تحركات طهران في العراق وبين العراق وسوريا، هى خطوة غير مقبولة من جانبها.
وقد يكون الهجوم الأمريكي مرتبطاً، في قسم منه، بالرد على تلك الرسالة، حيث لم تكتف واشنطن باستهداف قواعد "كتائب حزب الله"- المدرجة على قائمة الإرهاب الأمريكية منذ عام 2009، والمسئولة، حسب تقارير عديدة، عن تأمين إمدادات الصواريخ من إيران إلى العراق وسوريا وعن تأمين الحدود المشتركة بين البلدين، في العراق فقط وإنما وسعت نطاق هجماتها المضادة لتشمل قواعدها في سوريا أيضاً.
كذلك، فإن مقتل الخزعلي بالتحديد في هذه الضربات كان رسالة مباشرة للحرس الثورى كونه من أقرب الشخصيات العراقية إلى قائد "فيلق القدس" قاسم سليماني، على نحو يعني أن مسار التصعيد لم ينته بعد، وربما يكون أحد مظاهره أيضاً هو إخلاء السفارة الأمريكية في العراق خشية استهدافها أو الاعتداء على العاملين فيها.
تداعيات محتملة:
في الأخير، من المتصور أن سيناريو التصعيد بين إيران والقوى الموالية لها في العراق من ناحية والولايات المتحدة الأمريكية من ناحية أخرى، سيتراوح بين السياسي تارة والعسكري تارة أخرى، وفقاً لحسابات هذه الأطراف ومدى استجابتها للضغوط المتبادلة على الجانبين.
ومن دون شك، فإن هذا التصعيد سوف تكون له انعكاسات على الأزمة السياسية المتصاعدة في العراق، بسبب الفشل في التوافق على مرشح لتشكيل الحكومة الجديدة واستمرار الخلافات بين القوى السياسية في هذا السياق.
فضلاً عن ذلك، فإن تنظيم "داعش" قد يستغل تصاعد حدة التوتر على المستويين السياسي والأمني، من أجل إعادة تنظيم صفوفه من جديد، تمهيداً لبدء مرحلة جديدة من العمليات الإرهابية داخل العراق، بهدف توجيه رسالة بأنه لم يهزم بعد رغم الضربات القوية التي تعرض لها في الفترة الماضية.