تابعت الحراك الشعبي اللبناني الراهن باهتمام بالغ لأنه ليس فقط حراكاً ضد أوضاع داخلية مرفوضة، كما كان الحال في الانتفاضات الشعبية السابقة في مطلع العقد الحالي، وإنما هو أيضاً في بعد مهم منه -كما هو الحال في الحراك العراقي الراهن- موجه ضد اختراق ونفوذ خارجيين، وبالتالي فإن نجاحه لن يلبي مطالب الجماهير الداخلية فحسب وإنما يُفترض أن يواجه ظاهرة الاختراق الخارجي. ولقد كنت أشعر دوماً بحكم ترددي الدائم على لبنان كونه مركزاً حيوياً للنشاط الأكاديمي والفكري والثقافي، بإرهاصات هذا الحراك، وبأنه لا بد أن ينعكس يوماً في سلوك ملموس، ذلك أن من يخالط الشعب اللبناني بشتى طوائفه يشعر بأن طبيعة المواطن العادي لا تتسق والنظام الطائفي القائم، ويختلط المرء بالمنتمين لشتى الطوائف فلا يستطيع التمييز بينهم سلوكياً، وقد يتمكن من تحديد هوية أحدهم من خلال اسمه وفي حالات قليلة عن طريق ملبسه (أو ملبسها)، وحتى من تتمكن من تحديد هويته الطائفية تُفاجأ بأن الجميع يتبنون التوجهات نفسها ضد الفساد وتردي الخدمات وتدهور مستوى المعيشة وإدانة التركيبة الحاكمة، وما كان أجمل أن تسمع من أفواه المواطنين العاديين أن الدين علاقة بين المرء وربه وأن العيش المشترك هو الأساس. وفي بداية زياراتي للبنان مطلع تسعينيات القرن الماضي بعد انتهاء الحرب الأهلية، كنت أندهش من مشهد النسوة المسلمات شديدة الاحتشام في أسواق بيروت الشرقية بكل تحررها، لكن المشهد أصبح بالنسبة لي عادياً ومألوفاً، وتولد لدي الانطباع بمرور الوقت أن النظام الطائفي لا يخدم سوى زعماء الطوائف والمستفيدين منهم في نظام أقرب ما يكون إلى نظام العصور الوسطى الإقطاعي.
ثم جاءت اللحظة التي تُرجم فيها كل ما سبق إلى حراك شعبي حقيقي كانت له إرهاصاته السابقة لكنه بلغ مرحلة النضج هذه المرة، وكم كان رائعاً أن يتحدث فتية وفتيات بشعارات تنطق بالوطنية الخالصة التي تسمو على الانتماءات الطائفية وأن ينظروا نظرة واحدة إلى الطبقة الحاكمة بكل مكوناتها، ورُفِع شعار «كلكن يعني كلكن» بالعامية اللبنانية أي أن الجميع يجب أن يذهب مهما كان الستار الذي يتخفى خلفه، كذلك تميز الحراك الشعبي في لبنان كما هو الحال في العراق ببعده المضاد للنفوذ الخارجي وبالذات الإقليمي وإن كان هذا البعد أكثر وضوحاً في الحالة العراقية لكنه يبقى حاضراً وملموساً في حالتنا، وقد خسرت الأطراف ذات الولاءات الخارجية في هذا الحراك بالتأكيد، وهو ما يفتح الباب للأمل في التصدي للاختراقات الخارجية للنظام العربي، وما يقلق في الوقت نفسه القوى الإقليمية الضالعة في هذه الاختراقات والتي ذهبت كالعادة إلى تفسير الحراك بمؤامرات خارجية، ودون إنكار لوجود دور للعوامل الخارجية في هذه الحالات، فإن أصالة الحراك الشعبي سواء في لبنان أو العراق لا تخفى على أحد. وإذا كان الحراك الشعبي في هذين البلدين العزيزين قد أعلن إفلاس الطائفية والتدخل الخارجي المساند لها، فإن القضاء عليها واجتثاثها ليس بالمهمة السهلة، فلها قواها المستفيدة منها والمستعدة لفعل أي شيء للدفاع عن امتيازاتها ولو باللجوء للعنف، لذلك فإن قوى التغيير تحتاج رشادة فائقة وحكمة بالغة كي تتفادى الوقوع في شراك العنف الذي لن تكون لها الغلبة فيه بينما الحفاظ على طابعها السلمي يكسبها ميزة أخلاقية وسياسية على قوى التمترس الطائفي. وتحاول هذه القوى بلورة نظرة «وظيفية» وليست «سياسية» للخروج من المأزق الحالي عبر التظاهر بقبول مطالب الحراك، عدا اجتثاث الطائفية بطبيعة الحال، والتركيز على محاربة الفساد ومحاسبة المفسدين وإلقاء المسؤولية في هذا الصدد على القضاء وليس على التوصل لصيغة جديدة في الحكم. وسلاح الحراك الشعبي في هذا الصدد هو التمسك بجوهر المطالب والحفاظ على سلمية الحراك. ولقد دُعي المشاركون في إحدى الخطب الرسمية لمغادرة الوطن إذا كانت الأحوال لا تعجبهم فيه، وهو أسوأ ما يمكن أن تواجه به مطالب وطنية، فإذا بمجموعة من شباب المغتربين تعود إلى الوطن للمشاركة في الحراك ولو لأيام لكي تؤكد أن الوطن أولاً دون فرق بين مقيم ومغترب، فليست القضية هي لقمة العيش فقط وإنما قبلها كرامة الوطن والمواطنين.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد