أبدت تركيا اهتماماً خاصاً بالزيارة التي يقوم بها الرئيس رجب طيب أردوغان إلى واشنطن، في 13 نوفمبر الجاري، باعتبار أنها تأتي في وقت تتصاعد فيه حدة التوتر بين تركيا من جهة والدول الغربية من جهة أخرى، نتيجة التباين في التعامل مع التطورات التي تشهدها العديد من الملفات الإقليمية في الفترة الأخيرة. وفي الواقع، فإن اتساع نطاق تلك الخلافات يشير إلى أن نجاح أنقرة في الوصول إلى توافقات مع واشنطن حولها يواجه عقبات لا تبدو هينة. وقد كان لافتاً، على سبيل المثال، أن تلك الخلافات عززت من احتمالات تأجيل أو إلغاء الزيارة من الأساس خاصة أنها توازت مع دعوات العديد من نواب الكونجرس لاتخاذ هذه الخطوة، قبل أن يتم الإعلان عن أنها ستجري في موعدها.
ضغوط متبادلة:
سعت كل من أنقرة وواشنطن إلى توجيه رسائل مباشرة من أجل ممارسة ضغوط متبادلة لتعزيز الموقف قبل إجراء الزيارة. إذ أعلن أردوغان، في 12 نوفمبر الجاري، أن واشنطن لم تلتزم بالتفاهمات التي توصل إليها الطرفان بشأن التطورات الميدانية في شمال سوريا بعد العملية العسكرية التي شنتها تركيا لإبعاد الميليشيات الكردية عن الحدود بين تركيا وسوريا في إطار محاولتها تأسيس منطقة آمنة بعمق 32 كيلو متر. كما تعمدت أنقرة تفعيل تهديداتها بنقل الإرهابيين الأجانب "الدواعش" ممن يحملون جنسيات أمريكية وأوروبية إلى دولهم الأصلية قبيل إجراء الزيارة، حيث قامت بالفعل بترحيل أمريكي إلى الولايات المتحدة الأمريكية، قبل أن تتبنى الخطوة نفسها لنقل ألمان وفرنسيين إلى دولهم.
في المقابل، أقر مجلس النواب الأمريكي، في 30 أكتوبر الفائت، الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن، بتأييد 405 صوتاً مقابل 11، وهى المرة الأولى التي يصل فيها هذا القرار إلى هذه المرحلة في الكونجرس. وهددت واشنطن أكثر من مرة بفرض عقوبات على تركيا، سواء بسبب العملية العسكرية في شمال سوريا، أو بسبب إبرامها صفقة صواريخ "إس 400" مع روسيا.
لكن بالتوازي مع ذلك، بدا أن ثمة حرصاً من جانب الطرفين على عدم تصعيد حدة التوتر إلى درجة غير مسبوقة من الممكن أن تؤدي إلى الاستناد لخيارات لا تتوافق مع حساباتهما، لاسيما في ظل الانخراط المكثف في أزمات وملفات إقليمية تحظى باهتمام خاص من جانبهما. ومن هنا، أشارت اتجاهات عديدة إلى أن الطرفين يسعيان إلى "إدارة الخلافات" بينهما، بما يتيح خيارات متعددة ويوفر هامشاً واسعاً من حرية الحركة والمناورة أمامهما.
عقبات عديدة:
لكن رغم ذلك، فإن قدرة الطرفين على إدارة تلك الخلافات سوف تواجه عقبات عديدة خلال المرحلة القادمة. إذ يبدو جلياً أن التصعيد بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية سوف يصل إلى مرحلة غير مسبوقة خلال المرحلة القادمة، لاسيما مع اتجاه الأولى إلى مواصلة تخفيض التزاماتها النووية، وكان آخرها تجديد عمليات تخصيب اليورانيوم في منشأة فوردو، التي أسستها تحت الأرض، على خلاف ما يقضي الاتفاق النووي الذي توصلت إليه مع مجموعة "5+1" في 14 يوليو 2015.
وهنا، فإن الخيار الأكثر ترجيحاً الذي يمكن أن تتجه إليه الثانية يتمثل في رفع مستوى العقوبات التي تفرضها على إيران بالتوازي مع السعى إلى تشكيل حشد دولي مضاد لطموحاتها النووية، وهو ما يمكن أن يتسبب في مشكلات عديدة لتركيا، التي سبق أن ألمحت إلى أنها قد لا تتوافق بالضرورة مع هذا التوجه الأمريكي، في ظل الاهتمام الخاص الذي تبديه للعلاقات التجارية مع إيران، التي تسعى إلى رفع التبادل التجاري معها لمستوى 30 مليار دولار، حسب تصريحات الرئيس رجب طيب أردوغان.
وقد أشار أردوغان إلى أنه سوف يناقش الأزمة الخاصة ببنك "خلق" التركي الذي سبق أن اتهمته واشنطن بالمشاركة في عمليات غسيل أموال لصالح إيران، في إطار مساعي الأخيرة للالتفاف على العقوبات الأمريكية التي كانت مفروضة عليها قبل الوصول للاتفاق النووي.
كما تبقى صفقة "إس 400" متغيراً رئيسياً في تقييم مدى قدرة الطرفين على إدارة تلك الخلافات. إذ أن واشنطن ما زالت حريصة على توجيه إشارات تفيد أنها ما زال لديها طموح في تراجع أنقرة عن الاستمرار في تلك الصفقة، رغم أنها بدأت في تسلم بعض المعدات الخاصة بها. ويكتسب هذا الملف تحديداً أهمية خاصة بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، ليس فقط باعتبار أن تركيا عضو في حلف الناتو، وإنما أيضاً لوجود خلافات لا تبدو هينة بين الدول الغربية عموماً وروسيا حول العديد من الملفات التي تجظى باهتمام خاص من جانبهما.
لكن يمكن القول إن تراجع أنقرة عن تلك الصفقة يواجه تحديات عديدة، يتمثل أبرزها في أن الأخيرة ما زالت تُعوِّل بشكل كبير على التفاهمات التي تحرص على الوصول إليها مع موسكو، سواء على المستوى السياسي، على نحو ما هو قائم في مسار الآستانة الذي يضم إيران أيضاً، أو على المستويين الأمني والميداني، كما يحدث بالنسبة للمنطقة الآمنة التي تعمل تركيا على إقامتها في شمال سوريا ووصلت فيها إلى توافقات ملحوظة مع موسكو، بعد أن كانت قد أبرمت اتفاقاً مع واشنطن خلال الزيارة التي قام بها نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس إلى أنقرة في 17 أكتوبر الفائت.
ومن دون شك، فإن تراجع الرهان على التفاهمات الأمنية مع روسيا يمكن أن يربك حسابات أنقرة في سوريا، خاصة فيما يتعلق بالمنطقة الآمنة والعلاقات مع الأكراد إلى جانب ملف إدلب، حيث كانت تلك التفاهمات سبباً أساسياً في الحيلولة دون اجتياح إدلب من جانب قوات النظام السوري أو الميليشيات الموالية لها، في إطار المساعي التي بذلتها أنقرة لإبقاء هذا الملف دون حسم وحماية الميليشيات الموالية لها.
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول إن تعدد الملفات الخلافية تحول إلى سمة رئيسية في التفاعلات بين أنقرة وواشنطن، على نحو سوف ينعكس بشكل مباشر على النتائج التي سوف تسفر عنها الزيارة الحالية التي يقوم بها أردوغان إلى الأخيرة.