يبدو أن التوازنات بين القوى السياسية الإيرانية على أعتاب مرحلة جديدة، سوف تعاد فيها صياغة أنماط التفاعلات فيما بينها. واللافت في هذا السياق، هو أن الانقسام بات عنواناً رئيسياً لتلك التفاعلات، لاسيما داخل تيار المحافظين الأصوليين، الذي يتوقع أن تتصاعد حدة المنافسة والصراع فيما بين أقطابه الرئيسيين للحصول على أكبر قدر من المكاسب السياسية خلال انتخابات مجلس الشورى والرئاسة اللتين سوف يتم إجرائهما في عامى 2020 و2021 على التوالي، حيث يسعى كل من محمد باقر قاليباف رئيس بلدية طهران السابق وسعيد جليلي أمين مجلس الأمن القومي السابق إلى استقطاب تأييد قوى الأصوليين للوصول إلى منصبى رئيس الجمهورية ومجلس الشورى على التوالي.
اهتمام خاص:
تبدي قوى تيار المحافظين الأصوليين اهتماماً خاصاً بالانتخابات البرلمانية والرئاسية اللتين سوف يتم إجرائهما على التوالي في عامى 2020 و2021، حيث تسعى لاستغلال الضغوط الإقليمية والدولية التي تتعرض لها إيران في الوقت الحالي، لتعزيز نفوذها، خاصة في ظل تزايد التوقعات التي تشير إلى تصاعدها مع استمرار اتجاه الأخيرة إلى تخفيض مستوى التزاماتها في الاتفاق النووي، على نحو يُقرِّبها بشكل كبير من مرحلة الخروج من الاتفاق النووي خلال المرحلة القادمة، بشكل سوف يرتب تداعيات قوية سوف تؤثر ليس فقط على التفاعلات بينها وبين القوى الدولية، وإنما أيضاً على التطورات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط.
ملء الفراغ:
تحاول تلك القوى استغلال تطورات عديدة لتعزيز فرص أقطابها في الوصول إلى مراكز رئيسية في النظام، على غرار رئاسة البرلمان والجمهورية، ويتمثل أبرزها في:
1-خروج روحاني: لن يترشح الرئيس حسن روحاني في الانتخابات الرئاسية القادمة، حيث لا يحق له الترشح لفترة رئاسة ثالثة على التوالي، وهو ما يمكن أن يفتح الباب أمام وصول مرشح أصولي إلى الرئاسة، حيث نجح الرئيس الحالي في الإطاحة بأبرز الشخصيات الأصولية خلال الاستحقاقين الانتخابيين الأخيرين في عامى 2013 و2017. بل إنه نجح خلال الانتخابات الأولى في الفوز على أربعة من مرشحي تيار الأصوليين من الجولة الأولى، على نحو وجه ضربة قوية للأصوليين في هذه الفترة.
2-تراجع تأثير المعتدلين: فرضت الضغوط الإقليمية والدولية التي تتعرض لها إيران في المرحلة الحالية تأثيرات مباشرة على الأرض. فقد أدت إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية الداخلية، لاسيما مع تراجع العوائد التي كانت تحصل عليها إيران من الصادرات النفطية التي تقلصت بشكل كبير، بفعل العقوبات الأمريكية. كما أنها ساهمت في تراجع نفوذ تيار المعتدلين الذي يقوده الرئيس روحاني على الساحة الداخلية، حتى لدى الكتلة التصويتية التي ساعدته في تحقيق نتائج بارزة في انتخابات مجلس الشورى والرئاسة الأخيرتين. وهنا، فإن بعض قوى تيار الأصوليين سوف تسعى إلى ملء الفراغ الناتج عن ذلك، خاصة في ظل غياب الشخصية التي يمكن أن تحظى بإجماع داخل تيار المعتدلين للترشح في الانتخابات الرئاسية القادمة.
3-حملات ضد عائلة لاريجاني: يتعرض أبرز أقطاب عائلة لاريجاني، لاسيما علي وصادق لاريجاني، رئيسى مجلس الشورى ومجلس تشخيص مصلحة النظام، لحملات مستمرة خلال المرحلة الحالية، حيث ما زالت اتهامات الفساد في السلطة القضائية تلاحق الأخير الذي كان رئيساً لها قبل أن يتم تعيينه من قبل المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي في منصب رئيس مجلس التشخيص. واللافت في هذا السياق، هو أن تلك الحملات لم تعد تنحصر في الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، بل امتدت إلى شخصيات أصولية أخرى، ووصلت، حسب تقارير عديدة، إلى التليفزيون الرسمي، الذي يمتلك خامنئي سلطة تعيين رئيسه. وهنا، تحاول بعض قوى تيار الأصوليين استغلال تلك الحملات من أجل إضعاف نفوذ رئيسى مجلس الشورى ومجلس التشخيص تمهيداً لإحلال شخصيات محسوبة عليها محلهما.
قاليباف وجليلي:
وتبرز في هذا السياق أسماء عديدة، يأتي في مقدمتها محمد باقر قاليباف رئيس بلدية طهران السابق وسعيد جليلي أمين المجلس الأعلى للأمن القومي السابق. إذ يسعى قاليباف إلى الوصول لمنصب رئيس الجمهورية، وهو الهدف الذي فشل في تحقيقه خلال الاستحقاقات الرئاسية الأخيرة، خاصة في عامى 2013 و2017. ويحاول في هذا السياق استقطاب تأييد الحرس الثوري، الذي كان أحد أعضاءه البارزين، والقوى المؤثرة في تيار الأصوليين، باعتبار أنه الشخصية الأكثر قدرة على تولي منصب رئيس السلطة التنفيذية في الفترة الحالية التي تشهد تصعيداً وضغوطاً داخلية وخارجية غير مسبوقة، لدرجة لم تعد معها احتمالات اندلاع أزمة داخلية ومواجهة عسكرية خارجية مستبعدة.
وقد كان لافتاً أن قاليباف حرص على توجيه رسائل عديدة تفيد أنه يتماهى بشكل كبير مع السياسة التي يتبناها المرشد خامنئي والحرس الثوري، خاصة فيما يتعلق بالموقف من دعوات التفاوض مع الولايات المتحدة الأمريكية، حيث رد على التصريحات التي أدلى بها الرئيس حسن روحاني، في 26 أغسطس 2019، وأشار فيها إلى أنه "مستعد للاجتماع مع الرئيس دونالد ترامب شرط أن يكون ذلك في مصلحة إيران". إذ قال قاليباف أن "المحادثات مع ترامب إذا حدثت فهى مُضِرَّة، والرئيس روحاني يريد حل الأزمة الاقتصادية عبر التفاوض وبالتالي يحاول التهرب من المسئولية".
كما يسعى سعيد جليلي إلى تولي منصب رئيس مجلس الشورى محل رئيس المجلس الحالي علي لاريجاني، حيث يحظى بدعم من جانب بعض أقطاب تيار الأصوليين إلى جانب عدد من رجال الدين، مثل مصباح يزدي.
عقبات عديدة:
لكن لا يبدو أن مهمة قاليباف وجليلي سوف تكون سهلة في الحصول على دعم القسم الأكبر من قوى تيار الأصوليين، لتعزيز فرصهما في الوصول إلى منصبى رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان. إذ أن هناك قوى عديدة ربما تسعى إلى وضع عقبات تحول دون تحقيق أهدافهما.
كما أن ثمة انقسامات واضحة داخل تيار الأصوليين، رغم أنه نجح في تقليص تلك الانقسامات خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أجريت في عام 2017، عندما توحدت معظم القوى التي تنتمي إليه لدعم المرشح السابق إبراهيم رئيسي الذي عينه المرشد خامنئي في منصب رئيس السلطة القضائية بعد خسارته في الانتخابات الرئاسية لصالح الرئيس الحالي حسن روحاني.
وقد نجحت تلك القوى آنذاك في تكوين ما يسمى بتحالف "الجبهة الشعبية لقوى الثورة الإسلامية" التي سميت اختصاراً "جمنا"، وتمكنت من تقليص عدد المرشحين حتى وصلت إلى التوافق على رئيسي، وذلك لتجنب تفتت أصوات الأصوليين على عدد أكبر من المرشحين بشكل يعزز من فرص المرشحين المنافسين، على غرار ما حدث في عام 2013 عندما فاز روحاني على أربعة من المرشحين الأصوليين من الجولة الأولى.
لكن رغم ذلك، ما زالت تلك الانقسامات قائمة، وستتبلور نتائجها بشكل أكبر خلال انتخابات مجلس الشورى الإسلامي القادمة التي سوف تجري في العام القادم، حيث ستكشف إلى حد كبير معالم المنافسة على منصب رئيس الجمهورية فيما بعد انتهاء الفترة الرئاسية لروحاني في العام بعد القادم، وهى كلها تطورات توحي بأن إيران تبدو مقبلة على استحقاقات سياسية داخلية ليست هينة تتوازى مع تفاقم الأزمة الاقتصادية وعدم قدرة الحكومة على احتواء تداعياتها.