كان خطأ شنيعاً القرار الذي اتخذه الرئيس التركي رجب طيب إردوغان باحتلال جزء من الدولة السورية عبر قواته المسلحة بشكل مباشر، في خرقٍ صريحٍ وبشعٍ لكل القوانين الدولية ومواثيق الأمم المتحدة.
لم يكن إردوغان بذكاء إيران التي لم تتدخل مباشرةً بجيوشها في الدول العربية ولكنها فعلت ذلك عبر حلفائها المحليين الذين يدينون لها بالولاء المطلق حتى ضد شعوبهم ودولهم، وقد بدا ذلك واضحاً في لبنان عبر «حزب الله» وبعض حلفائه من تيار الرئيس عون، وفي سوريا عبر الميليشيات المسلحة التابعة لإيران، وفي العراق من قبل ومن بعد حتى وإن وصل الأمر إلى قتل المتظاهرين بشكل مباشرٍ عبر قناصة «الحشد الشعبي»، وبطبيعة الحال في اليمن حيث ميليشيا الحوثي الإرهابية الإيرانية.
يبدو أن طموحات إردوغان لاستعادة حلم الخلافة العثمانية تدفعه مراراً إلى اتخاذ مواقف وسياساتٍ تضر بالدولة التركية وبه شخصياً وبطموحاته السياسية، وليس آخرها دخول قواته المسلحة للشمال الشرقي للدولة السورية، حيث أعمته ملاحقة الأكراد عن أي أخطار أخرى تشغل ذهن العالم، وظن - وبعض الظن إثم - أن احتلال جزء من الدول العربية قد أصبح كلأً مباحاً.
لقد أخطأ إردوغان التقدير، فقد قادت السعودية الموقف العربي والدولي ضد طموحاته التوسعية، وعلى الرغم من كل الشعارات التي رفعها والعنتريات التي أطلقها فإن إردوغان لم يلبث أن خضع حين التفتت له الولايات المتحدة ووافق على كل ما رفض الموافقة عليه مسبقاً واستسلم للإرادة الدولية وتراجع عن كل مواقفه ومغامرته غير المحسوبة.
منطقة الشرق الأوسط المعقدة في الأساس أخذت في السنوات الأخيرة تزداد تعقيداً وتشابكاً، فثمة اختلالاتٌ كبرى في توازنات القوى الدولية فيها، وثمة اضطرابات عظمى تعيشها في أكثر من دولة، وثمة حروبٌ مباشرة وأخرى بالوكالة وثالثة أهلية تدور فيها، وهي مرشحة للتصاعد لا للحل، وبالتالي لمزيد من التعقيد لا لمزيد من التبسيط.
الأكراد أمة مظلومة، جرّاء توازنات قوى دولية تاريخية أودت بهم إلى هذا المصير، وقرار التخلي عنهم في سوريا كان قراراً خاطئاً دون شك، وكل أحداث التاريخ الحديث والمعاصر ترسخ في أذهانهم مبدأهم الأثير في أنّ صديقهم الوحيد هو الجبال، وجزء كبير من الصراع الدائر في أميركا تجاه سوريا والاحتلال التركي يدور حول قصة التخلي عن الأصدقاء الأكراد بلا مقابلٍ.
يتعرض إردوغان لأزماتٍ داخلية غير مسبوقة؛ أزماتٍ تواجه الدولة التركية تسبب فيها إردوغان بنفسه، أزمة اقتصادية خانقة، وأزمة سياسية تتعلق بعلاقات تركيا الدولية بين الغرب وروسيا، وأزمة في جبهته الداخلية تتمثل في تخليه عن جميع حلفائه الذين بدأوا بالاتحاد ضده، وكذلك خسارته الفادحة لإسطنبول في الانتخابات الأخيرة مع كل الرمزية التي تعني له الكثير، في تفاصيل طويلة تحكي عمق الأزمة التي يواجهها.
فكر إردوغان وقدّر، وخرج بحلٍّ يتمثل في تقليد المشروع الإيراني الذي يجتمع معه في الكثير من المبادئ العامة والأهداف الاستراتيجية، فقرر تصدير أزماته الداخلية للخارج، وبالتالي قرر استخدام قواته المسلحة وجيشه العضو في حلف الناتو لاحتلال جزء من دولة عربية وخلق أزمة دولية في منطقة تغصّ بالأزمات وتسيطر عليها الحسابات الدقيقة.
لا شيء يدمّر الدولة الحديثة مثل الانحياز إلى الآيديولوجيات المنغلقة، حدث هذا في التاريخ الحديث مع نماذج النازية والفاشية والبلشفية، ومع فلولها من الدول في العصر الحديث في كوريا الشمالية وكوبا وغيرهما، وكذلك مع الموجة الجديدة من الآيديولوجيات المنغلقة التي تمثلها خير تمثيل إيران وتركيا وأموال قطر والجماعات والتنظيمات الطائفية والأصولية والإرهابية.
إردوغان حليفٌ قوي للنظام الإيراني، وبالتالي فهو حليف قوي لكل الجماعات الأصولية كجماعة «الإخوان المسلمين» التي ينتمي لها من الأساس، ومن قبل ومن بعد فقد استفاد شخصياً واستفاد حزبه وتياره من انتصارات تنظيم إرهابي صريح كتنظيم «داعش» وكان النفط الذي سيطر عليه التنظيم في سوريا والعراق يتم تصديره عبر تركيا.
جزء من شبه الإجماع الذي يدين تركيا دولياً وبخاصة في أميركا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا كان بسبب المخاوف الدائمة من استعادة تنظيم «داعش» لقوته في سوريا والعراق والأدوار التي لعبتها تركيا في تأمين عناصره ونقلهم من منطقة إلى أخرى، من سوريا والعراق إلى ليبيا بالتوافق مع قطر على سبيل المثال.
لم يوفّق إردوغان في الكثير من حساباته السياسية، داخلياً وإقليمياً ودولياً، ويبدو اليوم كأنه يلعب في الوقت الضائع الأخير، وعلى الرغم من كل العنتريات التي يستخدمها فإنه يعيش واحدة من أسوأ مراحل تاريخه السياسي، ولن ينقذه منها محاولة تصدير مشكلاته الداخلية للخارج كما يفعل في سوريا وشمالها الشرقي تحديداً.
واجه إردوغان غضباً عربياً قادته المملكة العربية السعودية، والجامعة العربية، لم يكن عفو الخاطر ولا بناءً على تحركاته العسكرية الفاضحة تجاه الدولة السورية ووحدة أراضيها بل كان بناءً على رؤية واضحة لأهدافه وغاياته ونقاط قوته وضعفه وما هي خطواته القادمة، ولم يكن يحتاج لأكثر من دفعه قليلاً ليرتكب الحماقات، وهو ما قرره بالفعل كما تحدث عنه الرئيس الأميركي.
بعكس ما جرى فيما كان يعرف بالربيع العربي المشؤوم قبل سنواتٍ فإن الأمور تتجه في الدول العربية نحو تجاوزه وبناء الدول وتحقيق الاستقرار وفرض الأمن والأمان، فمظاهرات العراق الدامية مؤشرٌ على استيقاظٍ شعبي ووعي يمكن البناء عليه لتجاوز التوازنات الداخلية الحالية، ومثله ما يجري في لبنان، ومع الاعتراف بكل الاختلافات بين هذه المشاهد إلا أن منطق التاريخ يؤشر لاتجاهاتٍ أفضل ونتائج أكثر تفاؤلاً.
العقوبات الدولية والأميركية تحديداً تجاه النظام الإيراني بدأت تؤتي أكلها يانعة بشكل واضحٍ، وهي بحاجة للاستمرار لوقتٍ أطول حتى تؤدي أغراضها بالشكل الصحيح، وتصل لنتائجها المرجوة، وقد باتت الاختلالات واضحة في كل حلفائها وميليشياتها التابعة لها وجماعات الإسلام السياسي المتحالفة معها وجماعات الإرهاب التي تحركها كتنظيمي «القاعدة» و«داعش».
صانعو السياسة الحقيقيون لا ينتظرون، بل يصنعون المشاهد كما يريدون، يعملون بصمتٍ ويشتغلون بجدٍّ واجتهادٍ حتى يضمنوا النتائج، ويحققوا الأهداف، وهو ما يبدو أن المنطقة تتجه نحوه بقوة وبتوازنات فاعلة في السياسة والاقتصاد والمجتمع.
أخيراً، فالتوسعات التركية المحتلة لن تؤدي إلا إلى خسارة تركيا وهزيمة الأوهام وانتصار الواقع.
*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط