تسعى الدول الآسيوية في ظل تصاعد المخاطر الجيوسياسية بمنطقة الشرق الأوسط مؤخرًا على خلفية ازدياد حدة التوتر بين إيران والولايات المتحدة، للتحرك على عدة مستويات لتأمين إمدادات كافية من الطاقة لتلبية احتياجات أسواقها ودون تعريضها لصدمات حادة، وفي مقدمتها الحصول على إمدادات إضافية من النفط الخام من أسواق أخرى (مثل: الولايات المتحدة، وروسيا، والبرازيل، وغيرها). في الوقت نفسه، لم تستبعد بعض الحكومات الآسيوية إمكانية اللجوء لاستخدام المخزونات الاستراتيجية من النفط الخام بحوزتها إن دعت الحاجة لذلك، أي إذا ما قصّرت الأسواق في تلبية احتياجاتها. وكخيار استراتيجي آخر، كثّفت من جهودها أيضًا لتنويع مصادر الطاقة لديها، وزيادة الاعتماد على الغاز الطبيعي جنبًا إلى جنب مع الطاقة الشمسية والرياح.
تصاعد التوترات:
تعرضت إمدادات النفط بمنطقة الشرق الأوسط لمخاطر واضحة منذ خروج الولايات المتحدة الأمريكية في مايو 2018 من الاتفاق النووي النهائي المبرم بين إيران والقوى الدولية في يناير 2016، وهي خطوة أعقبها قيام واشنطن بتشديد العقوبات على الأنشطة الاقتصادية في إيران بما في ذلك قطاع الطاقة، حيث تم حظر تصدير منتجات النفط الإيرانية للأسواق الدولية ومن بينها الآسيوية بطبيعة الحال.
وكرد فعل على العقوبات الأمريكية، هدد المسئولون العسكريون الإيرانيون في أكثر من مناسبة بغلق مضيق هرمز، وعرقلة مرور صادرات منتجي النفط بالمنطقة إن لم يكن بمقدور طهران تصدير خامها للأسواق الدولية. فضلًا عن ذلك، قادت إيران وبعض وكلائها بالمنطقة -كما تدعي الإدارة الأمريكية- هجمات متكررة على منشآت النفط القريبة من مضيق هرمز وسواحل الخليج العربي.
وكان أكثر هذه الهجمات تأثيرًا على أسواق الطاقة العالمية الهجوم الذي شنه جماعة الحوثييين في 14 سبتمبر الماضي عبر عشر طائرات بدون طيار على منشأتي النفط السعوديتين "البقيق لتكرير النفط" و"حقل الخريص"، الأمر الذي أفقد السعودية مؤقتًا نحو 5.7 ملايين برميل من إنتاجها اليومي قبل أن تستعيد كامل طاقتها الإنتاجية حاليًّا، وهذا ما أدى إلى ارتفاع أسعار النفط العالمية في الأسبوع التالي للهجوم بنسبة 7%، ليصل الخام في ذلك التوقيت إلى نحو 65 دولارًا للبرميل قبل أن يهبط مجددًا.
وبالتوازي مع ازدياد حدة توترات منطقة الشرق الأوسط، تصاعدت مخاوف مشتري النفط في آسيا من نقص إمدادات الطاقة لديهم، لا سيما وأنهم يعتمدون على الواردات القادمة من الشرق الأوسط في تلبية حوالي 50% من استهلاكهم مقارنة بحوالي 16% في الدول الأوروبية، بل وترتفع هذه النسبة لتصل إلى 80% كما الحال في اليابان. ويُشار هنا إلى أن خامات النفط المنتجة في الشرق الأوسط تتميز دون غيرها بجودتها العالية، وانخفاض كلفة نقلها للأسواق الآسيوية.
تنويع الإمدادات:
وعليه، فقد كثّفت الحكومات الآسيوية مؤخرًا من جهودها لتنويع مصادر إمدادات النفط، واتجهت لاستيراد الخام من أسواق أخرى مثل الولايات المتحدة والبرازيل ودول غرب إفريقيا، ولا سيما في ظل وفرة الإنتاج في هذه الدول. ولعلّ صناعة النفط الأمريكية التي لديها فائض كبير من الإنتاج بسبب طفرة النفط الصخري من أكبر المستفيدين من التطورات الأخيرة بالشرق الأوسط.
وطبقًا لإدارة معلومات الطاقة الأمريكية، فقد زاد كبار المستهلكين الآسيويين من النفط الخام مجتمعين (الصين، وكوريا الجنوبية، واليابان، والهند) مشترياتهم من النفط الأمريكي من 369.4 ألف برميل يوميًّا في الأشهر السبعة الأولى من عام 2018 إلى 448.3 ألف برميل يوميًّا في الفترة نفسها من عام 2019 أي بمعدل نمو بنسبة 21.3%، مع العلم بأن الصين وحدها قلصت مشترياتها من الخام الأمريكي بنسبة 62.5% بسبب الحرب التجارية بين بكين وواشنطن.
ولقد شاركت كوريا الجنوبية بجزء كبير من نمو الطلب الآسيوي على النفط الأمريكي، وقد زادت وارداتها من الخام الأمريكي في الأشهر السبعة الأولى من عام 2019 لتصل إلى 555.4 برميل يوميًّا مقارنة بـ274.7 ألف برميل في الفترة نفسها من العام الماضي أي بنسبة زيادة بنحو 102.1%، وهذا ما يبدو مدفوعًا بالأساس لتعويض نقص الإمدادات الإيرانية إليها. وبالمثل أيضًا، فقد صدرت الولايات المتحدة حوالي 480.1 ألف برميل يوميًّا من النفط الخام إلى الهند خلال الأشهر السبعة الأولى من هذا العام، أي أكثر من مرة ونصف عن مستواه البالغ 279.7 برميل يوميًّا مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
ومن اللافت أيضًا أنه في أعقاب الهجوم على منشآت أرامكو في سبتمبر الماضي، اتجهت بعض المصافي النفطية الآسيوية للحصول على إمدادات إضافية من السوق الأمريكية على غرار مصفاة النفط التابعة لشركة "ني سون" للتكرير والبتروكيماويات الفيتنامية، حيث تعاقدت على استيراد مليوني برميل من خام "غرب تكساس الوسيط" من الولايات المتحدة حتى نهاية الربع الرابع من العام الجاري، فضلًا عن شراء شحنات أخرى من خام "بوني الخفيف" النيجيري، وذلك في إشارة تؤكد اتجاهها نحو تنويع مصادر الواردات وسط توترات منطقة الشرق الأوسط.
المصدر: إدارة معلومات الطاقة الأمريكية، متاح على الرابط التالي: https://bit.ly/2n9SVm6
وفي مسار آخر، بدأت الهند أيضًا تأمين إمدادات من أسواق أخرى مثل روسيا، حيث أجرت الحكومة الهندية مباحثات مع وفد من شركة "روسنفت" الروسية في 17 سبتمبر الماضي لزيادة إمدادات الخام الروسي للسوق الهندية، وذلك في مسعى بارز لتعزيز أمن الطاقة لديها. وبدورها أيضًا، بدأت الصين منذ نشوب الحرب التجارية مع الولايات المتحدة في مارس 2018 في تعويض إمدادات النفط الأمريكية والإيرانية من منتجين آخرين مثل روسيا والبرازيل وأنجولا. وطبقًا لبيانات الجمارك الصينية، زادت بكين وارداتها من النفط الروسي إلى 1.5 مليون برميل يوميًّا في الأشهر الثمانية الأولى من عام 2019، أي بمعدل نمو بنسبة 12.9% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
خيارات استراتيجية:
دفع تصاعد المخاطر الجيوسياسية بالشرق الأوسط مؤخرًا بعض الدول الآسيوية لطرح خيار استخدام المخزونات الاستراتيجية من النفط الخام بحوزتها إن دعت الظروف إلى ذلك، وذلك على غرار كوريا الجنوبية التي أعلنت في 16 سبتمبر الماضي أنها بصدد دراسة سحب نفط من احتياطيات الخام الاستراتيجية لديها إذا تدهورت أوضاع واردات النفط الخام، وهذا إجراء تقليدي عادةً ما تتخذه الدول المستهلِكة للنفط في حال حدوث أزمات طارئة لدى موردي النفط الذين تعتمد عليهم.
وفي السنوات الماضية، عملت بعض الدول الآسيوية على بناء مستويات كافية من الاحتياطيات الاستراتيجية والتجارية لديها للتعامل مع الأزمات الطارئة في أسواق النفط العالمية. فعلى سبيل المثال، تمتلك الصين أكبر مستوى من الاحتياطيات الاستراتيجية في آسيا بحوالي 325 مليون برميل، أي ما يكفي لتغطية نحو 33 يومًا من الواردات الصينية من النفط الخام.
بيد أنه بالنظر لدول أخرى مثل الهند، نجد أن لديها مستويات منخفضة من الاحتياطيات الاستراتيجية تقدر بنحو 5.33 ملايين طن (أي نحو 39 مليون برميل) وهو يكفي لتلبية حوالي 9.5 أيام فقط من احتياجات البلاد من الخام، مع العلم بأن شركات تكرير النفط في الهند تحتفظ هي الأخرى بمخزونات من الخام كافية لتزويدها باحتياجاتها لمدة تتراوح بين 15 إلى 20 يومًا.
وربما وسط تنامي توترات الشرق الأوسط تتجه الدول الآسيوية -ومن بينها الهند- لزيادة مستويات الاحتياطيات الاستراتيجية لديها وذلك للوفاء باحتياجاتها في حال حدوث أزمات خارجية، وتفادي تعريض أسواقها لصدمات حادة، وهذا ما سيقتضي منها على أية حال في الفترة المقبلة زيادة التركيز على الاستثمار في البنية التحتية لتخزين النفط.
وعلى مستوى آخر، كثّفت بعض الحكومات الآسيوية مؤخرًا من وتيرة إجراءاتها التي كانت قد بدأتها منذ سنوات لتنويع مزيج الطاقة لديها، وزيادة الاعتماد على مصادر الطاقة النظيفة (مثل: الغاز الطبيعي، والطاقة الشمسية، والرياح) في توليد الكهرباء. وقد أعلنت اليابان في 24 سبتمبر الماضي عن خطة جديدة لضخ استثمارات بنحو 10 مليارات دولار في مشاريع الغاز الطبيعي المسال في جميع أنحاء العالم وذلك في مسعى منها على ما يبدو لتعزيز أمن إمدادات الطاقة لديها، وتقليل الاعتماد على النفط الخام بشكل عام.
وبالمثل أيضًا، عملت الهند -التي تسعى لزيادة مساهمة الغاز الطبيعي في توليد الكهرباء من 6.5% حاليًّا إلى 15% بحلول 2030- على اتخاذ خطوات سريعة لتأمين إمدادات إضافية من الغاز بأسواقها. ففي 22 سبتمبر الماضي، أبرمت شركة "بترونت إل.إن.جي" الهندية الحكومية و"تيلوريان" الأمريكية مذكرة تفاهم ستقوم بموجبها الأولى باستثمار مبالغ مالية تقدر بـنحو 2.5 مليار دولار في محطة "دريفت وود" في لويزيانا مقابل حصة للشركة الهندية بالمحطة تُقدر بـ18% على أن يجري كذلك تزويد السوق الهندية بخمسة ملايين طن من الغاز المسال سنويًّا.
وعليه، يمكن القول في الختام إن الدول الآسيوية تسعى حثيثًا نحو تأمين احتياجاتها من الطاقة من مصادر متنوعة في ظل تصاعد المخاطر الجيوسياسية بالشرق الأوسط، بيد أن ذلك لا ينفي أن إمدادات المنطقة من النفط الخام وكذلك الغاز لآسيا سوف تظل تحتفظ بموقع الصدارة في المستقبل لاعتبارات لا تتعلق فقط بجاذبيتها من حيث الجودة والتسعير، وإنما أيضًا للروابط الجغرافية والجيوستراتيحية التي تجمع الطرفين منذ زمن طويل.