عرض: باسم راشد - باحث في العلوم السياسية
ناقشت مجلة "الإيكونوميست The Economist" في تقريرها السنوي المعنون "ماذا لو؟"، الذي صدر في يوليو الماضي، ثلاثة سيناريوهات افتراضية، يتعلق أولها بتداعيات إيقاف موقع "فيسبوك" خدماته بأوروبا في الوقت الذي تواجه فيه إدارته اتهامات بانتهاك خصوصيات مستخدميه. ويناقش ثانيها التداعيات الاقتصادية المحتملة لفرض ضريبة على الثروة في الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن أضحى الحديث عنها يأخذ حيزًا كبيرًا من اهتمامات الناخبين الأمريكيين قبل الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في نوفمبر من العام القادم. ويدرس ثالثها احتمالات إحلال الروبوتات محل البشر في كافة الوظائف مع تزايد التقدم التكنولوجي بشكل غير مسبوق.
منع فيسبوك في أوروبا
تفترض المجلة أن موقع "فيسبوك" سيوقف خدماته في يوليو 2020 عن جميع البلدان الأوروبية، مما سيثير بلبلة في الشارع الأوروبي، وسيتصدر الأمر عناوين جميع الصحف العالمية، وسيمثَّل ضغطًا متزايدًا على الحكومات الأوروبية.
ويشير التقرير إلى أنه خلال العام الماضي واجه موقع "فيسبوك" تدقيقًا متزايدًا في العديد من الدول الأوروبية في ضوء اتهامات بانتهاك الخصوصية، والإفراط في البيانات وتقويض الديمقراطية الغربية. وكانت هناك شائعات في بروكسل مفادها أن المفوض الأوروبي الجديد أراد أن يفرض غرامة كبيرة على الموقع، لذلك واجهت الشركة تحقيقات ودعاوى مدنية في كل بلدان الاتحاد الأوروبي.
وفي هذا السياق، يشير السيناريو التخيلي للمجلة إلى أنه بعد 15 دقيقة من انقطاع الخدمة، يصدر "فيسبوك" بيانًا صحفيًّا، أوضح خلاله أن خدماته لن تكون متوفرة داخل الاتحاد الأوروبي. وكانت الرسالة واضحة للأوروبيين: "ألقوا اللوم على حكوماتكم، وليس علينا".
ويشير إلى أن أكثر من 380 مليون شخص، أي حوالي 16٪ من مستخدمي الشركة، فقدوا الوصول إلى أصدقائهم وعائلاتهم وأحبائهم. وتعرض الاقتصاد الأوروبي لضربة قوية؛ حيث إن الشركات التي قامت على بيع منتجاتها من خلال شبكات التواصل ستختفي بين عشية وضحاها، والشركات الصغيرة التي اعتمدت على تطبيق واتس آب للبقاء على اتصال مع عملائها ستنتهي.
ولمعالجة هذا الموقف الحرج، رتب الاتحاد الأوروبي قمة في اليوم نفسه. وعلى الرغم من كل التذمر المحيط بقوة "فيسبوك" وتأثيره على التجارة والسياسة والنشاط الاجتماعي، إلا أنه أثبت للجميع أنه لا غنى عنه، وأثبت في الوقت ذاته قوته الاستثنائية والحاجة الملحة إلى ضرورة تحجيمها من خلال بعض الإجراءات.
فرض ضرائب على الثروة
تفترض المجلة أن تفرض الولايات المتحدة ضرائب على الثروة، كما اقترحها "توماس بيكيتي" في عام 2014 كحل لما اعتبره ميلًا فطريًّا للرأسمالية نحو تزايد عدم المساواة. وبرغم أن هذه الفكرة كانت غريبة في وقتها؛ إلا أنه تم تبنيها الآن من قبل مرشحة الحزب الديمقراطي للفوز ببطاقة الحزب للانتخابات الرئاسية القادمة السيناتور "إليزابيث وارين". ويتوقع تقرير المجلة فوزها في الانتخابات التي ستجري في نوفمبر من العام القادم.
وتَعِد "وارن"، إذا أصبحت رئيسة للولايات المتحدة، بفرض ضريبة سنوية تبلغ 2٪ على صافي قيمة الثروة التي تتخطى 50 مليون دولار، وترتفع إلى 3٪ على الثروات التي تتجاوز مليار دولار، وهو ما جعل الفكرة تنتشر على نطاق واسع لثلاثة أهداف؛ هي: الحد من عدم المساواة، وزيادة الإيرادات، ومنع تراكم الثروات الضخمة بحيث تؤثر على العملية السياسية.
وبرغم وجاهة هذه الفكرة إلا أنها تواجه عقبة قانونية واحدة؛ حيث يحظر الدستور الأمريكي جميع الضرائب "المباشرة" إلا إذا ساهمت كل ولاية بمبلغ يتناسب مع عدد سكانها، وسينصب الخلاف حينها حول إذا ما كانت ضريبة "وارن" مباشرة أم لا. ويمكن لقرار المحكمة أن يوقف فرض هذه الضريبة أو يتركها لتُنفذ. لكن التقرير يفترض تنفيذها، ويناقش التأثير السياسي لهذه الفكرة.
ويشير إلى أن هناك رأيين فيما يتعلق بالتأثير السياسي لفرض ضرائب الثروة. الرأي المتفائل يقول إنها ستوفر حوالي 1% من إجمالي الناتج المحلي وهو ما يمكن إنفاقه لإعفاء معظم ديون الطلاب، وإلغاء الرسوم الدراسية في معظم الكليات العامة، وتوفير رعاية شاملة للأطفال دون سن الخامسة. أما الرأي المتشائم فيؤكد أن عائدات ضريبة الثروة ستكون أقل كثيرًا من المتوقع نتيجة فشل تطبيقها في العديد من الدول التي تراجعت عنها مثل فرنسا وإسبانيا والنرويج.
ويرجع ذلك إلى أن هناك ثلاث قضايا أساسية يجب مراعاتها عند تطبيق ضريبة الثروة؛ وهي: التقييم، والتجنب، والأثر الاقتصادي.
فبالنسبة للتقييم؛ فإن ضريبة الثروة تتطلب تقديرًا موثوقًا لصافي الثروة؛ وهو ما يعفي بالضرورة أشياء مثل الفن والتحف الشركات الخاصة التي تمثل نحو عُشر ثروة الأغنياء من الضريبة، وذلك لأن تقييمها باستخدام أرباحها يحول الضريبة إلى ضريبة دخل. ومن ثم فإن البلدان التي تفرض ضرائب الثروة كثيرًا ما تعفي أنواعًا كثيرة من الأصول من الضريبة لجعل الأمور أكثر بساطة.
أما بالنسبة لتجنب الضريبة؛ فهو يتم إما عن طريق قيام الشركات باقتراض الأموال واستخدامها لشراء الأصول غير الخاضعة للضريبة، وبالتالي تقليل القيمة الصافية الخاضعة للضريبة، أو عن طريق إخفاء الثروة في الخارج، أو في هياكل قانونية معقدة مصممة لتجنب الضرائب أو إبطالها بما يؤدي إلى تكاليف عالية لمحاولة إيقاف هذا الإبطال، وذلك مقابل مبلغ صغير نسبيًّا من إيرادات ضريبة الثروة، وهو ما يجعل الأمر لا يستحق هذا العناء.
أما بالنسبة للأثر الاقتصادي؛ فهناك أسباب لتوقع أن تتسبب ضريبة الثروة في حدوث بعض الأضرار الاقتصادية، وهي أنها ستؤدي إلى تثبيط فكرة تكوين الثروات، فضلًا عن التأثير السلبي المحتمل على السلوك الاقتصادي، مثل: ريادة الأعمال، والادخار الذي يعتبر مفيدًا على نطاق واسع.
من ناحية أخرى، فإنها ستتم في إطار محدود حيث تنوي "وارن" تطبيقها على الأسر التي تتجاوز ثرواتها 50 مليون دولار، وهو ما يعني أن حوالي 10٪ فقط من إجمالي الأسر الأمريكية ستخضع لها في الواقع بما يجعل نطاق مكاسبها محدودًا. بالإضافة إلى أنها لن تحل أوجه اللا مساواة الأكثر وضوحًا؛ تلك الناجمة عن ندرة الفرص المتزايدة للأشخاص الذين لا يحملون شهادات جامعية والذين لا يملكون منازل باهظة الثمن بالقرب من المدن الناجحة.
انخفاض عدد الروبوتات
يفترض السيناريو التخيلي الذي تطرحه المجلة لعام 2030، أن "الخطر الحقيقي الذي يهدد الرخاء المستقبلي يكمن في قلة عدد الروبوتات المستخدمة لا زيادتها". وتضيف، قبل أقل من عقد سادت حالة من القلق من أن تقوم بكل الوظائف، بما يزيد من معدلات البطالة في العالم.
وفي هذا الشأن، حذر "آندي هالدين" (الخبير الاقتصادي في بنك إنجلترا) خلال عام 2018 من أن أعدادًا كبيرةً من سكان العالم ستكون عاطلة عن العمل؛ لأن الذكاء الاصطناعي سيخلق اضطرابًا في عديد من الوظائف لكونه سيقوم بكل شيء، وهي نفس التحذيرات التي ظهرت في الاجتماع السنوي للمنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس.
وفي عام 2017، توقع "معهد ماكينزي الدولي لاستشارات الأعمال" أن يخسر 800 مليون شخص في 46 دولة، أي ثلث قوة العمل، وظائفهم لصالح الآلات بحلول عام 2030، خاصة العمال من كبار السن الذين يقومون بوظائف متكررة، ويفتقدون لمهارات التصنيع.
وفي عام 2018، توقع مكتب استشارات "ميرسر" أن ثلاثة أرباع العمال الصينيين فوق عمر الخمسين عامًا مهددون باستبدالهم بالآلات، وفوق نصف العمال مهدد بنفس الأمر في الولايات المتحدة، في حين تتجاوز نسبة التهديد للعمال في ألمانيا وإيطاليا 60%.
بيد أن هذه التوقعات وفقًا لسيناريو المجلة لن تتحقق في عام 2030، ويرجع ذلك لسببين رئيسيين؛ يتمثل أولهما في فشل تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في التقدم بالسرعة التي ظن بعض الناس أنها ستحدث. فرغم أن الروبوتات أصبحت أكثر انتشارًا وفقًا للمجلة منذ عام 2020، حيث غيّرت العديد من الصناعات وتولت وظائف متكررة؛ فإنها لم تكن رخيصة، ولا تزال غير قادرة على التعامل مع العديد من المهام التي تتطلب حرية التصرف، أو التعاطف البشري، كالعمل في مجال التمريض، والرعاية الاجتماعية، على سبيل المثال.
ويرتبط ثانيها بأن مستوى التوظيف أصبح لا يعتمد فقط على التشغيل الآلي؛ إذ يعتمد أيضًا على معدلات الشيخوخة والهجرة. فمع تقدم سكان بعض الدول الغنية في العمر، فإنها شهدت تقلصًا في القوى العاملة لديها، لذا استثمرت بعضها في الروبوتات، والبعض الآخر سمح لعدد أكبر من المهاجرين بسد بعض الفجوات في المهارات، وزيادة الإنتاجية. وقد حققت البلدان ذات الشيخوخة البطيئة نسبيًّا والكثير من الروبوتات أفضل أداء، في حين أن تلك التي لم تستثمر في الأتمتة، أو عزلت ذاتها عن العالم، تضررت بشدة.
وقد كانت بريطانيا أبرز مثال على المجموعة الثانية. ففي عام 2020 كان اقتصادها وفقًا لسيناريو المجلة لا يزال يُعاني من صدمة تجارية جراء البريكست، فضلًا عن أن نظامها السياسي كان في حالة اضطراب، لكن المشكلات طويلة الأجل كانت ديموغرافية، وتزداد سوءًا بسبب الصعوبات المتزايدة لتوظيف العمال من الخارج، خاصة مع بدء التأثير الأكبر للشيخوخة؛ حيث زاد عدد السكان من كبار السن بنسبة 6,5٪ فقط بين عامي 2016 و2030، بينما انخفض صافي الهجرة إلى بضعة آلاف سنويًّا، ونمت القوى العاملة بالكاد 1% خلال تلك الفترة.
كما عانت خلال تلك الفترة من نقص في المهارات والذي أصبح أكثر سوءًا. وتعثرت وعود الحكومات المتعاقبة لبناء المزيد من المنازل بسبب نقص العمال المناسبين. لذا لو استثمرت بريطانيا بكثافة أكبر في الأتمتة، لكانت أكثر قدرة على التكيف، لكنها كانت متخلفة عن التكنولوجيا إذ بلغ عدد الروبوتات فيها 85 روبوتًا في عام 2017 مقارنة بمتوسط 106 روبوتات في جميع أنحاء أوروبا، و107 في كوريا الجنوبية. ومع توقف القوى العاملة عن النمو، ارتفعت الأجور، وركد الناتج الإجمالي، وانخفضت الإيرادات الضريبية، وانخفض التمويل المتاح للخدمات العامة والاجتماعية.
ويضيف تقرير المجلة أن هناك بلدانًا أخرى واجهت مشكلات مختلفة، لكنها أدارتها بشكل أفضل. إذ شهدت اليابان وكوريا الجنوبية تقلصًا في القوة العاملة لديها، لكن من خلال الاستثمار في الروبوتات، والبرامج لأداء مهام متكررة، وإعادة تدريب العمال للعمل في مهن الرعاية، خففت الدولتان من أزمة التحول الديموغرافي، وحافظتا على نمو إنتاجي مرتفع.
أما ألمانيا فكان عليها أن تتعامل مع قوة عاملة متضائلة ومتقلصة، ولكنها جنت ثمار السماح لعدد كبير من المهاجرين بدخول البلاد خلال عامي 2015 و2016. ويضيف تقرير المجلة أن الولايات المتحدة لم يتقدم عمر سكانها بالسرعة التي تحققت في البلدان الغنية الأخرى، لذا لم تنكمش قوتها العاملة. وبعد انتهاء رئاسة "ترامب" يشير التقرير إلى أن واشنطن أصبحت أكثر ترحيبًا بالمهاجرين، كما حافظت على استثماراتها التقليدية العالية في التشغيل الآلي.
أما بالنسبة للصين، فقد تقلصت قوتها العاملة بشكل كبير، مما أضر بمحاولة الحزب الشيوعي إدخال نظام مناسب للتقاعد والضمان الاجتماعي، وجعل من الصعب حتى إيجاد عدد كافٍ من الجنود لجيش التحرير الشعبي، وهو ما كبح جماح طموحات الصين العالمية.
المصدر:
"The world If", The Economist, London, July, 6, 2019, pp. 6-9.