تتصاعد حدة الخلافات تدريجيًا بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية. إذ هدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في 4 أغسطس 2019، بشن عملية عسكرية شرق الفرات، وهو ما دفع واشنطن إلى الإسراع بعقد جولة مباحثات أمنية مع أنقرة هى الثانية من نوعها في غضون 10 أيام بعد جولة سابقة لم تسفر عن تحقيق تقدم يذكر. وفي المقابل، حذر وزير الدفاع الأمريكي مارك اسبر أنقرة من الإقدام على تلك الخطوة، مهددًا بمنعها، على نحو ينذر باحتمال اتساع نطاق التوتر بين الطرفين إن لم تتمكن جولة المباحثات الجارية من التوصل إلى تفاهمات محتملة. ويبدو أن تداعيات التصعيد على الجانبين لن تدفعهما فقط إلى مواجهة على الساحة السورية بل قد تؤدي لأول مرة إلى انهيار العلاقات بين عضوين في حلف الناتو، والتي تشهد بدورها تأزمًا غير مسبوق بسبب توجه أنقرة نحو رفع مستوى تعاونها مع روسيا لا سيما بعد إتمام صفقة "S-400".
جولة حاسمة:
في سياق التصريحات المتبادلة بين واشنطن وأنقرة، تعتبر اتجاهات عديدة أن الجولة الحالية التي تنعقد بين القيادات العسكرية التركية والمبعوث الأمريكى إلى سوريا جيمس جيفري هى الحاسمة بين الطرفين للتوصل إلى حل للخلاف بينهما حول طبيعة المنطقة الآمنة، فيما لا تزال هناك شكوك حول إمكانية التوصل إلى نتائج بينهما في إطار تباين الرؤى على الجانبين، حيث تتعثر المفاوضات لعدة أسباب منها على سبيل المثال:
1- الخلاف حول طبيعة المنطقة الآمنة وعمقها: وهو السبب الأبرز في فشل المباحثات السابقة بين الطرفين. فأنقرة تصر على أن يكون عمق المنطقة الآمنة بحدود 32 كم، بينما ترى واشنطن أن 5 كم تكفي لإقامتها، مع تسيير دوريات مشتركة تركية-أمريكية. وتفسر العديد من التقديرات هذا الخلاف في ضوء عدم التفاهم حول طبيعة تلك المنطقة. فبينما تعتبر واشنطن أن مهمتها الأساسية تكمن في كونها منطقة عازلة بين الأكراد والأتراك، وأن تسيير الدوريات المشتركة كفيل بتوفير الضمانات الكافية لتركيا لتحقيق هذا الغرض، فإن أنقرة تسعى إلى استغلال ذلك في تعزيز قدرتها على مواصلة تبني ما يسمى بـ"مسار التتريك" على غرار ما جرى في عفرين، وهو ما ألمح إليه أردوغان نفسه في خطابة الأخير بقوله: "دخلنا عفرين وجرابلس والباب. الآن سندخل إلى شرق نهر الفرات. أبلغنا روسيا والولايات المتحدة بذلك".
2- التشدد التركي في المباحثات: أشار جيمس جيفري إلى أن "الموقف التركي متشدد للغاية، لكننا سنواصل مباحثاتنا على مختلف الأصعدة، ومنها المحادثات في الجانب العسكري، والعمق المناسب للمنطقة الآمنة من وجهة نظرنا هو بين 5 و15 كم على أن يتم سحب الأسلحة الثقيلة إلى أكثر من ذلك". لكنه ألمح في الوقت ذاته إلى أن استمرار التشدد التركي يهدد بنسف مسار الحوار الأمني التركي–الأمريكي، وهو تلويح آخر باحتمال اندلاع مواجهة بين الطرفين. وبالتالى تراهن واشنطن على الوصول إلى حلول وسط منها اقتسام المسافة التي تريدها تركيا مع سحب الأسلحة الثقيلة إلى الخطوط الخلفية من الحدود التركية، وهو ما ترفضه الأخيرة، التي تصر على تواجد متصل داخل الحدود السورية.
3- مأزق أردوغان المزدوج: تكشف بعض التقديرات أن أردوغان يواجه مأزقًا سياسيًا على الصعيدين الداخلي والخارجي، ربما يكون غير مسبوق منذ وصوله إلى السلطة، على نحو بات يهدد المستقبل السياسي له ولحزبه، حيث تعصف الخلافات الداخلية بحزبه في ظل توالي الانقسامات الداخلية، بالتوازي مع تصاعد حدة الأزمة مع الولايات المتحدة الأمريكية، والتي انعكست في انهيار صفقة مقاتلات "F 35"، على نحو قد يدفعه إلى شن عملية عسكرية ضد الأكراد بهدف محاولة استعادة قدر من الشعبية التي فقدها خاصة وأنه تمكن من استمالة قطاع من القوميين بعد معارك عفرين.
سيناريوهات محتملة:
يمكن طرح ثلاثة سيناريوهات محتملة قد تتجه الأزمة الحالية بين واشنطن وأنقرة إلى أحدها. يتمثل الأول، في المواجهة. فبحسب المراقبين، لا يمكن استبعاد سيناريو الصدام والتصعيد بين أنقرة وواشنطن، على ضوء استمرار تعثر المباحثات، لكن لا يرجح أن يكون الجيش التركي قادرًا على استقطاع المنطقة التي يريدها بالكامل، لا سيما أنه سيغامر في هذا السياق بالدخول في مواجهة مع القوات الأمريكية.
وبحسب تقارير أمريكية، فإن هذا السيناريو سيفرض التهديد الأكبر الذي يمكن أن تتعرض له العلاقات الأمريكية – التركية. إذ أن معركة أنقرة في الشمال السوري هذه المرة ستكون مختلفة عن معركتين سابقتين خاضتهما خلال السنوات الثلاث الأخيرة على الجهة الغربية من الشمال السوري، حيث تتمركز القوات الأمريكية في إطار تواجد دائم بعد تراجع واشنطن عن سحبها وتأكيد وزير الدفاع مارك اسبر على ذلك مؤخرًا.
وقد أشار اسبر إلى أن "أى عملية تركية في شمال سوريا ستكون غير مقبولة"، مشددًا على أن "ما سنفعله هو منع أى توغل أحادي من شأنه أن يؤثر على المصالح المشتركة للولايات المتحدة وتركيا وقوات سوريا الديمقراطية في شمال سوريا"، بما يعني أن واشنطن لم تعد تتوانى عن توجيه تهديدات مباشرة لأنقرة لمنعها من التوغل في شرق الفرات.
ومع ذلك، فإن ثمة اعتبارات عديدة تضع عقبات أمام تحقق هذا السيناريو، لا سيما بالنظر إلى ما يفرضه من مخاطر وتبعات لا يريدها الطرفان.
وينصرف الثاني، إلى التوتر، حيث قد لا يصل الأمر إلى حد اندلاع مناوشات عسكرية ربما تقود إلى تداعيات لا تتوافق مع مصالح الطرفين. ورغم أن اتجاهات عديدة تشير إلى أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يسعى إلى تجنب ذلك، حيث يتوقع تدخله للحد من الخطوات التصعيدية المتبادلة، إلا أن ذلك لن يمنع اتساع نطاق التوتر على الجانبين، في ظل تعنت أردوغان من جهة واعتبار واشنطن أن ذلك يضر بمصالحها ومصالح ميليشيا "قسد" من جهة أخرى، وقد يعزز هذا التوتر احتمال انخراط أطراف أخرى في الأزمة على غرار ما يسمى بـ"الجيش الوطني السوري" الذي أعلن المتحدث باسمه يوسف حمود أنه "يدعم تركيا وعلى استعداد لإرسال 14 ألف مقاتل إلى شرق الفرات لبدء حملة ضد وحدات حماية الشعب الكردية".
ويتعلق الثالث، بالوصول إلى تفاهمات في اللحظات الأخيرة. إذ من المحتمل أن يبادر الطرفان إلى التوصل إلى تفاهمات مؤقتة للحد من أجواء التوتر المتبادلة على الجانبين، إلى حين التوافق على صيغة نهائية بشأن المنطقة الآمنة. لكن في الوقت ذاته لا يرجح أن يساهم الوصول إلى هذه التفاهمات في تقليص احتمال تحرك تركيا عسكريًا للالتفاف حول مناطق التمركز الأمريكي، وهو ما تشير إليه تقارير إعلامية سورية بأن هناك عملية مساومة بين أنقرة وواشنطن على ورقة المنطقة الآمنة، وأن تركيا ستتمكن في النهاية من تحقيق أهدافها بضوء أخصر أمريكي على غرار ما جرى في السابق.
وختامًا، يمكن القول إن العلاقات بين أنقرة وواشنطن باتت تواجه اختبارًا صعبًا على الساحة السورية، على نحو انعكس في التصريحات المتبادلة على الجانبين، والتي تشير إلى صعوبة التوصل إلى تفاهمات مقنعة للطرفين في إدارة أحد الملفات الشائكة في سوريا، وهو الموقف من الدور الكردي في مرحلة ما بعد "داعش".