أحدثت وفاة الرئيس التونسي "الباجي قايد السبسي" تغيرات جوهرية في المشهد السياسي التونسي، فعلى الرغم من تتابع الأزمات الصحية التي مر بها الرئيس الراحل خلال الفترة الماضية، وانتشار الشائعات حول وفاته؛ إلا أن غيابه قد انطوى على عدة تداعيات، يتمثل أهمها في التعجيل بعقد الانتخابات الرئاسية قبل موعدها المقرر، وتصدر القادة الشعبويين للمشهد السياسي، بالتوازي مع بروز دور رئيس الوزراء "يوسف الشاهد"، وحزب "النهضة" الذي أعلن أنه يعيد النظر في إمكانية ترشح زعيم الحركة "راشد الغنوشي" للرئاسة. في المقابل، يعاني حزب "نداء تونس" الذي أسسه الرئيس السابق من الانقسامات والانشقاقات المتتالية.
تغيير الأجندة الانتخابية:
كشف الانتقال السلس لسلطات الرئيس المنتخب إلى رئيس البرلمان، احترامَ كل الأطراف في مؤسسات صنع القرار في البلاد للدستور والقوانين المنظِّمة للحياة السياسية، وهو ما أقنع المراقبين المحليين والأجانب بأن رحيل "الأب الروحي" لتونس لن يؤثر بشكل جوهري على مسار انتظام الأعمال في تونس، ويتضح هذا من خلال تصريحات عدد من المسئولين التونسيين الذين أكدوا حرصهم على استمرارية العمل في مؤسسات الدولة بشكل طبيعي، ورغبتهم في إنجاح المسار السياسي استعدادًا للانتخابات البرلمانية والرئاسية.
وأكدت تصريحات الخبراء القانونيين والدستوريين أن وفاة الرئيس "السبسي" في هذا التوقيت بعد أيام من بدء العملية الانتخابية وتقدم القوائم الانتخابية بترشيحاتها، أدت إلى إعادة النظر في مواعيد عقد الانتخابات الرئاسية، وهو ما قد يُحدث اضطرابًا في المشهد السياسي الحالي، حيث صرح النائب والمقرِّر العام للدستور "الحبيب خذر" بأن المواعيد المقررة للاقتراع سوف تُراجَع، لان الرئيس المؤقت "محمد الناصر" ينبغي أن يسلم الرئاسة إلى الرئيس المنتخب في موعد أقصاه 90 يومًا، أي قبل 25 أكتوبر القادم.
ورجّح الخبير القانوني الدولي والعميد السابق لكلية الحقوق بتونس "الصادق بلعيد" أن يتم تنظيم الانتخابات الرئاسية التي كانت مقررة في شهري نوفمبر وديسمبر القادمين إلى شهر سبتمبر وتأجيل الانتخابات البرلمانية التي كانت مقررة في 6 أكتوبر إلى موعد لاحق، وبما أن الدستور التونسي ينص على تنظيم الانتخابات الرئاسية على دورتين على أن يكون للمرشحين في الدور الأول والثاني حق الطعن، فقد تضطر هيئة الانتخابات إلى تخصيص كامل شهري سبتمبر وأكتوبر لتنظيم الانتخابات الرئاسية وتنصيب الرئيس المنتخب، على أن يتم تنظيم الانتخابات البرلمانية في موعدها.
وفي هذا الإطار، صرح رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات "نبيل بفون" بأن مجلس الهيئة يناقش أجندة جديدة للانتخابات الرئاسية والبرلمانية، بالتشاور مع الرئيس المؤقت "محمد الناصر" والحكومة والأحزاب السياسية، ورجح "بفون" بعد أول لقاء جمعه مع الرئيس المؤقت "محمد الناصر" أن الانتخابات الرئاسية قد يتم عقدها في منتصف شهر سبتمبر القادم حرصًا على استكمال الانتخابات البرلمانية في شهري أكتوبر أو نوفمبر المقبلين.
تداعيات وفاة "السبسي":
يتوقع أن يؤدي غياب الرئيس الراحل "الباجي قايد السبسي" إلى مجموعة من التغيرات في المشهد السياسي، والتي يمكن أن تتم الإشارة إليها فيما يلي:
1- صعود المرشحين الشعبويين: يرى كثير من المحللين أن غياب الأب الروحي للسياسيين العلمانيين ولجيل مؤسسي الدولة الحديثة طوال 60 عامًا الماضية سوف يترك فراغًا سياسيًّا ربما يتسبب في إحداث خلل في موازين القوى السياسية لصالح الأحزاب الشعبوية الصاعدة، خاصةً وأن استطلاعات الرأي الصادرة عن مؤسسة "سيجما كونساي" خلال الأشهر الماضية أكدت تراجع الأحزاب التقليدية في الانتخابات البرلمانية والرئاسية القادمة بما في ذلك حركة النهضة، وحزب تحيا تونس، والأحزاب الوسطية العلمانية والليبرالية، مثل: حزب مشروع تونس، والحزب الجمهوري.
في المقابل، رجّحت هذه الاستطلاعات صعودًا متسارعًا لبعض المرشحين الرئاسيين الذين يمكن وصفهم بالشعبويين، مثل رجل الأعمال وصاحب قناة نسمة التونسية ورئيس حزب قلب تونس الذي تم إنشاؤه حديثًا "نبيل القروي"، ورئيسة الحزب الدستوري الحر "عبير موسى" التي يُعتبر حزبها علمانيًّا راديكاليًّا يطالب بحظر أنشطة حركة النهضة، وينتقد سياسة التوافق التي اعتمدها "الباجي قايد السبسي" وحكومتي "الحبيب الصيد" و"يوسف الشاهد" مع الحركة خلال الأعوام الماضية.
2- تراجع حزب "نداء تونس": شهدت الأشهر الماضية عدة انشقاقات داخل حزب "نداء تونس" الذي أسسه "الباجي قايد السبسي" عام 2012، حيث انقسم الحزب إلى جبهتين: المنستير، والحمامات، وتصاعد الجدل حول دور أبناء الرئيس الراحل "الباجي قايد السبسي" داخل الحزب، ويخشى القياديون في حزب "نداء تونس" من أن تؤدي وفاة الرئيس وتعاقب الانشقاقات داخل الحزب في إضعاف حظوظه في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة، محذرين من تصاعد أدوار بعض الأحزاب الدينية مثل النهضة.
3- تصاعد هيمنة "النهضة": ارتفعت شعبية الرئيس الراحل "الباجي قايد السبسي" مجددًا خلال العام الماضي بعدما أعلن القطيعة مع قادة حزب النهضة الإسلامي، وأعلن أنهم يقومون بعرقلة سياسات التحديث بسبب موقفهم المعارض لمشروع قانون المساواة في الإرث، وتعديل قانون الأحوال الشخصية ليواكب القوانين الغربية، ومن المتوقّع أن يؤدي غياب الرئيس "السبسي" عن المشهد السياسي وامتلاك النهضة للأغلبية البرلمانية بعد تفتت الكتلة البرلمانية لحزب نداء تونس إلى صعود هيمنة حزب النهضة على المشهد السياسي. وفي هذا الإطار، حذر العضو السابق للهيئة العليا للانتخابات "سامي بن سلامة" من إمكانية أن تقوم النهضة بالضغط على رئيس الجمهورية المؤقت "محمد الناصر" للتوقيع على التعديلات المدخلة على القانون الانتخابي، والتي رفض "الباجي قايد السبسي" التوقيع عليها قبل وفاته، كما طرحت حركة النهضة فكرة إمكانية ترشيح "راشد الغنوشي" للرئاسة بعد وفاة "السبسي".
4- بروز دور "الشاهد": وصف الرئيس الراحل "الباجي قايد السبسي" ابنه الروحي السابق رئيس الحكومة "يوسف الشاهد" مرارًا بالمتمرد، ووصف حكومته الجديدة بـ"حكومة النهضة"، وهو ما اعترض عليه "الشاهد" رافضًا الاتهامات الموجهة إليه بخدمة مصالح "النهضة"، كما حرص المقربون من "يوسف الشاهد" على تأكيد مواقفه الحداثية، ووفائه لمرجعيات المصلحين الحداثيين وبينهم عدد من أفراد عائلته الذين كانوا مقربين من الرئيس الأسبق "الحبيب بورقيبة" مثل الزعيمة النسائية "راضية الحداد"، وزعيم المعارضة الليبرالية في عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي "الحسب بن عمار"، وهو ما يعني حرص "الشاهد" على تقديم نفسه كشخصية ليبرالية، وفي الوقت نفسه الحفاظ على علاقاته مع حزب النهضة الذي يشكل معه حكومة ائتلافية تضم يساريين، وإسلاميين، وليبراليين، وبعض المنشقين عن حزب "نداء تونس".
وفي هذا السياق، يرى بعض المحللين أن "يوسف الشاهد" وأنصاره قد يتحسن وضعهم، وربما يبادر رئيس الحكومة "يوسف الشاهد" بترشيح نفسه للرئاسة مستفيدًا من علاقاته مع العديد من الأطراف السياسية ومن بينها بعض قيادات حركة النهضة، بالإضافة إلى شعبيته بسبب محاربته للرشوة، والفساد، والتشدد مع الإضرابات غير القانونية.