أثار تسريب برقيات سرية للسفير البريطاني في واشنطن، تضمنت أحكاماً قاسية على الرئيس الأميركي وفريقه، جدلاً واسعاً تجاوز الدوائر البريطانية والأميركية كونه يتعلق بقواعد العمل الدبلوماسي وأخلاقياته، ناهيك بارتباطه بعلاقة صداقة بين دولة عظمى وأخرى كبرى تمتد جذورها على الأقل إلى حقبة الحرب العالمية الثانية.
وقد كشف هذا الجدل لبساً في فهم طبيعة الدبلوماسية التي يتصور البعض أنها مجرد نقل للرسائل بين بلد الدبلوماسي والبلد الموفد إليه، والحقيقة أن هذه المهمة موجودة وحيوية في أوقات التعاون والأزمات معاً بقدر ما تفتح قنوات للاتصال قد تساعد على تعظيم فرص نمو علاقات التعاون وتقليل فرص الصدام والصراع إلى أقصى حد، غير أن المهمة الأهم بكثير للدبلوماسي هي تزويد دوائر صنع القرار في عاصمته بفهم سليم للموقف في البلد الموفد إليه، متخذاً بذلك الخطوة الأولى في صنع القرار لأنه لا قرار بدون معلومات، ومصادر المعلومات كثيرة وإن لزم تدقيقها دوماً وإلا أصبح صانع القرار كالأعمى عندما يُزود بمعلومات مغلوطة. وصحيح أن مصادر المعلومات في عالم اليوم متعددة، لكن الدبلوماسي يأتي بها من معايشته للمجتمع ووصوله إلى قلب عملية صنع القرار في البلد الموفد إليه، وقد كان سر تميز العديد من السفراء نجاحهم في بناء علاقات قوية مع أشخاص مهمين في العواصم التي عملوا فيها.
وهكذا فإن السفير البريطاني لم يرتكب في تقاريره أي خطأ مهني، ولا يعني هذا الاتفاق أو الاختلاف بالضرورة مع تقييماته، بل يعني أنه اجتهد في أداء عمله، فهو بعد أن حلل الأوضاع في البلد الموفد إليه قدّم نصائح محددة لصانع القرار، وهي ذروة النضج في أداء العمل، بمعنى ألا يكتفي الدبلوماسي بالتحليل وإنما يقدم لعاصمته بدائل للحركة، وقد كان تقييم السفير بالغ القسوة للرئيس الأميركي وفريقه وللمنافسات والصراعات بين أعضاء ذلك الفريق وتوقع احتمالات سيئة بنهاية حكم الرئيس، غير أنه قدم نصائح رشيدة لصانع القرار وأولها ألا يُسقِط ترامب من حساباته، خاصة بالنظر لاحتمالات فوزه بولاية ثانية، وهو ما يؤكد فكرة أن السياسة لا تُبنى على اعتبارات قيمية وإنما مصلحية. وكشفت التوصيات التالية عن مزيد من الرشادة، إذ نصحت بمحاولة التأثير على مستشاريه والحفاظ على التواصل الدائم معه وإطرائه والوضوح التام في الحديث معه، وهي توصية متوقعة، لأنه إذا كان قد وصف ما يجري في البيت الأبيض بالفوضى فلابد أن تكون التفاعلات معه شديدة الوضوح.
لم يخطئ السفير إذن في عمله بل لعله قام به على خير وجه، ويؤكد تصريح المتحدثة باسم الخارجية البريطانية هذا المعنى عندما قالت: «للبريطانيين الحق في توقع تقييمات صادقة يقدمها دبلوماسيونا لوزرائنا حول سياسات الدول التي يعملون بها»، ثم أضافت في حصافة ظاهرة أن «وجهات نظرهم لا تمثل بالضرورة وجهة نظر الوزراء أو الحكومة»، أي أن الدول ترسل ممثليها للخارج كي يجعلوها قدر المستطاع على بينة مما يجري في بلدان عملهم، أما أخذ المسؤولين بوجهات نظرهم فقضية أخرى.
وقد لاحظنا أن ترامب، رغم غضبه المعلن مما تسرب، لم يُثِر أو حتى يُلَمح إلى الرغبة في التخلص من السفير، مع أن من حقه إعلانه شخصاً غير مرغوب فيه، لكنه لا يستطيع أن يبرر ذلك بأن الرجل كان يمارس اختصاصه، لاسيما وأن انتقاداته كانت سرية وليست كحالة السفير التركي في مصر عام 1954 حينما وجّه انتقادات فظة علناً للسياسة المصرية، فما كان من عبد الناصر إلا أن طرده على الفور. لذا كان كل ما فعله ترامب هو إعلان أنه لن يتعامل معه، وبالمقابل واصل السفير البريطاني أداءه المهني المسؤول وأعلن استقالته، لأنه من البديهي أن مهمته في الولايات المتحدة قد تضررت بل انتهت عملياً.
أين الخطأ إذن؟ هو بالتأكيد في عملية التسريب التي تمت على نحو يعكس عدم الشعور بالمسؤولية تجاه قضايا الأمن القومى من بعض وسائل الإعلام بدافع تحقيق سبق صحفي أو غيره، وهي قضية جديرة بالنقاش، والعجيب أن الصحيفة التي نشرت التسريبات استأنفت نشر تسريبات جديدة أثناء كتابة السطور الأخيرة في هذه المقالة.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد