بعد أيام قليلة، وتحديدًا في الثامن عشر من يوليو الجاري، ستشهد الأرجنتين الذكرى السنوية الخامسة والعشرين لحادث تفجير "جمعية الصداقة اليهودية-الأرجنتينية" في بوينس آيرس، عام 1994، على يد انتحاري بعبوة ناسفة، وهو الحادث الذي أسفر عن مقتل 85 شخصًا، وجرح أكثر من 300 آخرين. ويُعيد هذا الحادث التأكيد من جديد على دور إيران في دعم الإرهاب في أمريكا اللاتينية، خاصة أن الأرجنتين حمّلت ميليشيا "حزب الله"، إلى جانب إيران المسئولية عن التخطيط والتنفيذ للهجوم. ويستهدف "حزب الله" توسيع نفوذه في أمريكا اللاتينية بسبب قربها الجغرافي من الولايات المتحدة، مما يُسهل عليه تنفيذ عمليات إرهابية ضد أهداف أمريكية، في حال نشوب مواجهة عسكرية بين طهران وواشنطن.
وهذا الجانب من أنشطة "حزب الله" يأتي متزامنًا مع دوره الواضح في القيام بالعديد من الأنشطة غير المشروعة، من: تجارة المخدرات، وتهريب الأسلحة والبشر، والتزوير، وغسيل الأموال، على نحو يكشف بجلاء عن التحالف القائم بين "الإرهاب والجريمة المنظمة" في القارة اللاتينية.
تمدد "حزب الله":
ارتبطت بداية اهتمام "حزب الله" بأمريكا اللاتينية برغبته في تعزيز نفوذه المالي والاقتصادي لتوفير التمويل اللازم لأنشطة الحزب، وقد ساعده ذلك على القيام بالتخطيط والتنفيذ لبعض العمليات الإرهابية في عددٍ من الدول، ومنها:
1- فنزويلا: كشفت المعلومات التي أدلى بها رئيس جهاز المخابرات الفنزويلية السابق "هوجو كارفاخال"، في مارس 2019، عن استضافة نظام الرئيس الفنزويلي "نيكولاس مادورو" معسكرات تدريب عناصر "حزب الله"، فضلًا عن تورطه في تجارة مخدرات مع الحزب. كما أكدت تلك المعلومات ضلوع "طارق العيسمي"، وزير الصناعة والإنتاج الوطني الفنزويلي، في خطة لتدريب أعضاء "حزب الله" في فنزويلا، بهدف توسيع شبكات الاستخبارات في جميع أنحاء أمريكا اللاتينية، وللعمل -في الوقت نفسه- في تهريب المخدرات.. وفي هذا الإطار، يأتي الحديث عن احتمال إدراج الإدارة الأمريكية فنزويلا ضمن قائمة "الدول الراعية للإرهاب" في ظل ارتباطها بحزب الله وبعض التنظيمات الإرهابية الأخرى في أمريكا اللاتينية، مما يعني فرض عقوبات اقتصادية إضافية عليها.
2- بيرو: في نوفمبر 2016، طالبت رئيسة لجنة الدفاع في البرلمان البيروفي بالكشف عن حقيقة تورط أنصار "حزب الله" في التعاون مع بعض الجماعات الشيوعية في أعمال العنف التي وقعت في مقاطعة "لابامبا"، التي تُعد منطقة تمركز لجمعية شيعية تدعمها ميليشيات "حزب الله" وتسمى "أنكاري إسلام". وفي أكتوبر 2016، حذر رئيس المركز الوطني لمكافحة الإرهاب "نيكولاس راسموسن" في تقرير للجنة الأمن الداخلي في مجلس الشيوخ الأمريكي من أن مهربي "حزب الله" يقومون بإرسال إرهابيين إلى بيرو للتحضير لتنفيذ عملية إرهابية في بعض دول أمريكا اللاتينية. وليس هذا فحسب، بل سبق أن قامت السلطات الحكومية بإلقاء القبض على عضو "حزب الله" "محمد غالب حمدار" في بيرو في أكتوبر 2014، بعدما عُثر في شقته على بقايا مواد متفجرة، يُشتبه في أنه كان يعتزم استخدامها في تنفيذ هجمات إرهابية.
3- الأرجنتين: طالب الرئيس الأرجنتيني "ماريسيو ماكري"، في سبتمبر 2018، السلطات الإيرانية بالتعاون مع الجهات القضائية الأرجنتينية في ملف التحقيقات في التفجير الإرهابي الذي استهدف مقر جمعية الصداقة الأرجنتينية-الإسرائيلية، وتسليم المطلوبين للعدالة. وقد شهدت الأرجنتين أكبر الهجمات الإرهابية في تاريخها، وذلك في 17 مارس 1992، حيث استهدف تفجيرٌ إرهابي السفارةَ الإسرائيلية في بوينس آيرس، مما أسفر عن مقتل 29 شخصًا وإصابة 242 آخرين. وأعقب ذلك وقوع التفجير الإرهابي الثاني في 18 يوليو 1994 الذي استهدف مبنى جمعية الصداقة اليهودية-الأرجنتينية في بوينس آيرس. وبعد عدة سنوات من التحقيق، وجّه المدعي العام في الأرجنتين "ألبرتو نيسمان"، الاتهام للحكومة الإيرانية و"حزب الله" بالمسئولية عن تنفيذ التفجيرين، كما حمّلت السلطات الأرجنتينية "حزب الله" وإيران مسئولية مقتل المدعي العام الأرجنتيني، خاصة مع اتهامه لإيران بفتح مراكز استخبارات سرية في العديد من دول أمريكا الجنوبية للتخطيط لشن هجمات إرهابية وتنفيذها.
4- البرازيل: أعلنت في عام 2012 عن رصد عملاء لـ"حزب الله" على صلةٍ بهجمات على مبانٍ تابعة للحكومة الإسرائيلية في الهند وجورجيا، كما تم الكشف عن وجود علاقات تحالف بين الحزب وأخطر عصابتين في البرازيل، وهما: "القيادة الحمراء"، و"القيادة الأولى للعاصمة"، حيث يساعدهما "حزب الله" في الحصول على الأسلحة، مقابل أن تؤمّنا له التنقل في المنطقة الحدودية بين باراجواي، البرازيل، والأرجنتين.
5- أوروجواي: تمّ الكشف عن تورط دبلوماسي إيراني بارز في زرع قنبلة خارج السفارة الإسرائيلية في العاصمة "مونتيفيديو" في 7 يناير 2015، وعقب ذلك تم طرد هذا المسئول. وعلى خلفية هذا الحادث، تمّ استدعاء سفير طهران في أوروجواي إلى مقر وزارة الخارجية لشرح سبب اكتشاف دبلوماسي إيراني بالقرب من قنبلة عثر عليها بالقرب من السفارة الإسرائيلية في مونتيفيديو، وجاء هذا الحدث عقب اغتيال إسرائيل للقيادي في حزب الله "جهاد مغنية".
6- دول أخرى: كشف مسئولون أمريكيون النقاب عن أن عملاء إيرانيين حاولوا تجنيد أعضاء في عصابة الاتجار بالمخدرات المكسيكية "زيتاس" لاغتيال السفير السعودي في واشنطن في أكتوبر 2011. وفي السياق ذاته، ارتبطت قيادات "حزب الله" بعلاقات قوية مع نجل رئيس سورينام "ديزي بوترس" الذي عرض على الحزب إقامة قاعدة عسكرية له في بلاده، ثم قُبض عليه في الولايات المتحدة وحُكم عليه بالسجن لمدة ستة عشر عامًا. وفي بوليفيا، تمّ العثور على "مخابئ كبيرة من المعدات العسكرية والمتفجرات" التابعة لجهاديي "حزب الله" في منطقة "لاباز"، عام 2017.
عوامل متداخلة:
ساهمت مجموعة من العوامل في جعل أمريكا اللاتينية هدفًا لتنفيذ "حزب الله" بعض العمليات الإرهابية على أراضيها، ومنها:
1- تواطؤ النظم الحاكمة: في ظل ارتباط "حزب الله" بعلاقات وثيقة بعددٍ من النظم الحاكمة في أمريكا اللاتينية، فقد وفّرت مظلة للحماية القانونية والأمنية لأنصار "حزب الله" المتواجدين على أراضيها، خاصة مع سيادة حالة من العداء للولايات المتحدة في تلك الدول. وفي هذا الإطار، أوضحت تقارير صادرة عن وزارة الدفاع الأمريكية أن ضباطًا تابعين لحزب الله يعملون تحت غطاء دبلوماسي في السفارة الإيرانية في كراكاس، وأن السلطات الفنزويلية قامت بإصدار قائمة بأكثر من ألفي جواز سفر فنزويلي لأعضاء مشتبه بهم من "حزب الله" وجماعات متشددة أخرى تدعمها إيران. أما في الأرجنتين، فقد اتهم المدعي العام عام 2006، رئيسة البلاد حينها "كريستينا كيرشنر"، بالتستر على تورط مسئولين إيرانيين في تفجير جمعية الصداقة اليهودية-الأرجنتينية في مقابل الحصول على صفقات نفطية سخية من إيران، كما وُجهت لكيرشنر أصابع الاتهام بالتورط في حادث مقتل المدعي العام الأرجنتيني. وفي السياق ذاته، تقوم كوبا مباشرة وعبر فنزويلا بتقديم معلومات استخبارية لحزب الله، كما تتعاون مع فنزويلا والحزب في تهريب المخدرات والإرهابيين إلى الولايات المتحدة عبر المكسيك، وكذلك الأسلحة والمتفجرات تحت الغطاء الدبلوماسي الإيراني.
2- الفراغ الأمني: عمل "حزب الله" على ترسيخ وجوده في أمريكا اللاتينية مستفيدًا من حالة الفراغ الأمني والغياب النسبي لسلطات إنفاذ القانون في بعض المناطق، وتحديدًا في المثلث الحدودي بين البرازيل، وفنزويلا، وبارجواي، الذي يُمثل بيئة رخوة مناسبة لحزب الله كي يُكثف من أنشطته الإجرامية، كما يستخدم المثلث الحدودي كملاذ آمن ومصدر تمويل للإرهابيين المرتبطين بحزب الله، وذلك من خلال التحالف مع عصابات الجريمة المنظمة في بعض الدول، من أجل الحصول منها على التمويل، في مقابل ضمانه سلامة مرور قوافل الكوكايين التابعة للعصابات إلى دول الشرق الأوسط. حيث تُقدر حركة تجارة المخدرات فيها بنحو 14 مليار دولار، بما فيها غسيل الأموال والتحويلات التي تخرج من المثلث الحدودي لتمويل أنشطة إرهابية لحزب الله. ونجح "حزب الله" في استغلال انتشار الفساد، وضعف المؤسسات الحكومية، وكذلك ضعف فاعلية أو غياب التشريعات المتعلقة بمحاربة الإرهاب، من أجل تعزيز قدرته على العمل بحرية في المنطقة، كما أعاق ذلك الجهود المبذولة للقضاء عليه، خاصة أنه ليس هناك دولة في أمريكا اللاتينية تُصنف "حزب الله" "تنظيمًا إرهابيًّا".
3- الموقع الجغرافي: تُمثل أمريكا اللاتينية بالنسبة لحزب الله مجالًا حيويًّا من أجل تعزيز نفوذه بسبب قربها الجغرافي من الولايات المتحدة، مما يُسهل عليه تنفيذ عمليات إرهابية ضد أهداف أمريكية، في حال نشوء صراع مسلح بين طهران وواشنطن، حيث يكون بمقدور عناصر "حزب الله" التسلل إلى الداخل الأمريكي عبر الحدود، أو وسط قوافل المهاجرين غير الشرعيين. ومن الواضح أن إسرائيل كانت هدفًا محوريًّا في العمليات الإرهابية التي نفذها أو خطط "حزب الله" لتنفيذها في بعض دول أمريكا اللاتينية، وذلك نتيجة التحالف القائم بين إسرائيل والولايات المتحدة، وأحيانًا كانت الهجمات الإرهابية ضد أهداف إسرائيلية بمثابة عمليات انتقامية عقب استهداف تل أبيب بعض قادة "حزب الله". وهو ما يمكن أن يُفسر تركيز "حزب الله" على الأرجنتين لأنها تضم أكبر جالية يهودية في أمريكا الجنوبية وواحدة من أكبرها خارج إسرائيل.
ساحة مواجهة محتملة:
يدور حديث مستمر بين كبار المسئولين الأمنيين والسياسيين الأمريكيين حول احتمال توظيف "حزب الله" أمريكا اللاتينية في إطار الحرب غير المتماثلة التي يشنها ضد الولايات المتحدة، وتعكس تصريحات المسئولين الأمريكيين من ناحية والسياسات الأمريكية من ناحية أخرى عمق الهواجس الأمريكية من تنامي وجود فصائل "حزب الله" الإرهابية في الحديقة الخلفية للولايات المتحدة.
من ناحية أولى، كشفت العديد من التقارير السنوية لوزارة الخارجية الأمريكية عن الإرهاب عن وجود تحركات مكثفة من قبل أنصار "حزب الله" لتنفيذ عمليات إرهابية في بعض دول أمريكا اللاتينية، كما أكد قائد القيادة الجنوبية للولايات المتحدة "كريج فيلر" في فبراير 2019، أن إيران تتمدد في أمريكا اللاتينية لدعم الإرهاب، وأن فنزويلا تستعين في تكتيكات الحرب غير المتكافئة بحزب الله. كما شدد وزير الخارجية الأمريكي "مايك بومبيو" في أبريل 2019، على وجود خلايا نشطة لحزب الله في فنزويلا وجميع أنحاء أمريكا الجنوبية.
ومن ناحية أخرى، تمت ترجمة القلق الأمريكي المتنامي من تزايد نفوذ "حزب الله" السياسي والعسكري في أمريكا اللاتينية إلى بعض الخطوات العملية. ففي أكتوبر 2018، صنفت وزارة العدل "حزب الله" كواحدة من أكبر خمس منظمات إجرامية عبر وطنية في أمريكا اللاتينية. وفي محاولة لتكثيف الجهود الإقليمية لمنع أنشطة "حزب الله" غير المشروعة في نصف الكرة الغربي، استضافت الولايات المتحدة مؤتمرًا في ديسمبر الماضي، حضره كبار المسئولين من الأمريكتين. ومؤخرًا، عقدت الولايات المتحدة والأرجنتين ورشة عمل يومي 11 و12 يونيو الماضي في بوينس آيرس، لتنسيق الجهود الإقليمية بشأن مكافحة أنشطة "حزب الله" الإرهابية وغير المشروعة في نصف الكرة الغربي.
وعلى الرغم من أنه لسنوات طويلة، نظر "حزب الله" لأمريكا اللاتينية كساحة مناسبة للقيام بعمليات إرهابية ضد أهداف إسرائيلية وغربية، وفقًا لتصريحات الجنرال "جون كيلي"، قائد القيادة الجنوبية للولايات المتحدة في عام 2015؛ فإنه من غير المرجح أن يستخدم "حزب الله" وجوده في أمريكا اللاتينية لشن هجوم مباشر ضد المصالح الأمريكية؛ إذ يدرك الحزب جيدًا أن أي هجوم كبير على المصالح الأمريكية سيدعو واشنطن إلى الانتقام المباشر من الحزب، على غرار رد الفعل الأمريكي تجاه تنظيم "القاعدة" في أعقاب أحداث 11 سبتمبر.
وسيبقى موقف "حزب الله" مرهونًا بتطورات الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط، ففي حال وقوع تهديد خطير لـ"حزب الله" ولإيران (على سبيل المثال، القيام بعمل عسكري أمريكي يستهدف المنشآت النووية الإيرانية)، يمكن أن تتغير حسابات "حزب الله" الاستراتيجية. وبدون حدوث تطور جوهري في منطقة الشرق الأوسط، فإن احتمال وقوع هجوم إرهابي على المصالح أو المؤسسات الأمريكية في أمريكا اللاتينية من قبل "حزب الله" في المستقبل القريب، لا يزال منخفضًا، وسيظل وجود الحزب في نصف الكرة الغربي منحصرًا في أنشطة "الدعم" التي تقدم فوائد مالية، تشغيلية، وكذلك سياسية للمنظمة ككل أو لإيران.