مثّل سقوط مدينة الموصل العراقية في قبضة تنظيم "داعش"، في 10 يونيو 2014، تحولاً كبيرًا بالنسبة للأخير، الذي أصبح بعدها تنظيمًا عابرًا للحدود، وهو ما جعله يدرك الأهمية الخاصة التي تحظى بها المدينة ، حتى أنه أعلن عن مشروعه المتطرف من فوق منبر جامع النوري الكبير في يوليو من العام نفسه. ولذا كانت معركة إخراج "داعش" من الموصل صعبة. ورغم أنها انتهت بإعلان الانتصار عليه، إلا أن ذلك لا ينفي أن ثمة محاولات من جانب الأخير لتوسيع نطاق نشاطه من جديد، في إطار سعيه إلى استعادة نفوذه في المناطق التي سبق أن سيطر عليها منذ منتصف عام 2014.
محاولات مستمرة:
بدأت اتجاهات عديدة في إطلاق تحذيرات من أن "داعش" ربما يحاول من جديد العودة إلى مدينة الموصل، إذا ما تمكن من تجميع عدة آلاف من المقاتلين أو ما يسمى بـ"الخلايا النائمة" التابعة له، خاصة وأنه دائمًا، وفقًا لتلك الرؤية، ما يسعى إلى السيطرة على المدن التي تضم كثافة سكانية عالية، وذلك لاعتبارين: أولهما، أنه يعتبر الكثافة السكانية حماية له، باعتبار أنه يستعين بالمدنيين كـ"دروع بشرية" في مواجهة العمليات العسكرية التي يتعرض لها من جانب القوى المناوئة له. وقد أشارت منظمة الأمم المتحدة، على سبيل المثال، أكثر من مرة، قبل تحرير الموصل، إلى أن التنظيم يحتجز آلافًا من المدنيين كـ"دروع بشرية"، على غرار ما حدث في 16 يونيو 2017، عندما أعلنت أن عدد المدنيين الذين يحتجزهم التنظيم لحمايته في مواجهة العمليات العسكرية التي تشنها القوات العراقية يصل إلى 100 ألف شخص.
وثانيهما، أنه يحاول عبر ذلك استقطاب عدد من سكانها للانضمام إليه وتعويض الخسائر البشرية التي يمنى بها بسبب انخراطه في مواجهات عسكرية على أكثر من جبهة. وقد حذر نائب الرئيس العراقي السابق رئيس "تحالف القرار العراقي" أسامة النجيفي، في أول مارس 2019، من أن "التطرف بدأ ينشط في الموصل" التي شبهها بـ"الرمال المتحركة"، مضيفًا أن "أوضاع الموصل يرثى لها، حيث ما زالت هناك جثث تحت الأنقاض في الجانب الأيمن من المدينة، وهناك نحو 40 ألف وحدة سكنية مدمرة بالكامل".
عقبات عديدة:
لكن رغم ذلك، فإن ثمة اتجاهات أخرى ترى أن التنظيم لم تعد لديه القدرة على فرض سيطرته من جديد على الموصل، أو توسيع نطاق نشاطه داخلها، وأن كل ما يمكن أن يقوم به ينحصر في تنفيذ عمليات إرهابية عبر "الخلايا النائمة" التابعة له. وتستند في هذا السياق إلى اعتبارات عديدة يمكن تناولها على النحو التالي:
1- التشتت التنظيمي: فرضت الضربات العسكرية التي شنتها القوى المناوئة لـ"داعش"، سواء في سوريا أو العراق، حالة من التشتت التنظيمي، دفعته إلى مواصلة نشاطه عبر مجموعات متفرقة في بعض المناطق الصحراوية، تعمل بطريقة لا مركزية، وفقًا لعوامل مثل الظروف الأمنية والطبيعة الجغرافية، وهو ما يعد عائقًا أمام أى محاولة من قبل التنظيم للاستيلاء على أى من المناطق التي فقد السيطرة عليها في الفترة الماضية، لا سيما إذا كانت مدينة كبيرة في حجم الموصل.
2- التدابير الأمنية: تعمل السلطات الأمنية العراقية حاليًا على تجنب أية ممارسات قد تعزز من احتمال تكرار ما حدث في المدينة قبل خمس سنوات من الآن، حيث تتخذ تدابير أمنية مشددة داخل المدن العراقية بشكل عام وفي الموصل بشكل خاص، بهدف قطع الطريق على تنظيم "داعش" للعودة إلى المناطق التي سبق أن سيطر عليها، قبل أن تعلن الحكومة العراقية تحرير كامل أراضيها من قبضته في ديسمبر عام 2017.
وقد وجهت القوات العراقية ضربات عديدة لخلايا "داعش" في الفترة الأخيرة، على غرار ما حدث في 14 يونيو الجاري، حيث أعلن الجيش العراقي عن تدمير 28 وكرًا و8 أنفاق و13 عبوة ناسفة و7 خيام في جزيرة الأنبار. وقد كان الإعلان عن ذلك في اليوم المذكور إشارة إلى أن السلطات تبدو مدركة لأهمية الاستمرار في تبني إجراءات أمنية مشددة لمنع تكرار المشهد الذي حدث قبل ذلك بخمس سنوات.
3- الرفض المجتمعي: رغم أن التنظيم تمكن من تكوين "خلايا نائمة" في بعض المدن العراقية من أجل الحفاظ على نشاطه داخلها بعد خروجه منها، إلا أن ذلك لا ينفي أن ثمة حالة من الرفض المجتمعي تجاه ممارساته، بسبب الانتهاكات التي ارتكبتها عناصره خلال السنوات الخمس الماضية، على نحو لن يعزز من قدرته على توسيع نطاق نفوذه من جديد.
4- الانشغال برد الفعل: مكنت العمليات العسكرية التي شنت ضد التنظيم السلطات الأمنية من انتزاع زمام المبادرة منه، على نحو أدى إلى دخول معظم عملياته في إطار رد الفعل على تلك العمليات التي أسفرت عن خسائر بشرية ومادية كبيرة منى بها. ومن هنا، فإن فشل التنظيم في انتزاع زمام المبادرة من جديد يضعف من قدرته على تعزيز نفوذه مرة أخرى، على غرار ما كان قائمًا منذ خمس سنوات، حيث كان امتلاكه للمبادرة سببًا رئيسيًا في سيطرته على الموصل وغيرها من المدن.
لكن رغم أن وجود التنظيم على الأرض أصبح ضعيفًا إلى حد كبير داخل الموصل، وغيرها من المدن العراقية التي تم تحريرها من قبضته، إلا أن ذلك لا ينفي أن أفكاره وتوجهاته ما زالت موجودة وأنها قد تنشط بفعل عوامل عديدة، على نحو يضفي أهمية خاصة على الدعوات التي أطلقتها قوى عراقية مختلفة بضرورة منح الأولوية لمعالجة المشكلات الاقتصادية والحياتية التي تعاني منها المدينة، من أجل هزيمة التنظيم فكريًا كما تم الانتصار عليه أمنيًا.