لم تعد إيران تكتفي بدورها في المنطقة أو حضورها في دول الأزمات، أو مواصلة تنشيط برنامجيها النووي والصاروخي، في محاولاتها لتعزيز موقعها في مواجهة الضغوط والعقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية، والتي يبدو أنها سوف تتصاعد خلال المرحلة القادمة، على ضوء رفض طهران عروض التفاوض التي قدمتها واشنطن، وآخرها خلال زيارة رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي إلى طهران في الفترة من 12 إلى 14 يونيو 2019، فضلاً عن الاتهامات التي توجهها واشنطن إلى طهران بالمسئولية عن الهجمات التي تعرضت لها بعض السفن والناقلات في منطقة الخليج خلال الفترة الأخيرة. ومن هنا، بدأت إيران مرحلة جديدة من حملتها الدبلوماسية التي تهدف من خلالها إلى تعزيز موقعها على الساحة الدولية، استباقًا لرفع مستوى الضغوط الغربية والإقليمية ضدها في المستقبل القريب.
تواصل مستمر:
كان لافتًا أن إيران سارعت في الفترة الأخيرة إلى تدشين حملة دبلوماسية جديدة سعت عبرها إلى مواصلة تحسين علاقاتها مع العديد من القوى الدولية، لا سيما الآسيوية، حيث قام وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف بجولة آسيوية في الفترة من 12 إلى 18 مايو الفائت، شملت كلاً من تركمانستان والهند واليابان والصين، ثم تبعها بزيارة إلى باكستان، في 24 من الشهر نفسه، والتي كان رئيس وزراءها عمر خان قد زار طهران في 22 إبريل من العام ذاته.
وفي اليوم نفسه الذي انتهت فيه زيارة رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي إلى طهران، في 14 يونيو الجاري، كان الرئيس حسن روحاني يزور قيرغيزستان لحضور قمة منظمة شنغهاى للتعاون، حيث التقى خلالها بكل من الرئيس الصيني شي جين بينغ والروسي فيلاديمير بوتين، وبعدها بيوم واحد قام بزيارة طاجيكستان للمشاركة في قمة "التعاون وبناء الثقة في آسيا".
هنا، يمكن القول إن إيران بدأت في اتباع استراتيجية يمكن تسميتها بـ"الخروج من الإقليم"، وتعني محاولة نقل أزمتها المتصاعدة مع الولايات المتحدة الأمريكية من سياقها الإقليمي الذي تتعرض فيه لضغوط متتالية، إلى الإطار الدولي الأكثر اتساعًا، الذي تستطيع فيه، وفقًا لرؤيتها، تقليص حدة تلك الضغوط وبناء حائط صد يمكن أن يساعدها في مواجهة العقوبات الأمريكية أو الاستحقاقات التي يمكن أن تنتج عن الإجراءات التي ربما تقدم عليها في المرحلة القادمة، بعد انتهاء المهلة الحالية التي منحتها للقوى الدولية قبل أن تتخذ مزيدًا من الإجراءات التصعيدية في برنامجها النووي.
أهداف متعددة:
من دون شك، فإن تعزيز العلاقات مع بعض القوى الدولية لا يعبر عن سياسة إيرانية جديدة، حيث أن إيران دائمًا ما سعت إلى تبني هذا النهج. إلا أن الظروف الحالية التي تمر بها المنطقة، فضلاً عن التداعيات القوية التي بدأت تفرضها العقوبات الأمريكية وتزايد الحشد العسكري الأمريكي بالقرب من حدودها، واندفاعها إلى اتخاذ خطوات مضادة للرد على الإجراءات الأمريكية، كل ذلك أكسب هذا التوجه مزيدًا من الأهمية والزخم على الساحة الداخلية الإيرانية.
وتسعى إيران عبر تبني تلك الاستراتيجية، التي باتت تكتسب أهمية خاصة من جانب العديد من المؤسسات الرئيسية داخل النظام، إلى تحقيق أهداف عديدة يتمثل أبرزها في:
1- استغلال التوترات الدولية: تتابع إيران بدقة تطورات ما يسمى بـ"الحرب التجارية" التي تتصاعد حاليًا بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، حيث ترى أن تزايد حدة التنافس بين الطرفين على الساحة الدولية يمكن أن يوسع من هامش الحركة والخيارات المتاح أمامها، باعتبار أن ذلك، في رؤيتها، ربما يدفع الصين إلى تحدي الإجراءات الأمريكية ضدها عبر تعزيز العلاقات الاقتصادية معها، أو على الأقل عدم اتخاذ خطوات من شأنها تخفيض مستوى تلك العلاقات.
واللافت في هذا السياق أيضًا، هو أن اتجاهات عديدة داخل إيران قرأت ما نشرته تقارير أمريكية عديدة، في أواخر مايو الفائت، عن أن التوتر مع إيران يهدد بتقويض استراتيجية وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون" التي ترمي إلى التركيز على المنافسة كقوة عظمى والتصدي لروسيا والصين، على أنه يخدم هذه الاستراتيجية.
وطبقًا لتلك الرؤية، فإن تعدد الخصوم، أو بمعنى أدق المنافسين، سوف يقلص من قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على فرض الضغوط التي يمكن أن تدفع إيران إلى القبول بخيار التفاوض في الوقت الحالي، باعتبار أنه سوف يؤدي إلى تشتيت الجهود الأمريكية في مناطق وملفات مختلفة ومتباعدة، على نحو قد يعزز من قدرة طهران على مواجهة تداعيات الإجراءات العقابية التي تتخذها ضدها.
ومن هنا، كان لافتًا أن وسائل الإعلام الإيرانية أبدت اهتمامًا خاصًا بإلقاء الضوء على اللقاء الذي عقد بين الرئيس الصين شي جين بينغ والرئيس حسن روحاني على هامش قمة منظمة شنغهاى للتعاون في قيرغيزستان، والذي أكد فيه الأول على أن "بلاده سوف تعمل على تطوير علاقاتها مع إيران بشكل مطرد بصرف النظر عن تغير الظروف".
وقد كان أهم ما لفت انتباه تلك الجهات هو العبارة الأخيرة "تغير الظروف"، التي اعتبرت أنها تعكس استقرار السياسة التي تتبناها بكين تجاه طهران حتى بعد تصاعد حدة التوتر في المنطقة بين الأخيرة وواشنطن، بعد انسحاب إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من الاتفاق النووي في 8 مايو 2018، وفرضها عقوبات جديدة عليها، وبعد تزايد التوتر في منطقة الخليج.
2- تقليص الضغوط: أصبح الدور الذي تقوم به إيران في المنطقة، ولا سيما في دول الأزمات، سببًا رئيسيًا في الضغوط التي تتعرض لها من جانب العديد من القوى الإقليمية والقوى الدولية المعنية بأزمات المنطقة. فقد اتسع نطاق الخلافات بين إيران وتلك القوى بسبب إمعان إيران في تقديم الدعم للمنظمات والميليشيات الإرهابية والمسلحة الموجودة في تلك الدول، وعرقلة الجهود التي تبذل من جانب تلك الأطراف للوصول إلى تسوية لتلك الأزمات. ومن هنا، فإن الانتقال إلى السياق الدولي يمكن أن يساعد إيران في تقليص تلك الضغوط، باعتبار أن التعاون والتنسيق، على المستويين الاقتصادي والسياسي، وليس التنافس أو التوتر، سوف يكون هو النمط الأبرز للتفاعلات التي تجري بين إيران وبعض القوى الدولية، لا سيما الصين وروسيا.
3- الظهير الدولي: لم تعد إيران تستبعد أن تتمكن قوى غربية من نقل ملفها مرة أخرى إلى مجلس الأمن، وهو الخيار الذي حذرت من أنها سوف تتخذ إجراءات متشددة في حالة الاستناد إليه. ومن هنا، تسعى إيران في المرحلة الحالية إلى تأمين ظهيرها الدولي من أجل عرقلة أية جهود قد تبذلها بعض القوى لاستصدار قرارات من مجلس الأمن ضدها، سواء فيما يتعلق بالبرنامج النووي أو البرنامج الصاروخي أو الدور الإقليمي، خاصة دعمها العسكري لبعض الميلشيات الإرهابية والمسلحة، فضلاً عن دورها في الهجمات الأخيرة التي تعرضت لها بعض السفن والناقلات في منطقة الخليج.
وربما يتزايد احتمال نقل الملف الإيراني مرة أخرى إلى مجلس الأمن في حالة ما إذا أقدمت إيران بالفعل على اتخاذ مزيد من الإجراءات التصعيدية في برنامجها النووي. إذ اقتربت مهلة الستين يومًا من الانتهاء، وهى المهلة التي منحتها الأخيرة، في 8 مايو الفائت، إلى القوى الدولية لرفع مستوى العلاقات التجارية والمصرفية معها، قبل أن تقدم على اتخاذ مزيد من الإجراءات التصعيدية في برنامجها النووي، بعد الخطوات الأولى التي اتخذتها في هذا اليوم، والخاصة بالتوقف عن بيع اليورانيوم المخصب بنسبة 3.67% والماء الثقيل في الأسواق الدولية، وبعد تهديداتها المتكررة بإمكانية العودة إلى رفع مستوى التخصيب إلى مستوى 20% في غضون 4 أيام.
وفي النهاية، يمكن القول إن التصعيد سوف يكون هو العنوان الأبرز للمواجهة الحالية بين واشنطن وطهران، لا سيما بعد رفض الأخيرة إجراء مفاوضات في المرحلة الحالية، وسعيها إلى توسيع مساحة المناورة المتاح أمامها عبر تعزيز علاقاتها مع روسيا والصين.