عرض: د. رغدة البهي، مدرس العلوم السياسية، جامعة القاهرة
تُعد المعلومات في نظر البعض "نفطًا جديدًا" كونها المورد الجيوسياسي الأكثر أهمية، لما لها من قدرةٍ على التأثير في مختلف القرارات، وإعادة تشكيل العلاقات بين الأمم. أو بعبارةٍ أخرى، تملك قوة المعلومات القدرة على تغيير طبيعة العلاقات الدولية، وبخاصة في ظل احتدام المنافسة الاستراتيجية بين الدول عليها في خضم مباراةٍ صفريةٍ من جانب، وتطبيق بعض الحكومات استراتيجياتٍ تحول دون تدفق المعلومات لمواطنيها، وتزعزع استقرار الدول الديمقراطية من جانبٍ آخر.
وفي هذا الإطار، تبرز أهمية الورقة البحثية المعنونة "الجغرافيا السياسية للمعلومات"، والمنشورة بمركز بلفر للعلوم والشئون الدولية بكلية هارفارد كينيدي، للكاتبين "إريك روزنباخ" (مدير المركز ورئيس أركان وزير الدفاع سابقًا)، و"كاثرين مانستد" (الزميلة بالمركز)، والتي جادلا فيها بضرورة تطوير الدول الديمقراطية بشكلٍ عام، والولايات المتحدة بشكلٍ خاص، استراتيجيات جديدة للأمن القومي، وذلك في ظل الجغرافيا السياسية للمعلومات، على نحوٍ يمكّنها من خوض المنافسة الاستراتيجية المحتدمة عليها.
المعلومات كمصدر للقوة
جادل الكاتبان بتزايد أهمية المعلومات في الشئون العالمية مقارنة بأي وقتٍ مضى، وذلك بفعل التطورات الأخيرة في التقنيات المعتمدة على البيانات، التي أحدثت ثورةً في الجوانب الأربعة الرئيسية لقوة المعلومات، بعد أن أثرت في البيئة السياسية والاقتصادية، والنمو الاقتصادي والثروة، والمنافسة الاستراتيجية، والقدرة على التواصل بسرعة وأمان.
فعلى سبيل المثال، أدى استخدام موسكو المستمر للشبكات الرقمية للتدخل في السياسة الأمريكية إلى اتساع نطاق التأثير الروسي جغرافيًّا. وفي السنوات الخمس المقبلة يشير الكاتبان إلى أن التطورات على صعيد الذكاء الاصطناعي ستُمكّن من إدارة حملات من التأثير الشامل بسعرٍ رخيص وبسرعةٍ فائقة. كما أن التقدم في التعلم الآلي يتيح كمياتٍ كبيرة من البيانات الخام، تتجاوز صعوبات معالجة الكم الهائل من المعلومات المتاحة.
وتؤكد الورقة البحثية أن البيانات والمعلومات تلعب دورًا رئيسيًّا في قدرة الدول على خلق الثروة والازدهار. فوفقًا لمجلة "الإيكونوميست"، حلت البيانات محل النفط باعتبارها "المورد الأكثر قيمة في العالم". فهي المحرك الأهم للنمو الاقتصادي في القرن الحادي والعشرين. ويذهب بعض المحللين إلى أبعد من ذلك، حيث تنبأ "فيكتور ماير شونبرجر" بأن "رأسمالية البيانات" ستحل محل الرأسمالية المالية كمبدأ حاكم للاقتصاد العالمي.
ويرى الكاتبان أنه في عصر تدفع فيه الجغرافيا السياسية للمعلومات الشئونَ العالمية، تؤثر الأهمية الاقتصادية والسياسية المتزايدة للمعلومات على اختيارات الدول وأولوياتها السياسية، وكيفية ممارستها للسلطة وخوضها الصراع. وهو ما يمكن فهمه في ضوء أهميتها الاستراتيجية، لا سيما الشخصية منها، سواء لشركات الدعاية والإعلان أو للحكومات والأحزاب السياسية.
وتذكر الورقة البحثية أنه في عام 2018، تم استهداف السجلات الصحية الرقمية لرئيس الوزراء السنغافوري لأغراضٍ لم يتم الكشف عنها بعد. وفي عام 2015، اخترقت الصين مكتب إدارة شئون الموظفين في الولايات المتحدة، وسرقت المعلومات الشخصية الحساسة لأربعة ملايين شخص خضعوا لفحوصات أمنية حكومية، فأصبحوا مادة لعمليات التجسس والابتزاز. ومع الموجة القادمة من أبحاث الذكاء الاصطناعي، يرجح أن تصبح المعلومات الشخصية للمواطنين موردًا ذا قيمة استراتيجية أكبر.
المعلومات التجارية
وفقًا للكاتبين، تقوم الحكومات بشكلٍ متزايد بحماية ومراقبة الشركات والبنية التحتية المرتبطة بالمعلومات، وهو الأمر الذي يتجلى بوضوح في عدد من الدول غير الديمقراطية، لكنه ليس حكرًا عليها. ففي ظل الدور المحوري الذي تلعبه البيانات في النمو الاقتصادي والثروة، تنخرط كافة الدول في سباق صفري للحصول على البيانات واستخدامها، حيث يتيح توافرها للشركات بناء تطبيقات وتكنولوجيات أفضل، مما يزيد من ربحيتها وشعبيتها.
وعلى صعيد الجغرافيا السياسية تذكر الورقة البحثية أن رئيس الوزراء الهندي "ناريندرا مودي" يعتقد أن من يتحكم في البيانات سيتمكن من "الهيمنة". كما أعلن الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" في عام 2017 أن "كل من سيصبح رائدًا في تكنولوجيا المعلومات، سيصبح حاكمًا للعالم". وتسعى "خطة التنمية لجيلٍ جديدٍ من الذكاء الاصطناعي" الصينية لدفع بكين إلى قيادة العالم بحلول عام 2030.
وتُضيف أن الدول لا ترغب في الحصول على البيانات فحسب، بل تقوض قدرة الدول الأخرى على الوصول إليها أيضًا. ففي نوفمبر 2016، سنت الصين قانونًا شاملًا للأمن السيبراني، يسمح للحكومة بإجراء مسحٍ دقيقٍ لكافة جوانب حياة المواطنين، مع الحد من إمكانية وصول الشركات الأجنبية إلى تلك البيانات. كما سنّت روسيا والهند قوانين جديدة "لتوطين البيانات"، بما يتطلب تخزين كمياتٍ كبيرةٍ من البيانات الشخصية والتجارية ومعالجتها داخل كلٍّ منهما.
ويرى الكاتبان أنه قد لا تكون حماية صناعات المعلومات والاستثمار بها مجرد خيار اقتصادي للدول فحسب، لكنه حتمية استراتيجية أيضًا. ويتركز الابتكار التكنولوجي -في غالبية الأحيان- في القطاع الخاص قبل أن تكون له تطبيقات عسكرية أو استخباراتية. وعلى إثر ذلك، قام الكونجرس الأمريكي مؤخرًا بإصلاح نظام الاستثمار الأجنبي الحالي ليجعل من الصعب على المستثمرين الصينيين وغيرهم من الأجانب الحصول على التقنيات الحساسة والوصول إلى البيانات الشخصية للأمريكيين، ومن المحتمل إجراء مزيدٍ من تلك الإصلاحات في القريب.
التلاعب بالمعلومات
تشكل الأهمية الاقتصادية والاستراتيجية للبيانات حافزًا للدول لرعاية الهجمات الإلكترونية وعمليات التجسس ضد البلدان المنافسة. وبالإضافة إلى ذلك، يتيح التقدم التكنولوجي للدول استخدام المعلومات للتأثير والإكراه بأشكالٍ غير مسبوقة. وقد تجلى ذلك الجانب من الجغرافيا السياسية للمعلومات في استراتيجية الولايات المتحدة للأمن القومي لعام 2017، والتي كرست فصلًا كاملًا لصناعة المعلومات، والمخاطر التي تشكلها بلدان مثل: روسيا، والصين.
وقد عملت الصين بالفعل على إحكام سيطرتها على الإنترنت ووسائل الإعلام الأجنبية. كما سعت لتقويض تدفق التكنولوجيا الأجنبية إلى أسواقها. كما أقدمت روسيا على فصل الإنترنت الروسي عن الإنترنت العالمي. ويفكر المشرعون الأمريكيون أيضًا في اتخاذ المزيد من الإجراءات لعزل مواطني الولايات المتحدة عن المعلومات الأجنبية المضللة.
ويجادل الكاتبان بأن السعي وراء المعلومات لا يغير من كيفية تنافس الدول مع بعضها بعضًا فحسب، بل يغير من علاقة الحكومات بمواطنيها أيضًا. فقد تقوم الحكومات بحظر ومراقبة وإعادة توجيه الشبكات والمواقع، وقد تغمرها بالأخبار والمعلومات من قبلها، وقد تستغلها لجمع البيانات عن المواطنين لتغيير سلوكياتهم. ويُضيفان أن الدول غير الديمقراطية قد تتمكن من خلالها من تعزيز سيطرتها على تفاعلات مواطنيها، لتحديد المعارضين ومعاقبتهم، بل وإعادة تثقيف المخالفين.
وعليه، تتأسس شرعية تلك الأنظمة على الرقابة والتلاعب بالمعلومات بزعم حماية المصلحة الوطنية، وهو ما يزيد من خطر الجمود الدبلوماسي والتصعيد غير المقصود. فقد أثبتت الصين بالفعل أنها على استعدادٍ لاستخدام التدابير السيبرانية المسيئة ضد الشركات الأمريكية التي تساعد مواطنيها على التهرب من الرقابة على الإنترنت. ويعتقد الاستراتيجيون الروس أن الحركات الشعبية واحتجاجات وسائل التواصل الاجتماعي في الثورات الملونة تعكس شكلًا من أشكال الحرب غير النظامية.
الاستراتيجية الوطنية للمعلومات
شدّد الكاتبان على ضرورة تعامل الولايات المتحدة مع المعلومات كموردٍ استراتيجي، بما يدمج الحقائق الجديدة للجغرافيا السياسية في صنع مختلف السياسات، وهو ما يتطلب وضع المعلومات في قلب السياسة والاستراتيجية الأمريكية. غير أنه وعلى أرض الواقع، تتعدد الدلائل على تقلص قدرة الإدارات الأمريكية على مواجهة تحديات عصر المعلومات، وهو ما يرجع إلى الاعتقاد بقدرة التطورات التكنولوجية على دعم مصالح الولايات المتحدة وتعزيز الديمقراطية، مع تجاهل قدرتها على تمكين الدول غير الديمقراطية، وتوظيفها لأغراض التجسس.
وفي ظل عدم وجود استراتيجية وطنية لحماية البيانات، وتعزيز القدرة التنافسية للشركات الأمريكية، وتأمين أصول البنية التحتية للمعلومات والتكنولوجيا، تخاطر الولايات المتحدة بالتخلي عن دورها القيادي في المستقبل. وعليه طرح الكاتبان ضرورة اعتماد استراتيجية وطنية تنهض على المبادئ التالية:
أولًا- الارتكاز على البيانات: فقد فشل النهج الأمريكي المتمركز على الشبكات في حماية الأمن القومي. وأسفر التركيز على الهجمات والتهديدات الكارثية المحتملة على شبكات البنية التحتية عن صرف انتباه القادة عن الدفاع عن تأمين المعلومات. ولم تعط الحكومة الأولوية للاقتصاد القائم على البيانات.
ثانيًا- الخصوصية: يجب أن يتمتع تعزيز القدرة التنافسية العالمية للشركات الأمريكية بالأولوية القصوى، دون السماح لها بجمع المعلومات واستخدامها وبيعها دون موافقة المستخدم. فقد تحاول أجهزة الاستخبارات الأجنبية استهداف بيانات وأبحاث المستهلكين لتدريب أنظمة الذكاء الاصطناعي. ووفقًا لذلك، في ظل الجغرافيا السياسية للمعلومات، لا تعد حماية البيانات مسألة حقوق فردية، بل هي ضرورة أمنية وطنية.
ثالثًا- استراتيجية حكومية متكاملة: تشمل الجغرافيا السياسية للمعلومات جميع جوانب الاقتصاد والمجتمع والدولة، وهو ما يتطلب التنسيق والتعاون غير المسبوق في مختلف المجالات وبين كافة الأجهزة.
رابعًا- التنسيق مع القطاع الخاص: يقف القطاع الخاص على الخطوط الأمامية لجغرافيا المعلومات. ولذا، لا بد من تفعيل الشراكة بينه وبين القطاع العام، لخلق الحوافز لتطوير التكنولوجيا، وضبط قواعد المنافسة بشكلٍ صحيح. وفي الوقت ذاته، يتعين على شركات التكنولوجيا الأمريكية أن تتفهم أهمية دورها في حماية الأمن القومي.
متطلبات أساسية
لا بد أن تقترن الاستراتيجية الأمريكية بجملةٍ من السياسات التي أجملها الكاتبان على النحو التالي:
أولًا- تمرير تشريعات لأمن البيانات: لا تتوافر الآليات اللازمة لحماية بيانات المستهلكين الأمريكيين بما في ذلك الآليات القانونية. ولذا، يجب على صناع السياسة في الولايات المتحدة إقرار قانونٍ وطني يحمي بيانات المستخدمين. فعلى الرغم من تناقض اللائحة العامة لحماية البيانات في أوروبا (GDPR) مع القيم الأمريكية، إلا أنها كانت فعالة في دفع استثمارات الشركات صوب حماية البيانات.
ثانيًا- تعزيز القدرة التنافسية: على الولايات المتحدة خلق الحوافز الضرورية لجذب المواهب، وتحفيز الابتكار في التقنيات التي تعتمد على البيانات، والإسراع بنشر البنية التحتية للجيل الخامس. ناهيك عن تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص في إطار قوانين تحمي أمن وخصوصية البيانات الوطنية. كما يتعين تشجيع الشراكة بين الشركات المدنية والمؤسسات الأكاديمية لإحراز تقدم في مبادرات الذكاء الاصطناعي، بجانب رعاية الإبداع والابتكار.
ثالثًا- حماية المعلومات والبنية التحتية: يجب أن يقترن تعزيز القدرة التنافسية للولايات المتحدة في التقنيات التي تعتمد على البيانات بحماية الشركات من الهجمات الأجنبية. وهو ما يتطلب بدوره تشفيرًا قويًا لحماية المعلومات والبنية التحتية. إذ يجب على الحكومة الأمريكية تطوير حوافز حقيقية لتعزيز تطوير واستخدام منتجات ومنصات التشفير للسماح للأفراد والمنظمات بحماية بياناتهم.
رابعًا- الحد من الملكية الأجنبية: خلال العقد الماضي، استهدفت الصين بشكل منهجي الاستثمار في الشركات التي تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي. وفي المقابل، زاد الكونجرس من القيود على الملكية الأجنبية ومشاركتها في القطاعات الغنية بالبيانات. ولذا، لا بد من دعم شركات التكنولوجيا الأمريكية التي لا يوجد لديها تطبيقات تجارية.
خامسًا- تعزيز العمليات الدفاعية الاستباقية: يجب على الولايات المتحدة تطوير دفاعاتها السيبرانية، بحيث تتضمن تهديد الشبكات المعادية، على نحوٍ يتسق مع القيم الأمريكية والقانون الدولي. مع التركيز على تعطيل القدرات التقنية وأنظمة تكنولوجيا المعلومات بدلًا من الاعتماد على الدعاية المضادة.
سادسًا- الردع: يتعين على الولايات المتحدة الإعلان صراحة عن تداعيات الهجمات الإعلامية ضد الدول الديمقراطية، وما يصاحبها من مخاطر كبرى، ستسفر عن سيطرة الدول غير الديمقراطية على المعلومات، وهو ما يتطلب فهم تبعاته ودينامياته.
وختامًا، أسفرت التطورات التكنولوجية عن حقبةٍ جديدة من الجغرافيا السياسية للمعلومات، تغيرت على إثرها تفاعلات الدول، ومصالحها الوطنية، وأولوياتها الاستراتيجية. ولذا، يجب على الولايات المتحدة والدول الديمقراطية المماثلة تبني استراتيجية معلومات وطنية، وتطوير قدرتها على إنتاج المعلومات وصقلها وحمايتها، والدفاع عنها ضد التخريب والتلاعب، ولكن مع حماية المؤسسات والحقوق والقيم الديمقراطية من ناحية، وتجنب إغراءات الحمائية والاحتكار من ناحيةٍ أخرى.
المصدر:
Eric Rosenbach & Katherine Mansted, “The Geopolitics of Information”, Belfer Center for Science and International Affairs, Harvard Kennedy School, May 2019.