تشهد فنزويلا منذ 23 يناير الماضي، أزمة سياسية حادة عقب إعلان رئيس الجمعية الوطنية "خوان جوايدو" نفسه رئيسًا انتقاليًّا، واعتراف الولايات المتحدة به بالإضافة إلى ما يقرب من خمسين دولة. وفي المقابل، فإن الرئيس الحالي "نيكولاس مادورو"، حظي بتأييد كل من روسيا والصين وكوبا والمكسيك وبوليفيا وتركيا وإيران. وكان لهذا الصراع الداخلي والانقسام الدولي انعكاساته الواضحة على الأوضاع الإنسانية في فنزويلا، والتي فاقمها استغلال الأطراف الداخلية والخارجية لورقة المساعدات الإنسانية للتأثير على مجريات الأحداث هناك، كما بات دخول الأغذية والأدوية إلى فنزويلا بمثابة اختبار حقيقي للقوة بين المعارضة والولايات المتحدة من جانب، والحكومة وروسيا من جانب آخر.
أبعاد الأزمة الإنسانية:
أدت التطورات السياسية المتلاحقة في فنزويلا إلى تفاقم الأزمة الإنسانية، والتي أفضت إلى فرار خمسة آلاف شخص إلى خارج البلاد يوميًّا، إضافة إلى وجود أكثر من 3.4 ملايين شخص يعيشون كلاجئين أو مهاجرين في دول مجاورة، وفقًا لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في 29 مارس الماضي. وكشف التقرير أيضًا عن حاجة 24٪ من سكان فنزويلا، أي 7 ملايين شخص، إلى مساعدات إنسانية، كما أظهر ازديادًا في سوء التغذية والأمراض في البلاد. واستنادًا إلى التقرير الأممي، فإن أبرز ملامح الأزمة الإنسانية تتضح فيما يلي:
1- تفاقم الفقر: حيث عانى أكثر من 94٪ من السكان من الفقر عام 2018، بينهم 60٪ يعيشون في حالة من الفقر المدقع.
2- سوء التغذية: يعاني نحو 3.7 ملايين شخص من سوء التغذية، منهم حوالي 22٪ من الأطفال دون سن الخامسة، وذلك نتيجة انخفاض استهلاك اللحوم والخضروات، وكذلك انخفاض استهلاك الحليب بنسبة 77٪ بين عامي 2014 و2017.
3- تدهور الأوضاع الصحية: معاودة ظهور بعض الأمراض التي كان قد تم القضاء عليها واستئصالها (مثل: الحصبة، والدفتيريا، والملاريا) مرة أخرى بمعدلات مخيفة، وهو ما يمكن أن يُعزَى للتدهور الشديد في نظام الرعاية الصحية؛ حيث غادر 22 ألف طبيب البلاد، كما تفتقر 75٪ من المستشفيات للأدوية الأساسية، علاوة على الانقطاع المستمر للكهرباء ونقص المياه الصالحة للشرب في حوالي 70 بالمائة من المستشفيات.
وتتباين تفسيرات المحللين والخبراء للأسباب الكامنة وراء الأزمة الإنسانية في فنزويلا، برغم امتلاكها أكبر احتياطي من النفط الخام في العالم، حيث يُرجعها البعض إلى الفساد السياسي وسياسات الحكومة التي أفضت إلى حدوث أزمة اقتصادية حادة في السنوات الأخيرة، تجلت ملامحها بشكل واضح في ارتفاع معدل التضخم إلى مستويات قياسية، وتراجع معدل النمو الاقتصادي بشكل حاد بسبب انخفاض أسعار النفط. وفي المقابل، يرى آخرون أن السبب الرئيس للأزمة يكمن في العقوبات الاقتصادية التي تفرضها الولايات المتحدة على فنزويلا، والتي فاقمت من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها البلاد.
مواقف متباينة:
لم تَسْلَم المساعدات الإنسانية لفنزويلا من الاستقطاب السياسي بين الأطراف الداخلية والخارجية المنخرطة في الأزمة. وبصفة عامة، يمكن تصنيف مواقف تلك الأطراف من المساعدات الإنسانية إلى مجموعات ثلاث، تختلف توجهات كل منها نحو مسألة المساعدات وجدواها، كما تتباين رؤاهم بشأن الأهداف الكامنة خلف تقديمها أو منعها، وذلك على النحو التالي:
1- المعارضة والولايات المتحدة الأمريكية: عملت المعارضة وزعيمها "خوان جوايدو" على استغلال المساعدات الإنسانية كوسيلة لإثارة غضب الفنزويليين ضد الحكومة، وطالبتهم بالنزول إلى الشارع لمواصلة الضغط على الرئيس "مادورو" للسماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى البلاد. ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل تطورت تصريحات "جوايدو" إلى عدم استبعاد احتمال السماح بتدخل أجنبي في البلاد، حيث أكد أنه سيقوم بكل ما هو ضروري لإنقاذ أرواح المواطنين.
ومن وجهة نظر المعارضة، فإن هذه المساعدات تُمثل فرصة لتحرير الشعب الفنزويلي من قيود حكومة "مادورو"، ويمكن أن تُسهم في تحسين ظروفه المعيشية بالغة الصعوبة. ويرى بعض زعماء المعارضة أن المساعدات الأمريكية ستسهم في تغيير هذه الصفحة من تاريخ فنزويلا. وفي هذا السياق، صرح "ليستر توليدو"، الممثل الأعلى لجوايدو، خلال مؤتمر صحفي تعليقًا على إرسال واشنطن مساعدات إلى الحدود الكولومبية مع فنزويلا: "هذه الطائرات لا تجلب الغذاء والدواء فحسب، بل تجلب الأمل كذلك".
وبالنسبة للولايات المتحدة، فقد قامت بإرسال مساعدات إنسانية على الحدود الكولومبية والبرازيلية مع فنزويلا في 23 فبراير الماضي، غير أن الجيش منع دخولها، كما طالبت مجلس الأمن الدولي في فبراير الماضي بتبني قرار يدعو إلى إجراء انتخابات رئاسية جديدة في فنزويلا وتوصيل المساعدات الإنسانية للمحتاجين هناك دون أي عوائق، غير أن هذا القرار قوبل باستخدام الفيتو من جانب روسيا والصين. مما دفعها لطلب عقد اجتماع آخر لمجلس الأمن الدولي حول الأزمة الإنسانية في فنزويلا، ومن المرتقب أن يُعقد في العاشر من شهر أبريل الجاري.
وفي حقيقة الأمر، فإن استخدام واشنطن ورقة المساعدات الإنسانية إنما يأتي ضمن استراتيجية إدارة الرئيس "دونالد ترامب" الهادفة إلى حشد الشعب الفنزويلي في مواجهة الجيش والحكومة، في ظل تعهداتها بتقديم مساعدات لفنزويلا بقيمة 200 مليون دولار، وذلك لإظهار أن المعارضة هي القادرة على حل أزمات الشعب. وتعول واشنطن على أنه في حال استمرت الأزمة الإنسانية في التفاقم، فمن المرجح أن تقع مواجهات بين الجيش والشعب الراغب في الحصول على المساعدات. كما تحاول واشنطن من خلال تقديم المساعدات، استمالة قوات الجيش للوقوف بجانب المواطنين الفنزويليين، على نحو قد يُفضي، في نهاية المطاف، إلى وقوفهم في مواجهة نظام "مادورو".
2- الحكومة وروسيا: تمحور موقف الحكومة الفنزويلية من المساعدات الإنسانية، حول إنكار وجود أزمة إنسانية من الأساس، حيث صرح "مادورو" بأن الفنزويليين "ليسوا متسولين"، وأنه لن يسمح بإهانة شعبه. وفي السياق ذاته، صرح وزير خارجيتها "خورخي آرياسا" بأن ما تشهده فنزويلا حاليًّا هو "فرض حصار على اقتصادها".ورفضت الحكومة السماح بدخول مساعدات إنسانية أمريكية للبلاد، وأصدر "مادورو" أوامر للجيش بمنع دخول المساعدات وإغلاق الحدود مع البرازيل وكولومبيا، مستخدمًا في ذلك الغاز المسيل للدموع والطلقات المطاطية، مما أسفر عن سقوط عدد من القتلى والمصابين.
وترفض السلطات في كراكاس تسييس موضوع إيصال المساعدات الإنسانية للفنزويليين، وترى أنها ذريعة أمريكية لإيجاد مبرر للتدخل في البلاد والإطاحة بالحكومة الاشتراكية، ووصف "مادورو" المساعدات بأنها "غطاء لغزو أمريكي مرتقب لفنزويلا"، و"مسرحية سياسية". وفي هذا الإطار، طالب الرئيس الفنزويلي، الولايات المتحدة برفع العقوبات المفروضة على بلاده، ودعا لندن إلى إعادة نحو 80 طنًّا من احتياطات فنزويلا من الذهب المودعة في بنك إنجلترا، عوضًا عن إرسال المساعدات الإنسانية لبلاده.
أما روسيا، فرفضت، بشكل قاطع، تسييس موضوع إيصال المساعدات الإنسانية إلى فنزويلا، وطالبت بأن تتم عملية تقديم المساعدات بما يتوافق مع مبادئ القانون الدولي وعبر مكتب الأمم المتحدة في كاراكاس، وشددت -في الوقت ذاته- على ضرورة احترام سيادة فنزويلا وحدودها، ورفض أي تدخل في شئونها الداخلية. وتؤكد موسكو أن الحل الأمثل لتخفيف معاناة الشعب الفنزويلي يكمن في رفع واشنطن العقوبات الاقتصادية التي فرضتها على فنزويلا، متهمة الولايات المتحدة وبريطانيا بالاستيلاء على حوالي 30 مليار دولار من أصول فنزويلا البنكية والنفطية، كما دعت موسكو إلى الإفراج عن 11 مليار دولار من حسابات فنزويلا، تم تجميدها في البنوك الأمريكية. وتعتقد روسيا أن الهدف الوحيد لواشنطن كان ولا يزال تغيير النظام الحاكم في فنزويلا، وليس حل المشكلات التي تعاني منها البلاد.
3- الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الدولية: أعربت الأمم المتحدة عن استعدادها لإرسال مساعدات عاجلة إلى فنزويلا شريطة الحصول على موافقة كراكاس، وقالت على لسان المتحدث باسمها "ستيفان دوغاريك": "المساعدة الإنسانية يجب ألا تستخدم إطلاقًا كأداة سياسية". كما حملت المفوضة العليا في الأمم المتحدة لحقوق الإنسان "العقوبات الدولية"، المسئولية عن تفاقم الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في فنزويلا، إلى جانب انتهاك الحقوق السياسية والمدنية للمواطنين.
وفي الوقت نفسه، أكدت العديد من منظمات الإغاثة الدولية ضرورة تجنب تسييس المساعدات الإنسانية، بما يضمن وصولها لملايين الفنزويليين الذين يحتاجون إليها، حتى لا تفاقم هذه المساعدات من حالة عدم الاستقرار التي تشهدها البلاد. وقد أعلنت منظمة الصليب الأحمر الدولية في 30 مارس الماضي عن توصلها إلى اتفاق لإرسال شحنات مساعدات للمساهمة في التخفيف من أزمة نقص الأغذية والأدوية، لكنها شددت -في الوقت ذاته- على تمسكها بمعارضة التدخل العسكري في فنزويلا.
حدود التأثير:
في دولة تتنافس فيها مجموعتان على السلطة، يمكن أن تُغير المساعدات الإنسانية من هيكل توزيع القوة بين المجموعتين المتنافستين؛ فتقديم المساعدات يمكن أن يكون وسيلة مهمة لتعزيز المصداقية وكسب الشرعية والتأييد لدى السكان المحليين، وفي الوقت نفسه، يكون منع تدفق المساعدات وسيلة أخرى لاستعراض القوة أمام المجتمع الدولي، وإظهار قدرة بعض الأطراف المتنافسة على السيطرة على زمام الأمور في البلاد.
وبالنسبة لمادورو، الذي لا يزال في السلطة، ويحظى بدعم الجيش، فإن أي تحول في تأييد المواطنين لجوايدو جراء توزيع المساعدات، يمكن أن يُضعف موقفه سياسيًّا. ولا شك في أن "جوايدو" سوف يستفيد أكثر من المساعدات الإنسانية التي ستصل إلى الفنزويليين لأنه سيحاول الترويج لدخول المساعدات باعتباره بمثابة انتصار لحكومته المؤقتة.
وفي ظل تعقد الأزمة الفنزويلية، تظل المساعدات الإنسانية أداة يتم توظيفها في إطار استراتيجيات أوسع نطاقًا تتبناها أطراف الصراع من أجل حسمه لصالحها. غير أن تأثير المساعدات كأداة حاسمة بمفردها لمستقبل الأزمة الفنزويلية يظل محدودًا، وذلك لاعتماد القوى الدولية المنخرطة في الأزمة على أدوات أخرى ربما تكون أكثر قدرة على حسم الصراع الدائر في البلاد، ويأتي في مقدمتها الأداة الاقتصادية من خلال فرض الولايات المتحدة وبعض دول الاتحاد الأوروبي عقوبات اقتصادية على فنزويلا. إلى جانب الأداة العسكرية من خلال التلويح الأمريكي بالتدخل العسكري في فنزويلا، وكذلك إرسال موسكو طائرتين عسكريتين إلى كاراكاس في 23 مارس الماضي، على متنهما ما يقرب من مائة خبير عسكري وشحنة مساعدات تفوق 35 طنًّا من المعدات الطبية والإغاثية. كما قامت الصين في مطلع شهر أبريل الجاري بإرسال عدد من جنود جيش التحرير الشعبي إلى فنزويلا.
وبين رغبة الولايات المتحدة والمعارضة في إظهار قدرتها على توفير المساعدات للفنزويليين، وتمسك روسيا والحكومة بمنع تدفقها، لإثباث عدم الحاجة إلى الاعتماد على الخارج في توفير احتياجات الشعب الفنزويلي، يقع المواطنون واللاجئون ضحايا الصراع بين القوى الداخلية والدولية المتنازعة في فنزويلا.