يكتسب الاجتماع العسكري الثلاثي الذي ضم رئيسى الأركان الإيراني والعراقي مع وزير الدفاع السوري بالعاصمة السورية دمشق في 18 مارس 2019، أهميته الأساسية من توقيته. إذ أنه يأتي في خضم تحولات إقليمية نوعية، ربما يكون لها دور في تحديد المسارات المحتملة للصراع سواء في سوريا أو عليها بين القوى الإقليمية والدولية المعنية بالتطورات التي تجري فيها. وهنا، لا يمكن فصل هذا الاجتماع عن مجمل المعطيات التي فرضتها التطورات التي سبقته وتوازت معه، على غرار سعى بعض الأطراف للحصول على مكاسب استراتيجية بعد القضاء على آخر جيب لتنظيم "داعش" في الباغوز، ومحاولات إيران إعادة التموضع عسكريًا داخل سوريا استعدادًا للانسحاب العسكري الأمريكي، والتنسيق المتواصل بين روسيا وإسرائيل.
ملفات متشابكة:
كان لافتًا أن الاجتماع الثلاثي، الذي ضم رئيس الأركان الإيراني محمد باقري ونظيره العراقي عثمان الغانمي ووزير الدفاع السوري علي أيوب، جاء بعد فترة وجيزة من الزيارتين اللتين قاما بهما الرئيس السوري بشار الأسد إلى طهران في 25 فبراير الفائت، والرئيس الإيراني حسن روحاني إلى العراق في 11 مارس الجاري. وهنا، يمكن القول إن الاجتماع العسكري جاء، في الغالب، تتويجًا للتفاهمات الأمنية التي توصلت إليها الدول الثلاث خلال الزيارتين، خاصة في ضوء التوافق الظاهر بينها حول بعض الملفات، على غرار فتح المعابر الحدودية، تدريجيًا، بين العراق وسوريا، والتدخل لمنع أكراد سوريا من الحصول على مزيد من المكاسب الاستراتيجية في ضوء الدور الذي قاموا به في محاربة "داعش"، وتوجيه رسائل مضادة لروسيا، بسبب حرصها على مواصلة التنسيق مع إسرائيل في سوريا.
وبعبارة أخرى، ربما يمكن القول إن الدول الثلاث سعت عبر الاجتماع العسكري الأخير إلى تحقيق أهداف رئيسية عديدة يتمثل أبرزها في:
1- الضغط على الأكراد: حظى هذا الملف تحديدًا بأهمية خاصة من جانب الدول الثلاث. إذ أن النظام السوري يسعى إلى استعادة سيطرته على المناطق الكردية، بعد تغير توازنات القوى لصالحه، في إطار استعداده للانسحاب العسكري الأمريكي من سوريا. وهنا، فإن النظام يحاول استغلال الضغوط التي يتعرض لها الأكراد، سواء بسبب المعطيات التي يمكن أن يفرضها الانسحاب الأمريكي أو بسبب التهديدات التركية المستمرة بالتدخل عسكريًا في تلك المناطق.
وقد انعكست هذه الرؤية في التصريحات التي أدلى بها وزير الدفاع السوري علي أيوب عقب انتهاء الاجتماع، والتي قام فيها بتخيير الأكراد بين العودة إلى المفاوضات أو الاحتكام للآلة العسكرية لتسوية هذا الملف. ويبدو أن قبول النظام فتح قنوات تواصل مع الأكراد في الفترة السابقة، لا سيما في مرحلة ما بعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في 19 ديسمبر 2018، سحب القوات الأمريكية من سوريا، كان لاستشراف مدى إمكانية الوصول إلى توافق بين الطرفين وإقناع الأكراد بإمكانية تسوية الأزمة بدون استخدام الخيار العسكري.
ومن دون شك، فإن هذا المسار يمكن أن يصب في صالح إيران والعراق، خاصة الأخيرة، التي تسعى إلى منع وصول ارتدادات ما يحدث في سوريا إلى أراضيها، لا سيما في ظل استمرار مُحفِّزات التوتر مع إقليم كردستان، منذ التدخل من أجل منع تحويل نتائج الاستفتاء على الانفصال، الذي أجرى في 25 سبتمبر 2017، إلى خطوات إجرائية على الأرض.
ويبدو أن هذه التفاهمات أيضًا لم تكن بعيدة عن المباحثات التي أجريت بين وزيرى الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف والتركي مولود تشاويش أوغلو على هامش اجتماع وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي باسطنبول في 22 مارس الجاري، باعتبار أن أنقرة إحدى الأطراف المعنية بالترتيبات السياسية والأمنية التي يجري العمل على صياغتها في مناطق الأكراد.
2- إشارات تحذير إلى موسكو: مع تغير توازنات القوى العسكري داخل سوريا لصالح النظام، الذي بدأ في توسيع نطاق سيطرته على الأرض، بدأت الخلافات "المكتومة" بين إيران وروسيا في الظهور من جديد، وهى الخلافات التي حرص الطرفان على احتواءها لتجنب تأثيراتها المحتملة على التنسيق السياسي والعسكري بين الطرفين في المراحل الأولى من الصراع.
وقد كان لافتًا في هذا السياق، أن الدول الثلاث حرصت على استبعاد روسيا من المشاركة في الاجتماع، رغم وجود صيغة تنظيمية تجمع الدول الأربع، في إطار مركز تبادل المعلومات الرباعي الذي تم تشكيله في سبتمبر 2015، لمتابعة تطورات الحرب ضد الإرهاب في سوريا تحديدًا، وهى الصيغة التي أطلق عليها "4+1"، باعتبار أن حزب الله اللبناني لم يكن بعيدًا عنها، في ظل انخراطه العسكري في الصراع السوري إلى جانب قوات الأسد.
ويبدو أن ذلك أثار قلقًا لدى موسكو، على نحو بدا جليًا في الزيارة التي قام بها وزير الدفاع سيرجي شويغو إلى دمشق في اليوم التالي لانعقاد الاجتماع، حيث التقى بالرئيس بشار الأسد. وقد لا تكون هناك صلة مباشرة بين التطورين، لكن الاحتمال الأكثر ترجيحًا هو أن روسيا اعتبرت أن اتجاه دمشق إلى رفع مستوى تنسيقها مع طهران، على نحو بدأت مؤشراته منذ زيارة الأسد إلى طهران، يمثل محاولة لتقليص دورها في توجيه مسارات التطورات الميدانية والسياسية في سوريا لصالح المحور الذي تقوده طهران.
ومن دون شك، فإن ذلك لا يعني أن تصاعد حدة الخلاف، وربما تحوله إلى صراع بين طهران وموسكو أصبح احتمالاً مرجحًا. فالطرفان ما زالا في حاجة إلى استمرار التنسيق بينهما، باعتبار أن الأدوار التي يقومان بها تبدو مُكمِّلة لبعضها البعض. لكن في الوقت نفسه، فإن المؤشرات توحي بأن سياسة احتواء الخلافات بين الطرفين لم تعد تتوافق مع المعطيات الجديدة التي فرضت نفسها على الأرض.
3- خيار المتوسط: رغم كل الضغوط التي تتعرض لها إيران من أجل التوقف عن محاولة استكمال الطريق الواصل بين طهران والمتوسط، إلا أنها ما زالت، على ما يبدو، مصرة على ذلك، بشكل سوف ينقل الصراع العسكري من صراع داخل سوريا إلى صراع على حدودها، خاصة أن الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل تعتبران ذلك خطًا أحمر، على نحو يعزز من احتمال تصعيد حدة التوتر العسكري بين الطرفين، الذي قد يتخطى الحدود التي حرص الطرفان على ضبطها في الفترة الماضية.
وقد بدت مؤشرات ذلك في اتفاق الأطراف الثلاثة على الاستعداد لفتح المعابر بين العراق وسوريا والتي تمثل محورًا رئيسيًا في الطريق من طهران إلى البحر المتوسط، حيث سيمثل معبر البوكمال-القائم، وفقًا لتقارير عديدة، المرحلة الأولى في هذا السياق.
وعلى ضوء ذلك، ربما يمكن القول في النهاية إن الاجتماع الثلاثي الأخير الذي عقد في سوريا يبدو أنه يؤشر إلى استعداد كل من إيران وسوريا والعراق لمرحلة جديدة من الصراع على سوريا، باعتبار أن المعطيات الجديدة التي تحاول الدول الثلاثة فرضها على الأرض لن تحظى بقبول من جانب معظم القوى الإقليمية والدولية المعنية بتطورات الصراع السوري إن لم يكن مجملها.