يتبلور اصطفاف جديد في سوريا من بعض الأطراف الإقليمية، لا سيما بعد انخراط العراق في عمق المشهد، وهو اصطفاف كان متوقعًا في ظل الدور الإيراني في العراق، وتحولات المشهد السورى بشكل عام في إطار التجاذبات القائمة في المرحلة الحالية، التي تتواكب مع المعركة الأخيرة ضد تنظيم "داعش" فى الباغوز شرقى الفرات. ويتوقع لهذا الاصطفاف أن يدفع باتجاه إعادة تشكل محاور التحالفات ذات الصلة بالقوى الدولية، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، خاصة أنه قد يتوافق مع مصالح روسيا، وهو ما تظهر انعكاساته في الموقف الأمريكي من قرار الانسحاب من سوريا الذي شهد خلال الأيام الماضية جدلاً حول مداه الزمني والقوة التي ستبقى في سوريا بعده. ويبدو أن هذه التطورات سوف تفرض تحديات أمام أطراف إقليمية أخرى، وتحديدًا تركيا، التي قد تعيد حساباتها في سوريا، وفقًا لما سوف تؤول إليه تداعيات هذا الاصطفاف.
وقد بدأت أولى إرهاصات هذا الاصطفاف مع انعقاد اجتماع ثلاثي للقيادات العسكرية العراقية والإيرانية والسورية في دمشق، بمشاركة امير حاتمي وزير الدفاع الإيراني ونظيره السوري علي أيوب ورئيس الأركان العراقي عثمان الغانمى، في 18 مارس الجاري، حيث انتهى إلى تأكيد الأطراف الثلاثة على ضرورة استكمال بسط الجيش السوري سيطرته على كامل الأراضي السورية، وتحديدًا إدلب وشرق الفرات، وفتح معبر القائم– البوكمال المشترك على الحدود العراقية- السورية الذي كان مغلقًا، على نحو يكشف أن تلك الأطراف حرصت من خلاله على توجيه رسائل مختلفة إلى قوى عديدة منها الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا وميليشيا "قوات سوريا الديمقراطية".
تداعيات محتملة:
ربما يفرض هذا الاصطاف الجديد تداعيات عديدة. إذ اعتبرت اتجاهات مختلفة أن إيران تسعى من خلاله إلى تعزيز نفوذها في سوريا عبر تفعيل مشروعها الخاص بمرحلة ما بعد الانتصار على "داعش" ومحاولة تقويض أى نفوذ موازي لقوى محلية أو إقليمية وربما دولية، وبالتالى الاستعداد لخوض معارك في مواجهة تلك القوى والأطراف يحتمل أن يكون بعضها عسكريًا، خاصة في مواجهة "قوات سوريا الديمقراطية" التي خاضت المعارك حتى النهاية ضد "داعش" بدعم أمريكي، وقد يكون بعضها الآخر دبلوماسيًا في مواجهة تركيا التي لا تزال تحتفظ بالسيطرة على الموقف في إدلب وفقًا لاتفاق سوتشي، على الرغم من أنها لم تلب استحقاقاته.
مواقف متباينة:
وقد أثار هذا الاصطفاف الجديد ردود فعل مباشرة من جانب الأطراف المعنية بتطورات الصراع السوري والمنخرطة فيه. إذ لا يمكن الفصل بين بوادر تشكل هذا الاصطفاف وبين التصعيد الأمريكي-العراقي الأخير، والذي انعكس في تأكيد بعض المسئولين الأمريكيين على أن القوات الأمريكية ستراقب ايران من العراق، وما توازى معه من حرص بعض قادة الميليشيات الموالية لإيران على توجيه تهديدات لواشنطن باستهداف قواتها في حال بقائها هناك.
كما تحول المشهد برمته إلى تصعيد سياسي آخر في البرلمان العراقي لحسم الموقف من بقاء القوات الأمريكية، توافق مع ظهور تقارير أمريكية تشير إلى أن هناك اتجاهًا أمريكيًا لفرض عقوبات على ميليشيا "الحشد الشعبي".
ومن المتصور أن روسيا تحاول الاستفادة من الاصطفاف الجديد بعد انضمام العراق إلى حلفائها في سوريا على أكثر من مستوى، حيث تكسب حليفًا جديدًا لها هو العراق بشكل عملي في الساحة السورية، على نحو يتوافق مع رؤيتها لمستقبل الترتيبات السياسية والأمنية في سوريا. وقد أشارت تقارير عديدة إلى أن تلك الخطوة الأخيرة قد تعزز فكرة انتقال بعض حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط إلى المحور الروسي.
وفي واقع الأمر، فإن هذا المكسب كانت له إرهاصات عديدة منها، على سبيل المثال، أن الزيارة الأولى لوزير الخارجية العراقي محمد علي الحكيم كانت إلى موسكو. كذلك أظهرت تقارير التسلح الحديثة الصادرة الشهر الجاري، ومنها تقرير لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام SIPRI، أن واردات العراق من الأسلحة الروسية زادت بمعدلات غير مسبوقة خلال الأعوام الأربعة الأخيرة.
لكن روسيا قد تواجه فى الوقت نفسه ضغوطًا من جانب تركيا، التي لا تدعم تشكل هذا التحالف، على نحو قد يؤثر على التفاهمات التي توصلت إليها الدولتان، خاصة بعد الزيارة التي قام بها وزير الدفاع الروسي سيرجى شويغو إلى سوريا ولقائه الرئيس بشار الأسد في اليوم التالي للاجتماع الثلاثي.
ويبدو أن هذه الضغوط المتوقعة من جانب تركيا تعود إلى أنها ما زالت تواجه مأزقًا حرجًا في إدلب، على ضوء إصرار النظام السوري على المضى قدمًا في مواجهة عسكرية من أجل استعادتها. وقد كان لافتًا أن الاطراف الثلاثة حرصت بعد الاجتماع على التلميح إلى أن إدلب كانت واحدة من أربع مناطق خفض التصعيد ثلاثة منها عادت إلى سيطرة النظام الذي يسعى إلى ضم الرابعة، وهو ما قد يفرض أزمة أخرى بين روسيا وتركيا التي لا تزال مصرة على مواصلة العمل باتفاق سوتشي رغم عدم التزامها باستحقاقاته.
لكن تركيا، على الجانب الآخر، سوف تسعى إلى استغلال تحركات العراق وإيران وسوريا في شرق الفرات، خاصة في مواجهة ميليشيا "قسد"، بما يعني أنها قد تتجه إلى تبني سياسة مقايضة، لا سيما وأن روسيا ترى هى الأخرى أن وضع إدلب لا يمكن استمراره لفترة طويلة .
وهنا، فإن ميليشيا "قسد" سوف تواجه أزمة أخرى، خاصة أن الاصطفاف الجديد يأتي بعد أن فشلت المفاوضات التي أجرتها مع النظام، على نحو أدى إلى تصاعد حدة التوتر بين الطرفين، وقد بدا ذلك جليًا في رد الإدارة الذاتية الكردية على تصريحات وزير الدفاع السوري علي أيوب التي هدد فيها بـ"التعامل مع قسد"، حيث أعلنت التزامها بخيار الحل السياسي، لكنها في الوقت نفسه أكدت "عدم تهاونها في الدفاع عن الحقوق المكتسبة في شمال وشرق سوريا".
وفي النهاية، يمكن القول إن تشكل تحالف جديد يضع العراق في قلب المشهد السوري، وهو ما سوف يفرض تداعيات عديدة في المستقبل، خاصة في ظل المساعي التي تبذلها العديد من الأطراف المعنية لإعادة صياغة الترتيبات السياسية والأمنية في سوريا في مرحلة ما بعد "داعش".