تكشف متابعة العملية الممتدة لتشكيل الحكومة اللبنانية التي وصلت آخر مراحلها بإعلان الائتلاف الوزاري الجديد في 31 يناير 2019، عن مدى خصوصية الحالة اللبنانية، إذ باتت تستغرق عمليات تشكيل الحكومات فترات ممتدة نتيجة تعقيدات المشهد السياسي اللبناني، والتفاوض متعدد المستويات بين الفرقاء السياسيين، وهو ما يثير تساؤلات حول كيفية إدارة الدولة اللبنانية في ظل غياب الحكومة لفترة طويلة، وكيفية عمل مؤسسات الدولة وتصريف شئون الحياة اليومية.
تعثّر تشكيل الحكومات:
على الرغم من أنه تم تكليف رئيس تيار المستقبل "سعد الحريري" في مايو 2018، إلا أنه لم يتمكن من تشكيل الحكومة إلا في 31 يناير 2019 بعد مفاوضات شاقة، وهو ما دفع "الحريري" إلى وصفها "بمكعب روبيك"، إذ يجب أن تتأنّى في كل نقلةٍ وإلا ستعود إلى نقطة البداية من جديد. وبصفةٍ عامةٍ يعود طول مدة تشكيل الحكومة اللبنانية إلى ما يلي:
1- مهلة التشكيل: لا يُشير الدستور اللبناني إلى مدة المهلة التي يجب أن تمنح لرئيس الحكومة المكلف لإنجاز مهمته، ويرى بعض المحللين أنها ثغرة في الدستور يجب معالجتها عبر تعديل النص الدستوري، وربط مهمة التكليف بمهلة معينة يتم إعفاء رئيس الحكومة المكلف بعدها من مهمته. بيد أن آخرين يرون أن عدم طرحها جاء بسبب عدم رغبة المشرّع في تشجيع القوى الراغبة في المشاركة بالحكومة على طرح مطالب مبالغ بها في محاولة لابتزاز رئيس الحكومة المكلف عبر هذه المهلة من أجل الحصول على ما تُطالب به.
2- ضغوط لإلغاء التكليف: حاولت دوائر مقربة من رئيس الجمهورية البحث عن مخارج لنزع التفويض النيابي من "الحريري" بعد أن طالت مدة تشكيل الحكومة، حيث أعلن نواب مقربون من رئيس الجمهورية عن رغبتهم في التراجع عن تسمية الرئيس المكلف، كما سرب بعضهم أخبارًا بأن رئيس الجمهورية يقوم بتحضير رسالة إلى مجلس النواب من أجل إعادة النظر في عملية التكليف، وهو ما أدى إلى اجتماع رؤساء الحكومات السابقين (فؤاد السنيورة، نجيب ميقاتي، تمام سلام) لإعلان دعمهم لصلاحيات رئيس الحكومة.
3- تقاسم المقاعد الحكومية: تمّت عرقلة تشكيل الحكومة اللبنانية أكثر من مرة من فريق رئيس الجمهورية الذي كان يعارض إعطاء حزب القوات اللبنانية خمسة مقاعد وزارية، كما عارض إعطاءه 4 مقاعد وزارية من ضمنها حقيبة العدل، واستغرق الأمر مفاوضات قدرها 3 أشهر لحل هذه المشكلة، كما قام "حزب الله" بالامتناع في اللحظة الأخيرة عن تقديم أسماء وزرائه الست إلا بعد إعطاء مقعد لحلفائه من "تحالف 8 مارس"، وهو ما أدى للدخول في مفاوضات لمدة شهرين من أجل حل هذه الأزمة، ولكن تبيّن فيما بعد أنها كانت محاولة لمنع فريق رئيس الجمهورية من الحصول على الثلث المعطل داخل الحكومة (أي 11 وزيرًا من أصل 30).
إدارة الدولة دون حكومة:
استمرت لبنان بدون حكومة مكتملة الصلاحيات لمدة تزيد على 240 يومًا، وعادة ما تستغرق مدة تشكيل الحكومة وقتًا طويلًا، بيد أن الحياة اليومية في لبنان تستمر دون وجود مشكلات، وهو ما يرجع إلى ما يلي:
1- حكومة تصريف الأعمال: يسمح الدستور اللبناني للحكومة المستقيلة بالقيام بتصريف الأعمال إلى حين تشكيل الحكومة الجديدة، ويقتصر مفهوم تصريف الأعمال على حدود ضيقة لا تتعدى تمرير الأمور اليومية العادية من دون التوسع في الأمور التصرفية (أي اتخاذ قرارات جديدة تُنشئ حقوقًا جديدة) إلا في ظل حالات طارئة واستثنائية.
ولكن مع امتداد مدة "حكومة تصريف الأعمال" وتخطيها للفترة المعقولة، ظهرت آراء داخلية تدعو لتوسيع هذا المفهوم الضيق، خصوصًا مع ظهور ملفات ملحة تحتاج إلى اتخاذ قرارات وإلى اجتماع مجلس الوزراء من جديد، كمتابعة المبادرة الروسية لإعادة النازحين السوريين من لبنان التي أعلن عنها الجانب الروسي في يوليو 2018، ومعالجة أزمة قروض الإسكان، والتفاوض مع المنظمات الدولية والدول المانحة لقروض مؤتمر "سيدر".
2- تشريع "الضرورة": وفقًا للدستور اللبناني فإن البرلمان يعتبر في حالة "عقد استثنائي" بمجرد استقالة الحكومة، وللحفاظ على التوازنات الداخلية فقد استقر الرأي على أنه يحق لمجلس النواب عقد جلسات تشريعية في ظل الحكومة المستقيلة لتمرير القوانين الملحة، وهو ما يطلق عليه "تشريع الضرورة". فعلى سبيل المثال، انعقد مجلس النواب اللبناني في سبتمبر 2018 على مدار يومين من أجل إقرار القوانين المقرة في اللجان النيابية المشتركة، وبعد إقرار القوانين المتعلقة بمؤتمر "سيدر" انسحب نواب المستقبل والقوات اللبنانية دون مناقشة باقي البنود الباقية التي يُقدر عددها بحوالي 26 بندًا، حيث صرح "الحريري": "إنني هنا من أجل سيدر، وإذا انتهى النقاش حول سيدر لن أكون هنا".
3- "تعويم الحكومة المستقيلة": يقصد بتعويم الحكومة المستقيلة في لبنان عقد اجتماعات جديدة لمجلس الوزراء، والتوسع في مفهوم تصريف الأعمال، وقد تم طرح هذا المقترح من قبل حركة "أمل" والقوات اللبنانية وتيار المستقبل، فيما عارضها التيار الوطني الحر، وفريق رئيس الجمهورية، وجاء هذا المقترح لحل معضلة موازنة عام 2019 في ظل غياب الحكومة، ومن ثم طالب البعض بتكرار سيناريو 1969 عندما قامت حكومة تصريف الأعمال حينها برئاسة "رشيد كرامي" بإعداد الموازنة وإرسالها إلى مجلس النواب لإقرارها. ويرى بعض المحللين أن تلويح "الحريري" باللجوء إلى حكومة تصريف الأعمال قد ساهم في تشكيل الحكومة.
4- اجتماعات الطوارئ: يتم اللجوء إلى آليات مختلفة في لبنان من أجل تسيير الأمور المستجدة في ظل غياب حكومة مكتملة الصلاحيات، كانعقاد مجلس الدفاع الأعلى المؤلف من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ووزيري الدفاع والداخلية وقائد الجيش للتباحث بشأن التهديدات الأمنية الإسرائيلية، وإعطاء التوجيهات حول كيفية التصدي لعملية "درع الشمال" التي أطلقتها إسرائيل لتدمير أنفاق "حزب الله" في ديسمبر 2018.
كما عقدت عدة اجتماعات دورية بين رئيس الحكومة ووزير المالية وحاكم مصرف لبنان لمتابعة الشئون المالية والنقدية، بالإضافة إلى الاجتماع الوزاري الموسع الذي ضم عدة وزراء مع كبار الموظفين في الإدارة اللبنانية لبحث تداعيات العاصفة نورما.
تحديات الحكومة الجديدة:
يُطلق على الحكومة الجديدة اسم "حكومة إلى العمل" في ظل وجود العديد من التحديات التي تحتاج إلى البدء في معالجتها بشكل عاجل، حيث رأى رئيس الحكومة اللبنانية "سعد الحريري" أن الوضع الاقتصادي في لبنان يحتاج إلى إجراءات عاجلة، وأن هذه هي الفرصة الأخيرة لتجنب الانهيار، وقام وزراء التيار الوطني بوضع استقالاتهم المسبقة في عهدة رئيس الجمهورية لعدم إحراجه في حال عدم تمكنهم من إحداث فارق في ظل التحديات المتعددة التي تُحيط بالحكومة الجديدة، والتي يمكن الإشارة إلى أبرزها فيما يلي:
1- تنفيذ تعهدات "سيدر": تحتاج الحكومة الجديدة إلى تنفيذ التزاماتها الاقتصادية والمالية التي قدمتها في مؤتمر "سيدر" في أبريل 2018، حيث تحتاج الحكومة إلى تخفيض العجز بمعدل 1٪ سنويًّا لفترة تمتد إلى 5 سنوات من خلال زيادة الإيرادات وتقليص الإنفاق.
بالإضافة إلى القيام بإصلاحات جذرية في قطاع الكهرباء الذي يكلف الدولة اللبنانية سنويًّا ٢ مليار دولار. وفي هذا السياق، صرّح المدير الإقليمي في البنك الدولي "سارج كومار" في فبراير 2019 بـ"أن الكهرباء هي المجال الذي نريد التحرك فيه سريعًا جدًّا، والمشاكل في هذا القطاع أبعدت المستثمرين"، بالإضافة إلى ضرورة تطوير قطاع الاتصالات ومعالجة النفايات، وهي المشروعات التي خصص لها "سيدر" ميزانية خاصة، وقد أصدرت "شركة ماكينزي العالمية" في يناير 2019 تقريرها الخاص عن لبنان، والذي تضمن خارطة طريق لتنفيذ معظم بنود سيدر، وستستعين الحكومة اللبنانية به.
2- العلاقة مع سوريا: تبقى إدارة العلاقة مع سوريا أحد أكبر التحديات التي ستواجهها هذه الحكومة، حيث ظهرت الخلافات سريعًا حول هذا الموضوع خلال جلسات وضع البيان الوزاري، حيث اعترض ممثلو حزب القوات اللبنانية على الدعوات التي أطلقها وزير الخارجية اللبنانية "جبران باسيل" لدعم عودة سوريا إلى الجامعة العربية، معتبرين أن المواقف التي تمثل الحكومة يجب أن تُناقش مسبقًا، وتحظى بالإجماع، بالإضافة إلى استحواذ قضية إعادة النازحين السوريين في لبنان على جزء كبير من النقاش، في ظل محاولة إيجاد حل وسط يتبنى المبادرة الروسية مع عدم التفاوض بشكل مباشر مع النظام السوري.
3- تهديدات "حزب الله": أكدت تصريحات الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون"، ورئيس الوزراء الإيطالي "جوزيبي كونتي"، فيما يتعلق بتشكيل الحكومة، على ضرورة الالتزام بسياسة النأي بالنفس اللبنانية. فيما ذكر المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية "روبرت بالادينو" أن واشنطن تشعر بالقلق لكون "حزب الله"، الذي تصنفه الولايات المتحدة منظمة إرهابية، سوف يستمر في تولي مناصب وزارية، وقد أجيز له تسمية وزير الصحة. كما شدد على ضرورة ألا توفر موارد هذه الوزارة وخدماتها دعمًا لحزب الله.
وفي المقابل، أشار "حسن نصر الله" (الأمين العام لحزب الله) إلى أن وزارة الصحة ستكون لكل اللبنانيين، وأعلن أنه مستعد لمساعدة الدولة اللبنانية من أجل تعزيز التعاون مع إيران، وتوفير الأدوية الإيرانية بأسعار مخفضة. فيما حذّر مساعد وزير الخزانة الأمريكية لشئون مكافحة تمويل الإرهاب "مارشال بيلينجسلي"، بعد إعلان تشكيل الحكومة، من خطورة خرق العقوبات الأمريكية. فيما رأى رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" أن هذه الحكومة هي حكومة إيران، حيث إن "حزب الله" يُسيطر عليها، على حد تعبيره.
4- استعادة الثقة الدولية: تحتاج الحكومة الحالية إلى استعادة الثقة الدولية في لبنان، فلم يكن تشكيل الحكومة اللبنانية كافيًا من أجل تبديد شكوك الجهات الدولية حول قدرة لبنان على تنفيذ وعودها والتزاماتها. فعلى سبيل المثال، قامت وكالة "موديز" في يناير 2019 بتخفيض تصنيف لبنان الائتماني (سندات الدين اللبنانية) إلى CAA1، وهو ما اعتبرته الوكالة تحذيرًا للبنان وإنذارًا حول المخاطر الكبيرة التي ترتبط بقضية سداد الديون. ويمكن القول إن هناك توجهًا لدى غالبية القوى السياسية في لبنان لاستعادة الثقة الدولية، فعندما ظهرت احتمالات بقيام الدول المانحة في "سيدر" بمنح القروض لدول أخرى بعد تأخر تشكيل الحكومة، قام السياسيون اللبنانيون من كافة الطوائف بتنحية خلافاتهم الداخلية، وتقديم تنازلات متبادلة، من أجل تسريع عملية تشكيل الحكومة.
ختامًا، على الرغم من طول المدة التي استغرقها تشكيل الحكومة اللبنانية؛ إلا أن الحكومة الجديدة استطاعت أن تمثل غالبية الطوائف السياسية الموجودة على الساحة اللبنانية، وهو ما قد يؤدي إلى حدوث خلافات حول العديد من القضايا، بيد أنها -في الوقت نفسه- تضمن استمرار النموذج اللبناني القائم على الديمقراطية التوافقية، وتجنب لبنان مشكلات داخلية كثيرة بسبب عدم رضى فرقاء الداخل حول توزيع الأدوار ومبادئ الشراكة بينهم.
كما أن عملية تشكيل الحكومة الأخيرة نجحت في تكريس قواعد إضافية قد تُساعد في ثبات النظام اللبناني المنبثق عن اتفاق الطائف، حيث توصلت القوى السياسية إلى اتفاق حول ضرورة أن تكون الحكومة صورة مصغرة عن البرلمان، واعتماد معيار مقعد وزاري لكل أربعة نواب، واستبعاد فكرة حكومة الأكثرية، بالإضافة إلى استبعاد امتلاك فريق واحد للثلث المعطل داخل الحكومة، مع إرضاء الفريق الشيعي عبر إعطائه صلاحية التوقيع على معظم المراسيم عبر ممثله في وزارة المالية كي يضاف إلى توقيعي رئيسي الجمهورية والحكومة (ماروني وسني).